العِلمُ بحقيقة
الأسماء
استحقاقُ الإنسان الخلافةَ الإلهيّة في الأرض
ــــــــــــــــــــالعلّامة
السّيّد محمّد
حسين الطّباطبائيّ
قدّس سرّه ــــــــــــــــــــ
آياتٌ أربع (30-33)
من سورة البقرة، تَحكي قصّة استخلاف الله تعالى لآدمَ
عليه السّلام على الأرض، واستحقاقه هذا المقام بما له ولذرّيّته من قابليّة علميّة
لا تتوفّر حتّى للملائكة المقرّبين، وقد أضاءَ عليها العلّامة السّيد محمّد حسين
الطّباطبائي في تفسيره (الميزان) بما لا مزيدَ عليه، مُنوِّهاً بأنّها على خلاف
سائر قصص القرآن الكريم، لم تَرِد إلّا في هذا المحلّ.
قال الله تعالى: ﴿وَإِذْ
قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا
أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ
بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ * وَعَلَّمَ
آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ
أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا
سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ
الْحَكِيمُ * قَالَ يَا آَدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا
أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ﴾البقرة:30-33.
***
* قولُه تعالى: ﴿وَإِذْ
قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً..﴾: إنّ القولَ
منه تعالى إيجادُ أمرٍ يدلُّ على المَعنى المقصود. فأمّا في التّكوينيّات، فنفسُ الشّيء
الذي أوجدَه تعالى وخلَقه هو شيءٌ مخلوقٌ موجود، وهو بعينه قولٌ له تعالى، لدلالته
بوجوده على خصوص إرادته سبحانه. فإنّ من المعلوم أنّه إذا أراد شيئاً فقال له كُنْ
فكانَ، ليس هناك لفظٌ مُتوسِّط بينه تعالى وبين الشّيء، وليس هناك غيرُ نفس وجودِ الشّيء،
فهو بعينِه مخلوقٌ، وهو بعينه قولُه «كُن»، فقولُه سبحانه في التّكوينيّات نفسُ
الفعل وهو الإيجاد، وهو الوجود، وهو نفسُ الشّيء.
وأمّا في غير التّكوينيّات،
كمَورد الإنسان مثلاً، فـالقولُ منه، سبحانه، بإيجاده تعالى أمراً يُوجِبُ علماً باطنيّاً
في الإنسان بأنْ كذا وكذا، وذلك إمّا بإيجاد صوتٍ عند جسمٍ من الأجسام، أو بنَحوٍ آخر
لا نُدرِكُه، أو لا نُدرِكُ كيفيّة تأثيره في نفس الإنسان [الأنبياء
مثلاً]، بحيث يوجَد معه علمٌ في نفسه بأنْ كَذا
وكذا.
وكذلك القولُ في قوله تعالى
للملائكة أو الشّيطان، لكنْ يختصّ هذان النّوعان وما شابَههما، لو كان لهما شبيهٌ بخصوصيّة،
وهي أنّ الكلامَ والقول المعهود فيما بيننا إنّما هو باستخدام الصّوت، أو الإشارة بضميمة
الاعتبار الوضعيّ، الذي يستوجبُه فينا فطرتُنا الحيوانيّة الاجتماعيّة، ومن المعلوم
- على ما يُعطيه كلامُه تعالى - أنّ الملَك والشّيطانَ ليس وجودُهما من سِنخ وجودنا
الحيوانيّ الاجتماعيّ، وليس في وجودهما هذا التّكامل التّدريجيّ العلميّ الذي يستدعي
وضعَ الأمور الاعتباريّة.
ويظهر من ذلك أنْ ليس فيما
بين الملائكة ولا فيما بين الشّياطين هذا النّوعُ من التّفهيم والتّفهّم الذّهنيّ المستخدَم
فيه الاعتبارُ اللّغويّ والأصواتُ المؤلَّفة الموضوعة للمعاني، وعلى هذا، فلا يكونُ
تحقّقُ القول فيما بينهم أنفسهم نظيرَ تحقُّقه فيما بيننا أفرادَ الإنسان بصدور صوتٍ
مؤلّفٍ تأليفاً لفظيّاً وضعيّاً من فمٍ مشقوق ينضمّ إليه أعضاءٌ فعّالةٌ للصّوت من
واحدٍ، والتّأثّرُ من ذلك بإحساس أُذُنٍ مشقوقٍ ينضمّ إليها أعضاءٌ آخذةٌ للصّوت المقروعِ
من واحدٍ آخر، لكنْ حقيقةُ القول موجودةٌ فيما بين نوعَيهما، بحيث يترتّب عليه أثرُ
القول وخاصّتُه: وهو فهمُ المعنى المقصود وإدراكُه، فبَين الملائكة أو الشّياطين قولٌ
لا كنَحوِ قولنا، وكذا بين الله سبحانه وبينَهم قولٌ لا بنحو إيجادِ الصّوت واللّفظ
الموضوع وإسماعه لهم.
انطواء الإنسان على سرٍّ، يُتدارَك به أمرُ الفساد
* قوله تعالى: ﴿قَالُوا
أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ
بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَك..﴾ مُشعِرٌ بأنّهم إنّما فهموا وقوعَ الإفساد وسَفْكِ
الدّماء من قوله سبحانه: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾، حيث إنّ
الموجودَ الأرضيّ بما أنّه مادّيٌّ مركّبٌ من القوى الغضبيّةوالشّهويّة، والدّارُ
دارُ التّزاحم، محدودةُ الجهات، وافرةُ المُزاحمات، مُرَكّباتها في معرض الانحلال،
وانتظاماتُها وإصلاحاتها في مظنّة الفساد ومصبّ البطلان، لا تتمّ الحياة فيها إلّا
بالحياة النّوعيّة، ولا يكمُلُ البقاء فيها إلّا بالاجتماع والتّعاون، فلا تخلو
[هذه الدّار] من الفساد وسَفْكِ الدّماء، ففهموا من
هناك أنّ الخلافةَ المُرادةَ لا تقعُ في الأرض إلّا بكَثرةٍ من الأفراد، ونظامٍ
اجتماعيٍّ بينَهم يُفضي بالنّهاية إلى الفساد والسّفك.
والخلافةُ، وهي قيامُ شيءٍ
مقامَ آخر، لا تتِمُّ إلّا بكون الخليفة حاكياً للمستخلِف في جميع شؤونه الوجوديّة،
وآثاره، وأحكامه، وتدابيره بما هو مستخلِف، واللهُ سبحانه في وجوده مسمًّى
بالأسماءالحسنى، متّصفٌ بالصّفات العليا، من أوصاف الجمال والجلال، منزَّهٌ في
نفسه عن النّقص، ومقدَّسٌ في فعله عن الشّر والفساد جلّت عظَمتُه، والخليفةُ
الأرضيّ بما هو كذلك لا يليقُ بالاستخلاف، ولا يَحكي بوجوده المَشوبِ بكلّ نقصٍ وشَينٍ
الوجودَ الإلهيّ المقدّس، المنزّهَ عن جميع النّقائص وكلِّ الأعدام، فأينَ التّرابُ
وربُّ الأرباب، وهذا الكلام من الملائكة في مقام تعرُّفِ ما جهلوه، واستيضاحِ ما أَشكَل
عليهم من أمر هذا الخليفة، وليسَ من الاعتراض والخصومةِ في شيء.
فمُلخَّصُ قَولِهم
يعود إلى أنّ جَعْلَ الخلافة إنّما هو لأجل أن يحكيَ الخليفةُ مستخلِفَه، بتسبيحه
بحمدِه، وتقديسِه له بوجوده، والأرضيّةُ لا تدَعُهُ يفعلُ ذلك، بل تجرُّهُ إلى
الفساد والشّرّ، والغايةُ من هذا الجَعل، وهي التّسبيحُ والتّقديس بالمعنى الذي مرّ
من الحكاية، حاصلةٌ بتَسبيحنا بحَمدِك وتقديسِنا لك، فنحن خلفاؤك، أو فاجعلنا خلفاءَ
لك، فما فائدةُ جعلِ هذه الخلافة الأرضيّة لك؟ فردَّ اللهُ سبحانه ذلك عليهم بقوله:
﴿إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ * وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ..﴾. وهذا
السّياق، يُشعر:
أوّلاً:
بأنّ الخلافةَ المذكورة إنّما كانت خلافةَ الله تعالى لا خلافةَ نوعٍ من الموجود
الأرضيّ كانوا في الأرض قبل الانسان وانقرضوا، ثمّ أرادالله تعالى أن يخلفَهم بالإنسان
كما احتملَه بعضُ المفسّرين، وذلك لأنّ الجواب الذيأجابَ سبحانه به عنهم -وهو
تعليمُ آدمَ الأسماء- لا يناسبُ ذلك، وعلى هذا فالخلافةُ غيرُ مقصورةٍ على شخصِ
آدمَ عليه السّلام، بل بنوه يشاركونه فيها من غير اختصاص، ويكون معنى «تعليم
الأسماء» إيداعَ هذا العلم في الإنسان بحيث يظهر منه آثارُه تدريجاً دائماً،
ولو اهتدى إلى السّبيل أمكنَه أن يُخرجَه من القوّةِ إلى الفعل، ويؤيّد عمومَ
الخلافة قولُه تعالى:﴿..إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ..﴾ الأعراف:69،
وقوله تعالى: ﴿ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي
الْأَرْضِ..﴾ يونس:14،
وقوله تعالى: ﴿..وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ..﴾ النّمل:
62.
وثانياً:
إنّه سبحانه لم ينفِ عن خليفة الأرض الفسادَ وسَفْكَ الدّماء، ولا كذّبَ الملائكةَ
في دعواهم التّسبيحَ والتّقديس، وقرّرهم على ما ادّعوا، بل إنّما أبدى شيئاً آخر،
وهو أنّ هناك أمراً لا يقدرُ الملائكةُ على حملِه ولا تتحمّلُه، ويتحمّلُه هذا
الخليفةُ الأرضيّ، فإنّه يحكي عن الله سبحانه أمراً، ويتحمّلُ منه سرّاً ليس في
وسع الملائكة، ولا محالةَ يتدارك بذلك أمر الفساد وسفْك الدّماء.
عِلمُ آدم عليه السّلام بـ «حقيقة الأسماء»
وقوله تعالى: ﴿وَعَلَّمَ
آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْعَلَى الْمَلَائِكَةِ..﴾، مُشعِرٌ
بأنّ هذه الأسماء، أو أنّ مسمّياتِها كانوا موجوداتٍ أحياء، عقلاء، مَحجوبين تحت
حجاب الغيب، وأنّ العِلمَ بأسمائهم كان غيرَ نحو العلم الذي عندنا بأسماء الأشياء،
وإلّا كانت الملائكةُ بإنباء آدمَ إيّاهم بها عالمِين وصائرين مثل آدم، مساوين
معه، ولم يكن في ذلك إكرامٌ لآدم ولا كرامة، حيث علّمَه اللهُ سبحانه أسماء ولم
يعلِّمْهم، ولو علّمَهم إيّاها كانوا مثلَ آدم أو أشرفَ منه، ولم يكن في ذلك ما يُقنِعُهم
أو يُبطِلُ حجّتَهم، وأيُّ حجّةٍ تتمّ في أن يعلّمَ اللهُ تعالى رجلاً عِلْم اللّغة
ثمّ يباهي به ويُتمّ الحجّةَ على ملائكة مُكرَمين ﴿لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ
وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ﴾الأنبياء:27،
بأنّ هذا خليفتي وقابلٌ لكرامتي دونَكم؟ ويقول تعالى: أنبئوني باللّغات التي سوف
يضعُها الآدميّون بينهم للإفهام والتّفهيم إنْ كنتم صادقين في دَعواكم أو مسألتكم خلافتي؟
على أنّ كمال اللّغة هو المعرفة بمقاصد القلوب، والملائكةُ لا تحتاجُ فيها إلى التّكلّم،
وإنّما تتلقّى المقاصدَ من غير واسطة، فلَهم كمالٌ فوق كمال التّكلّم، وبالجملة، فما
حصلَ للملائكة من العلم بواسطة إنباء آدم لهم بالأسماء، هو غيرُ ما حصلَ لآدم من
حقيقة العلم بالأسماء بتعليمٍ من الله تعالى، فأحدُ الأمرَين كان ممكناً في حقّ
الملائكة وفي مقدرتِهم دون الآخر، وآدمُ إنّما استحقّ الخلافةَ الإلهيّة بالعلم
بالأسماء دون إنبائها، إذ الملائكةُ إنّما قالوا في مقام الجواب: ﴿سُبْحَانَكَ لَا
عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا..﴾، فنفوا العلم.
فقد ظهرَ ممّا مرَّ أنّ
العلمَ بأسماء هؤلاء المسمّيات يجب أن يكون بحيث يكشفُ عن حقائقِهم وأعيان وُجوداتِهم،
دون مجرّد ما يتكفّلُه الوضعُ اللّغوي من إعطاء المفهوم، فهؤلاء المسمّياتُ
المعلومة حقائقُ خارجيّةٌ، ووجوداتٌ عينيّة، وهى مع ذلك مستورةٌ تحت ستر الغيب،
غيبِ السّماوات والأرض، والعلمُ بها على ما هي عليها كان أوّلاً ميسوراً ممكناً
لموجودٍ أرضيٍّ لا ملَكٍ سماويّ، وثانياً: دخيلاً في الخلافة الإلهيّة.
وإذا تأملتَ هذه
الجهات، أعني عموم الأسماء وكونَ مسمّياتها أُولي حياةٍ وعلم، وكونَها غيبَ السّماوات
والأرض، قضيتَ بانطباقها بالضّرورة على ما أُشيرَ إليه في قوله تعالى: ﴿وَإِنْ
مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ
مَعْلُومٍ﴾ الحجر:21،
حيث أخبرَ سبحانه بأنّ كلّ ما يقعُ عليه اسمُ شيءٍ فلَه عنده تعالى خزائنُ مخزونة،
باقيةٌ عنده غير نافدة، ولا مقدّرة بقدر، ولا محدودة بحدّ، وأنّ القَدْر والحدّ في
مرتبة الإنزال والخَلق، وأنّ الكثرة التي في هذه الخزائن ليست من جنس الكثرة
العدديّة الملازمة للتّقدير والتّحديد، بل تعدُّد المراتب والدّرجات..
فتحصّل أنّ هؤلاء
الذين عرَضَهم اللهُ على الملائكة موجوداتٌ عاليةٌ محفوظةٌ عندَه تعالى، محجوبةٌ
بحُجُبِ الغَيب، أنزلَ اللهُ سبحانه كلَّ اسمٍ في العالَم بخيرها وبركتِها، واشتقّ
كلَّ ما في السّماوات والأرض من نورها وبهائها، وأنّهم على كَثرتهم وتعدُّدهم لا
يتعدّدون تعدّدَ الأفراد، ولا يتفاوتون تفاوتَ الأشخاص، وإنّما يدور الأمرُ هنا كمدار
المَراتب والدّرجات، ونزولُ الاسم من عند هؤلاء إنّما هو بهذا القِسم من النّزول.
(مختصَر
عن الجزئين الأوّل والثّاني)