(أميركا والإبادات الثّقافيّة..)
حقائق ووثائق في تاريخها العنصريّ*
ــــــ
إعداد: «شعائر» ـــــ
الكتاب: (أميركا والإبادات الثّقافيّة.. لعنة
كنعان الإنكليزيّة)
المؤلّف: منير العكش.
النّاشر: دار رياض الرّيّس للكتب والنّشر، بيروت
2009م.
كتاب (أميركا
والإبادات الثّقافيّة.. لعنة كنعان الإنكليزيّة) للدّكتور منير العكش، يتناول نشوء
الولايات المتّحدة الأميركيّة كدولةٍ ونظامٍ على مبدأ احتلال الأرض، واستبدال
شعبها الأصليّ بشعبٍ آخر، في إطار نظريّةٍ عنصريّةٍ تُشَرعِن إبادة الآخَر جسداً،
وثقافةً، وكياناً اجتماعيّاً باسم الدِّين والحضارة، في إطار الفكر المنفعيّ الرّأسماليّ،
الّذي طبّقه المهاجرون الإنجليز على كافّة المستوطنات الّتي أقاموها في العالم.
يقدِّم الكتاب - وهو
ليس الأوّل في هذا المجال للدّكتور العكش، أستاذ الإنسانيّات واللّغات الحديثة،
ومدير الدّراسات العربيّة في كلّيّة الفنون والعلوم بـ «جامعة سفك» بولاية بوسطن
الأميركيّة - لمحة تاريخيّة للإبادة الجماعيّة بحقِّ الهنود الحمر، ويكشف الأسس
الأيديولوجيّة والثّقافيّة الّتي اعتمدها المهاجرون الأنجليز الأوائل، تنفيذاً
مباشراً لفكرة «شعب الله المُختار»، القادم إلى مجاهل العالم، حاملاً مشعلَي
الحضارة والتّمدُّن، معتبراً السّكّان الأصليّين «مجموعة كنعانيّة» لا تستحقّ سوى
الموت بوجهَيه الثّقافيّ والمادّيّ، كما فعل اليهود في فلسطين، لإقامة دولة «إسرائيل».
الكتاب يضمّ العديد من
الوثائق التّاريخيّة، وخارطة تُبيِّن انتشار المستعمرات البريطانيّة وتوزُّعها في
العالم. واللّافت للنّظر أنّه يتناول وثائق تاريخيّة تُبيِّن على لسان أصحابها الطّريقة
الممنهجة الّتي اتّبعها المستوطنون في القضاء على الهنود الحُمر لتثبيت احتلال
الأرض وفق مبدأ «أرض بلا شعب»، بما أنَّ الهنود الحمر، وتبعاً «للأيديولوجيا
الاستعماريّة الإنجليزيّة»، ليسوا شعباً، وإنّما مجرد حيوانات تعيش بلا أخلاقٍ،
وبهمجيّةٍ بربريّةٍ لا يمكنها أن تقدِّم سوى الخراب.
الثّوابت التّاريخيّة
ويعرض
د. العكش - وهو سوريّ بالمولد، فلسطينيّ بالاختيار كما يقول - الثّوابت التّاريخيّة
الخمسة الّتي رافقت نشوء أميركا وتأسيسَها، بل إنَّ المُتابع للسّياسات الأميركيّة
يرى أنّها لا تزال مستمرّة، وإنّما بأدواتٍ مختلَقة، وهي:
1- المعنى «الإسرائيليّ» لأميركا.
2- عقيدة الاختيار الإلهيّ والتّفوُّق العرقيّ والثّقافيّ.
3- الدّور الخلاصيّ للعالم.
4- التّوسُّع اللّانهائيّ.
5- حقّ التّضحية بالآخَر.
هذه
هي الأُسُس الفكريّة والثّقافية الّتي يطرحها الكتاب وبالتّفصيل لولادة بلاد العمّ
سام، منذ اكتشاف كريستوف كولومبس العالم الجديد، حيث يحتفل الأميركيّون بهذا
المستكشف بأنّه الرّجل الّذي قدّم للبشريّة تجربةً إنسانيّةً قامت على مبادئ الحرّيّة
والدّيمقراطيّة، مُتناسين أنّ هذه القوّة الأعظم في العالم بالمعايير
الجيوبولوتيكيّة الحاليّة، نشأت وترعرعت وقَوِيت على أجساد الهنود الحمر سكّان
القارّة الأصليّين، الّذين حُرِموا حتّى حقّ الاحتفاظ بهويّتهم الثّقافيّة
ومجتمعاتهم، ليتحوَّلوا بنظر المبشّرين بالحضارة الإنكلوساكسونيّة إلى مجرّد فائضٍ
تاريخيّ.
ويقدّم الكتاب عدّة
وثائق تاريخيّة تعطي القارئ فكرةً عن هويّة أميركا الحقيقيّة، الأمر الّذي يعيد
طرح الأسئلة المهمّة حول الطّبيعة الفكريّة، والعقليّة الأخلاقيّة، الّتي قامت
عليها «المؤسّسات الدّيمقراطيّة» في الولايات المُتّحدة.
من هذه الوثائق، فقرة
وردت في إحدى محاضر جلسات الكونغرس الأميركيّ في القرن التّاسع عشر، تقول: «يجب
مساعدة الحضارة على إبادة الهنود، كما أمر الله يشوع أن يبيد الكنعانيّين الّذين
لم يكونوا يختلفون عن هنود اليوم، ثمّ إنّه عوقب على تقاعسه عن الانصياع لأمر
الله».
هذه الوثيقة بمنزلة
تنظير متقدّم لِشَيطنة الآخّر، عبر إطلاق صفة «الكنعانيّ» عليه، استحضاراً لما
يُروَّج له عن الخلاف التّاريخيّ بين اليهود والكنعانيّين.
ويشرح د. العكش، في كتابه،
مفهومَ «الكَنعنة» كسلاحٍ اعتمده المهاجرون الإنجليز – ليس فقط في أميركا، بل في
كلّ بلاد العالم الجديد ومنها أستراليا ونيوزيلندا - من أجل إبادة شعبٍ واستبدالِه
بآخر.
القنبلة الثّقافيّة
«اللّغة والدِّين هما خطّ الدّفاع الأخير
للهنود، ولا بدّ من القضاء عليهما»، بهذه العبارة الّتي قالها مُؤسِّس «مدارس
الهنود الحمر» في أميركا الكابتن ريتشارد هنري برات، يقدِّم الفصل السّادس من
الكتاب الآليّة التّنفيذيّة لِكَنعنة الآخر، انطلاقاً من القاعدة المعروفة بأنَّ
اللّغة والدِّين هما من المكوِّنات الحضاريّة والوجوديّة لأيِّ أُمّة، فالتّوالي
الجِينيّ لأُمّةٍ ما قد يعطيها القدرة على البقاء المادّيّ، في حين أنَّ سَلْخَها
عن هويّتها الثّقافيّة يجعلها غير قابلة للتّجديد والحياة والتّطوّر، وبالتّالي
تصبح أكثر قابليّة للتّبعيّة والتّلاشي في ظلّ القوّة الأكبر والأقوى ثقافيّاً، حتّى
لو كانت تمتلك حضارةً ما عبر التّاريخ.
وتحديداً - في ما يتعلّق
بهذه الجزئيّة - يستعرض الكاتب القنبلة الثّقافيّة الّتي أُبيدَ بواسطتها الهنود
الحمر روحيّاً، وتحوَّلوا معها إلى مجرّد ظلٍّ في إطار الجغرافيا والتّاريخ، وذلك
بهدف احتلال أرضهم والاستفادة من ثرواتها العامرة، مع الإشارة إلى أنَّ فهم هذه
القنبلة الثّقافيّة بمعناها المجازيّ الواسع - كما يشرحها الكتاب استناداً إلى
أقوال مؤسِّسي صانعيها - تقدّم، وبطريقةٍ مباشرة، قراءةً ولو على المستوى الدّلاليّ
فقط للتّركيبة البنيويّة للعقليّة الّتي ألقت بالقنبلة الذّرّيّة على ناغازاكي
وهيروشيما في اليابان.
ويوضح الكتاب الهدف الّذي
أُنشئت من أجله مدارس تعليم الهنود الحمر، كما يَرِد على لسان ويليام جونز، أحد
مسؤولي «مكتب الشّؤون الهنديّة» - الّذي كان يعتبر بمنزلة المؤسّسة الرّاعية
لمصالح الهنود، أو السّلطة الوطنيّة للهنود - بقوله إنّ الهدف من إنشاء هذه
المدارس هو إبادةُ الهنديّ بمعناه الثّقافيّ، وخَلْقُ بديلٍ عنه يرضى بالأمر
الواقع.
لذلك يقول الكتاب إنَّ
اللّغة كانت من المحرّمات الأساسيّة على الهنود، باعتبارها محرِّكاً أساسيّاً لتطوّر
الهويّة الثّقافية والنُّظم الاجتماعيّة، الّتي تجعل من المجتمع الهنديّ الأحمر
يمتلك سلاح الاستمرار في التّصديّ للغزو الإنكلوساكسونيّ. كما يستعرض الكتاب
شهادات لأطفال من الهنود الحمر، انتُزِعوا بقوّة السّلاح من أُسَرِهم إلى معازل
خاصّة تجرِّدهم من كلِّ شيءٍ وأوّلها الاسم، حيث تحوَّلت الأسماء الهنديّة المُحاكية
للطّبيعة إلى أسماء إنجليزيّة مسيحيّة، في أوّل خطوات الإبادة الثّقافيّة.
وباسمِ الحضارة والتَّمدُّن
التي ساقها المُستوطنون الحالمون بـ «إسرائيل الله»، استناداً إلى مبادئ
البيورتانيّين (الأطهار كما كانوا يطلقون على أنفسهم) وعقائدهم، المخلّصين للكنيسة
البروتستانتيّة، كانت الإبادة الثّقافيّة مقدّمة لفكرة استبدال شعب بشعبٍ آخَر.
أمّا أنصار التّمدين،
فكانوا يعلمون أنَّ اغتصاب هذه الأرض (أميركا) بغير الحرب، لا يتمّ إلّا بتفخيخ
الثّقافة الهنديّة ذات البُنْيَة الاجتماعيّة المتماسكة، لتدمير نظام التّكاتُف
الاجتماعيّ، وتقاسم الملكيّة العامّة، واستبدالِ دماغ الهنديّ بدماغٍ أبيض يؤمن
بالملكيّة الخاصّة.
ويوثِّق المؤلِّف هذه
المقولة بعبارة لمفوّض الشّؤون الهنديّة جورج مانبيبني، يقول فيها: «لا بدَّ للطّفل
الهنديّ من أن يتعلّم كلمة (أنا) بدلاً من (نحن)، و(هذا لي) بدلاً من (لنا)...
إلخ، ليتنازل طوعاً عن ما يملك».
وهنا يوضح الكتاب
الفكرة المنفعيّة الّتي قامت عليها المستوطنات الأميركيّة الأولى عبر شَيطنة الآخَر،
ومنْح المُسوّغات المدعومة دينيّاً وأخلاقيّاً ومؤسّساتيّاً، لإبادة هذا الآخّر
وجوديّاً وثقافيّاً، من أجل السّيطرة عليه.
______________________________________________
* نقلاً عن صحيفة «النّهار» الكويتيّة،
باختصار وتصرّف.