الاستعمار*
تسويقُ مزاعم التّفوّق العرقيّ والحضاريّ
ـــــ رفيق جويجاتي ـــــ
يعني مصطلح «الاستعمار» في مفهومه اللّغويّ المألوف،
وضعاً يقومُ في أرضٍ دخلتها زمرةٌ من الأجانب سِلماً أو عنوةً، فعاشت فيها واهتمّت
بعمارتها واستغلالها، في كَنَف البلد الأصليّ لتلك الزّمرة وبحمايتِه، وعقدت مع سكّانها
الأصليّين علاقاتٍ تتّسم بالتّسلّط وإنكار حقوقهم الطّبيعيّة.
يفترض مفهوم الاستعمار توافرَ عناصر ثلاثة:
1- هجرة ما، بأعدادٍ قليلة أو كثيرة، إلى أراضٍ أخرى
بقصد عمارتها أو استغلال خيراتها.
2- بقاء المهاجرين موالين للوطن الأمّ الّذي تركوه،
وخاضعين لقوانينه لا لقوانين الأرض الّتي هاجروا إليها.
3- شمول الوطن الأمّ إيّاهم بالرّعاية والحماية.
وقد توسّعَ تعبير الاستعمار وتعريف المُستعمرات مع مرور
الزّمن، ليدلّ على أنواعٍ شتّى من هذه الظّاهرة، ففي حين كان يشير إلى إقامة محميّات
عسكريّة، كجَبل طارق، تقيمها دولةٌ على أرضٍ ليست في الأصل لها، أصبح يشمل مناطق
واسعة الأرجاء ممتدّة الحدود القارّيّة، مثل كندا، وأستراليا.
أهدافُ الاستعمار
تباينت الأهدافُ الّتي يرمي إليها الاستعمار، من عسكريّةٍ
استراتيجيّة، إلى اقتصاديّةٍ صرفة، ومنها ما رافق نشوء الدّولة الأمّة، تعزيزاً
لمكانتها الدّوليّة، وسعياً إلى السّيطرة العالميّة، كما فعلت إسبانيا والبرتغال،
ثمّ تبعتهما فرنسا وبريطانيا، ونهجت في النّهاية الولايات المتّحدة الأميركيّة هذا
النّهج.
ومع اشتداد حدّة التّزاحم على تملُّك المستعمرات، وبروز
السّياسة الاستعماريّة عنصراً من المقومّات الأساسيّة لعددٍ من الدّول الأوروبيّة،
اتّسعت المقاصد الاستعماريّة من مجرّد السّعي إلى إغناء البلد الأمّ، بأيّ وسيلة مُمكنة،
إلى نوازع التّوسّع والهيمنة، وتأكيد مزاعم التّفوّق العرقيّ، أو الحضاريّ، أو التّقنيّ،
أو كلّ ذلك معاً.
فلقد عُدّت المُستعمرات في الأصل، تجاريّةً كانت أم
استغلاليّة، زراعيّةً أم استيطانيّة، مسخَّرةً لمَنفعة البلد الأمّ (المستعمِر)
حصراً، ونشأ على هذا الأساس ما يُشبه ميثاقاً استعماريّاً، يحدّد نظاماً للتّجارة
والتّعامل، قائماً على الحصر والاحتكار، ويحرّم دخولَ المنتجات الأجنبيّة، غير
منتجات البلد الأمّ إلى المستعمرة، ويحصر النّقل بين البلد الأمّ والمستعمَرة
ببحريّة الدّولة الاستعماريّة، كما يحصر تصدير ما تنتجه المستعمرة إلى البلد الأمّ،
فيجعل للبلد الأمّ معاملة الدّولة الأَوْلى بالرّعاية. أمّا المستعمَرة فإنّها لا
تستطيع أن تصنع ما تحتاج إليه إلّا ما فيه مصلحة الدّولة المستعمِرة، وتكون وارداتها
حصراً عن طريق البلد الأمّ.
فلسفةُ الاستعمار الحديثة
تطوّر مفهوم الاستعمار مع نموّ الثّورة الصّناعيّة، وتوسُّع
الرّأسماليّة، واشتداد التّزاحم على النّفوذ، إلى مذهبٍ أشمل أفُقاً وأعمق جذوراً،
أوْجَزَ مراميه سنة 1912م الاقتصاديّ الفرنسي ألكسندر ميرينهاك، في كتابه (موجز
التّشريع والاقتصاد الاستعماريّين) بقوله:
«الاستعمار هو إقامة الصّلة مع بلاد جديدة للانتفاع من
مواردها المُتنوِّعة، وتنميتها خدمةً للمصلحة القوميّة، وفي الوقت نفسه منح
المجموعات السّكّانيّة البدائيّة حسناتِ الثّقافة الفكريّة والاجتماعيّة،
والعلميّة، والأخلاقيّة، والفنيّة، والتّجاريّة، والصّناعيّة، المحرومة منها، ولا
تتوافر هذه الشّروط إلَّا عند العروق المتفوّقة»!
ولا يخفى أنّ هذا المفهوم يرمي إلى إضفاء الشّرعيّة على
الاستعمار، وهو يحمل بين طيّاته بذورَ نهايته، لأنَّ الشّعوب الّتي فُرِض عليها
الاستعمار بوصفها شعوباً مُتأخّرة، لا بدّ من أن تَستكمل عاجلاً أو آجلاً أسباب
التّحلّل من رِبقة الهيمنة الأجنبيّة.
* نقلاً عن الموسوعة العربيّة (باختصار)