وصايا

وصايا

25/06/2014

من وصايا الإمام الباقر عليه السّلام


رسالةُ الإمام الباقر عليه السّلام إلى (سَعد الخَير)

اعرِف أشباهَ الأحبار والرُّهبان بِكتمان الكتابِ وتحريفه

ـــــ رواية الشّيخ الكُلَينيّ ـــــ

 

رسالة – وصيّة، من الإمام أبي جعفر، محمّد بن عليّ الباقر عليه السّلام إلى سَعد بن عبد المَلِك، المعروف بـ «سعد الخَير»، أوردَها ثقة الإسلام الكلينيّ في (الكافي)، وشرحَها كلٌّ من العلّامة المجلسي، والفقيه المازندراني في كتابَيهما (مرآة العقول)، و(شرح أصول الكافي)، ومنهما الشّروح المرفقة.

 

«.. كَتَبَ أَبُو جَعْفَرٍ عَلَيهِ السّلَام إِلَى سَعْدٍ الْخَيْرِ:

بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، أَمَّا بَعْدُ، فَإِنِّي أُوصِيكَ بِتَقْوَى الله، فَإِنَّ فِيهَا السَّلَامَةَ مِنَ التَّلَفِ والْغَنِيمَةَ فِي الْمُنْقَلَبِ؛ إِنَّ الله عَزَّ وجَلَّ يَقِي بِالتَّقْوَى عَنِ الْعَبْدِ مَا عَزَبَ (1) عَنْه عَقْلُه، ويُجْلِي بِالتَّقْوَى عَنْه عَمَاه وجَهْلَه. وبِالتَّقْوَى نَجَا نُوحٌ ومَنْ مَعَه فِي السَّفِينَةِ، وصَالِحٌ ومَنْ مَعَه مِنَ الصَّاعِقَةِ، وبِالتَّقْوَى فَازَ الصَّابِرُونَ ونَجَتْ تِلْكَ الْعُصَبُ (2) مِنَ الْمَهَالِكِ.

ولَهُمْ إِخْوَانٌ عَلَى تِلْكَ الطَّرِيقَةِ يَلْتَمِسُونَ تِلْكَ الْفَضِيلَةَ، نَبَذُوا طُغْيَانَهُمْ مِنَ الإِيرَادِ بِالشَّهَوَاتِ لِمَا بَلَغَهُمْ فِي الْكِتَابِ مِنَ الْمَثُلَاتِ. حَمِدُوا رَبَّهُمْ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ وهُوَ أَهْلُ الْحَمْدِ، وذَمُّوا أَنْفُسَهُمْ عَلَى مَا فَرَّطُوا وهُمْ أَهْلُ الذَّمِّ، وعَلِمُوا أَنَّ الله تَبَارَكَ وتَعَالَى، الْحَلِيمَ الْعَلِيمَ، إِنَّمَا غَضَبُه عَلَى مَنْ لَمْ يَقْبَلْ مِنْه رِضَاه، وإِنَّمَا يَمْنَعُ مَنْ لَمْ يَقْبَلْ مِنْه عَطَاه، وإِنَّمَا يُضِلُّ مَنْ لَمْ يَقْبَلْ مِنْه هُدَاه، ثُمَّ أَمْكَنَ أَهْلَ السَّيِّئَاتِ مِنَ التَّوْبَةِ بِتَبْدِيلِ الْحَسَنَاتِ: دَعَا عِبَادَه فِي الْكِتَابِ إِلَى ذَلِكَ بِصَوْتٍ رَفِيعٍ لَمْ يَنْقَطِعْ، ولَمْ يَمْنَعْ دُعَاءَ عِبَادِه .. فَلَعَنَ الله الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ الله.

وكَتَبَ عَلَى نَفْسِه الرَّحْمَةَ فَسَبَقَتْ قَبْلَ الْغَضَبِ، فَتَمَّتْ صِدْقاً وعَدْلاً، فَلَيْسَ يَبْتَدِئُ الْعِبَادَ بِالْغَضَبِ قَبْلَ أَنْ يُغْضِبُوه، وذَلِكَ مِنْ عِلْمِ الْيَقِينِ وعِلْمِ التَّقْوَى.

..أقاموا حروفَ الكتاب، وضَيّعوا حدودَه

وكُلُّ أُمَّةٍ قَدْ رَفَعَ اللهُ عَنْهُمْ عِلْمَ الْكِتَابِ حِينَ نَبَذُوه، ووَلَّاهُمْ عَدُوَّهُمْ حِينَ تَوَلَّوْه، وكَانَ مِنْ نَبْذِهِمُ الْكِتَابَ أَنْ أَقَامُوا حُرُوفَه وحَرَّفُوا حُدُودَه، فَهُمْ يَرْوُونَه ولَا يَرْعَوْنَه، والْجُهَّالُ يُعْجِبُهُمْ حِفْظُهُمْ لِلرِّوَايَةِ، والْعُلَمَاءُ يَحْزُنُهُمْ تَرْكُهُمْ لِلرِّعَايَةِ. وكَانَ مِنْ نَبْذِهِمُ الْكِتَابَ أَنْ وَلَّوْه الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (3)، فَأَوْرَدُوهُمُ الْهَوَى وأَصْدَرُوهُمْ إِلَى الرَّدَى وغَيَّرُوا عُرَى الدِّينِ. ثُمَّ وَرَّثُوه فِي السَّفَه والصِّبَا (4) فَالأُمَّةُ يَصْدُرُونَ عَنْ أَمْرِ النَّاسِ بَعْدَ أَمْرِ الله تَبَارَكَ وتَعَالَى، وعَلَيْه يُرَدُّونَ، فَبِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً وَلَايَةُ النَّاسِ بَعْدَ وَلَايَةِ الله (5) وثَوَابُ النَّاسِ بَعْدَ ثَوَابِ الله، ورِضَا النَّاسِ بَعْدَ رِضَا الله.

فَأَصْبَحَتِ الأُمَّةُ كَذَلِكَ، وفِيهِمُ الْمُجْتَهِدُونَ فِي الْعِبَادَةِ عَلَى تِلْكَ الضَّلَالَةِ، مُعْجَبُونَ مَفْتُونُونَ، فَعِبَادَتُهُمْ فِتْنَةٌ لَهُمْ ولِمَنِ اقْتَدَى بِهِمْ، وقَدْ كَانَ فِي الرُّسُلِ ذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ. إِنَّ نَبِيّاً مِنَ الأَنْبِيَاءِ كَانَ يَسْتَكْمِلُ الطَّاعَةَ ثُمَّ يَعْصِي (6) الله تَبَارَكَ وتَعَالَى فِي الْبَابِ الْوَاحِدِ يخرج بِه مِنَ الْجَنَّةِ ويُنْبَذُ بِه فِي بَطْنِ الْحُوتِ، ثُمَّ لَا يُنَجِّيه إِلَّا الِاعْتِرَافُ والتَّوْبَةُ، فَاعْرِفْ أَشْبَاه الأَحْبَارِ والرُّهْبَانِ الَّذِينَ سَارُوا بِكِتْمَانِ الْكِتَابِ وتَحْرِيفِه ﴿..فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ﴾: البقرة:16، ثُمَّ اعْرِفْ أَشْبَاهَهُمْ مِنْ هَذِه الأُمَّةِ الَّذِينَ أَقَامُوا حُرُوفَ الْكِتَابِ وحَرَّفُوا حُدُودَه، فَهُمْ مَعَ السَّادَةِ والْكُبُرَّةِ (7) فَإِذَا تَفَرَّقَتْ قَادَةُ الأَهْوَاءِ كَانُوا مَعَ أَكْثَرِهِمْ دُنْيَا، وذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ، لَا يَزَالُونَ كَذَلِكَ فِي طَبَعٍ وطَمَعٍ (8)، لَا يَزَالُ يُسْمَعُ صَوْتُ إِبْلِيسَ عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ بِبَاطِلٍ كَثِيرٍ، يَصْبِرُ مِنْهُمُ (9) الْعُلَمَاءُ عَلَى الأَذَى والتَّعْنِيفِ، ويَعِيبُونَ عَلَى الْعُلَمَاءِ بِالتَّكْلِيفِ (10).

جَهدُ العلماء مع الجُهّال

والْعُلَمَاءُ فِي أَنْفُسِهِمْ خَانَةٌ (11) إِنْ كَتَمُوا النَّصِيحَةَ: إِنْ رَأَوْا تَائِهاً ضَالّاً لَا يَهْدُونَه، أَوْ مَيِّتاً لَا يُحْيُونَه، فَبِئْسَ مَا يَصْنَعُونَ، لأَنَّ الله تَبَارَكَ وتَعَالَى أَخَذَ عَلَيْهِمُ الْمِيثَاقَ فِي الْكِتَابِ أَنْ يَأْمُرُوا بِالْمَعْرُوفِ وبِمَا أُمِرُوا بِه، وأَنْ يَنْهَوْا عَمَّا نُهُوا عَنْه، وأَنْ يَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ والتَّقْوَى ولَا يَتَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ والْعُدْوَانِ. فَالْعُلَمَاءُ مِنَ الْجُهَّالِ فِي جَهْدٍ وجِهَادٍ، إِنْ وَعَظَتْ قَالُوا طَغَتْ، وإِنْ عَلَّمُوا (عملوا) الْحَقَّ الَّذِي تَرَكُوا (12) قَالُوا خَالَفَتْ، وإِنِ اعْتَزَلُوهُمْ قَالُوا فَارَقَتْ (13)، وإِنْ قَالُوا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ عَلَى مَا تُحَدِّثُونَ قَالُوا نَافَقَتْ (14)، وإِنْ أَطَاعُوهُمْ (15) قَالُوا عَصَتِ الله عَزَّ وجَلَّ.

فَهَلَكَ جُهَّالٌ فِيمَا لَا يَعْلَمُونَ، أُمِّيُّونَ فِيمَا يَتْلُونَ ".." أُولَئِكَ أَشْبَاه الأَحْبَارِ والرُّهْبَانِ، قَادَةٌ فِي الْهَوَى سَادَةٌ فِي الرَّدَى.

وآخَرُونَ مِنْهُمْ جُلُوسٌ بَيْنَ الضَّلَالَةِ والْهُدَى، لَا يَعْرِفُونَ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ مِنَ الأُخْرَى. يَقُولُونَ مَا كَانَ النَّاسُ يَعْرِفُونَ هَذَا ولَا يَدْرُونَ مَا هُوَ (16)، وصَدَّقُوا (صَدَقوا بالتّخفيف) تَرْكَهُمْ رَسُولَ الله صلّى الله عليه وآله عَلَى الْبَيْضَاءِ (17) لَيْلُهَا مِنْ نَهَارِهَا (18)، لَمْ يَظْهَرْ فِيهِمْ بِدْعَةٌ ولَمْ يُبَدَّلْ فِيهِمْ سُنَّةٌ، لَا خِلَافَ عِنْدَهُمْ ولَا اخْتِلَافَ، فَلَمَّا غَشِيَ النَّاسَ ظُلْمَةُ خَطَايَاهُمْ، صَارُوا إِمَامَيْنِ: دَاعٍ إِلَى الله تَبَارَكَ وتَعَالَى ودَاعٍ إِلَى النَّارِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ نَطَقَ الشَّيْطَانُ، فَعَلَا صَوْتُه عَلَى لِسَانِ أَوْلِيَائِه، وكَثُرَ خَيْلُه ورَجْلُه (19)، وشَارَكَ فِي الْمَالِ والْوَلَدِ مَنْ أَشْرَكَه، فَعُمِلَ بِالْبِدْعَةِ وتُرِكَ الْكِتَابُ والسُّنَّةُ، ونَطَقَ أَوْلِيَاءُ الله بِالْحُجَّةِ، وأَخَذُوا بِالْكِتَابِ والْحِكْمَةِ، فَتَفَرَّقَ مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ أَهْلُ الْحَقِّ وأَهْلُ الْبَاطِلِ، وتَخَاذَلَ وتَهَادَنَ أَهْلُ الْهُدَى، وتَعَاوَنَ أَهْلُ الضَّلَالَةِ حَتَّى كَانَتِ الْجَمَاعَةُ مَعَ فُلَانٍ وأَشْبَاهِه، فَاعْرِفْ هَذَا الصِّنْفَ.

وصِنْفٌ آخَرُ، فَأَبْصِرْهُمْ رَأْيَ الْعَيْنِ نُجَبَاءُ (20) والْزمْهُمْ حَتَّى تَرِدَ أَهْلَكَ فَـ ﴿..إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ﴾ الزّمر:15.

لَهُمْ (21) عِلْمٌ بِالطَّرِيق،ِ فَإِنْ كَانَ دُونَهُمْ بَلَاءٌ فَلَا تَنْظُرْ إِلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ دُونَهُمْ عَسْفٌ مِنْ أَهْلِ الْعَسْفِ وخَسْفٌ ودُونَهُمْ بَلَايَا تَنْقَضِي، ثُمَّ تَصِيرُ إِلَى رَخَاءٍ (22). ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ إِخْوَانَ الثِّقَةِ ذَخَائِرُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ولَوْلَا أَنْ تَذْهَبَ بِكَ الظُّنُونُ عَنِّي (23) لَجَلَيْتُ لَكَ عَنْ أَشْيَاءَ مِنَ الْحَقِّ غَطَّيْتُهَا، ولَنَشَرْتُ لَكَ أَشْيَاءَ مِنَ الْحَقِّ كَتَمْتُهَا، ولَكِنِّي أَتَّقِيكَ وأَسْتَبْقِيكَ، ولَيْسَ الْحَلِيمُ الَّذِي لَا يَتَّقِي أَحَداً فِي مَكَانِ التَّقْوَى، والْحِلْمُ لِبَاسُ الْعَالِمِ فَلَا تَعْرَيَنَّ مِنْه. والسَّلَامُ.

 

شرحُ عبارات الرّسالة

(1) عَزَبَ: أي بَعُد.

(2) جمع عُصبَة، وهي ما بين العشرة إلى الأربعين من الرّجال.

(3) أي جعلوا القَيّم على الكتاب الذين لا يَعلمونه، وألزموا أنفسَهم اتّباعهم

(4) بمعنى أنّهم جعلوه ميراثاً يرثه كلّ سفيه جاهل أو صبيّ غير عاقل.

(5) الصّدور والورود كنايتان عن الإتيان للسّؤال والرّجوع بالقبول، أي أصبحت الأمّة تأخذ معالم دِينها عن الرّجال عوضاً عن الله تعالى.

(6) لفظ العصيان هَهنا مجاز عن ترك الأَولى والأفضل، وليس المراد منه اجتراحُ المعصية، فإنّها محالٌ على الانبياء.

(7) إشارة إلى قوله تعالى: ﴿وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا﴾ الأحزاب:67.

(8) الطَّبَع، بالتّحريك، هو الرَّين، والطَّمَع معروف.

(9) الضّمير لأشباه الأحبار والرّهبان.

(10) أي بتكليف العلماء إيّاهم بالأحكام الشّرعية والاتّباع للحقّ ورفض الباطل.

(11) أي خَوَنَة.

(12) الضّمير للجهّال.

(13) أي فارقت الجماعة والكثرة والسّائدَ المعمولَ به.

(14) الجهّال يرمون العلماء بالنّفاق لأنّهم يُطالبونهم بالدّليل في ما يعدّه الجُهّال من ضروريّات الدّين.

(15) أطاعوهم مكرَهين.

(16) هذه الفئة الثّالثة تدّعي أن الخلاف بين الطّائفتَين، طارئٌ لم يكن على عهد رسول الله صلّى الله عليه وآله.

(17) أي أنّ الأمّة فارقت الشّريعة البيضاء واضحةَ المعالم التي تركها رسول الله صلّى الله عليه وآله.

(18) بمعنى: متميّزٌ ليلُها من نهارها، كناية عن الحقّ والباطل.

(19) رَجله: أعوانه.

(20) في بعض النُّسَخ: تَحيا بدل نُجباء.

(21) الضّمير للصّنف الآخر الّذين أمرَه بملازمتِهم.

(22) المقصود: لا تُبالِ بالبلاء النّازل بك نتيجة التزام طريق أئمّة الهدى، واعلم أنّ الجور والهوان الذي يلحق بك جرّاء اتّباعك لهم، ينقضي ثمّ تصير إلى سعة ورفاهيّة.

(23) أي تُنزلَني فوق المنزلة التي أرادها اللهُ تعالى.

اخبار مرتبطة

  أيّها العزيز

أيّها العزيز

  دوريّات

دوريّات

27/06/2014

دوريّات

نفحات