المنازلُ السّبعة للسّالكين إلى الله تعالى
التّحقّق بالصّفات الإلهيّة
ـــــــــــــــ المحقّق الشّيخ حسن المصطفوي ـــــــــــــــ
تشكّل المرجعيّة القرآنيّة الأساسَ المتين الّذي بنى عليه الفقهاءُ العرفاء رؤاهم
التّربويّة والأخلاقيّة لكلّ ما يتّصل بالشّعائر الّتي ينبغي اتّباعها للسّلوك
السّليم إلى الحقّ تعالى.
في هذه المقالة للعلّامة الشيخ حسن المصطفوي، رحمه الله، رؤية تأصيليّة لمراتب
السّير والسّلوك، وقد حدّدها في كتابه الموسوم (التّحقيق في كلمات القرآن الكريم)
بسبعة منازل استناداً إلى الآية الكريمة: ﴿التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ
السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ
وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ
اللهِ
وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ﴾
التّوبة:112.
«شعائر»
لقد رتّب اللهُ عزَّ وجلَّ مراحل السّالكين إلى الله تعالى في سبعة منازل:
1- منزل التّوبة:
وهو الرّجوع إلى الله تعالى من العصيان والخِلاف، ومن التّعلُّق بالحياة الدّنيا،
ومن الغَفلة والضّلال. وهذا أوّلُ منزلٍ للسّالك إلى الله تعالى، ولا بدّ له من
العَزم والتّصميم والنّيّة الخالصة القاطعة، حتّى يخرج عن الخلاف والضّلال
بالكلّيّة، ويتحقّق له التّوبة القاطعة من دون ترديدٍ وتَزلزلٍ ورَيب.
2- منزل العبوديّة المطلقة:
وهو التّذلُّل والتّعبُّد والإطاعة والاتّباع في جميع ما يريدُ الله ويأمرُ ويَنهى،
حتّى يكون جميعُ أعماله وأقواله وأحواله وبرنامج أموره وظاهره وسرّه على طِبق حُكمِ
الله تعالى، وعلى ما تقتضي وظائفُ العبوديّة، بحيث لا يُرى منه غير الطّاعة، ولا
يشاهد منه غير الخضوع والتّذلُّل.
ويلزم للسّالك أن يجاهد في تثبيت آثار هذا المنزل والتّثبّت فيه حتّى لا يبقى له
أدنى خلاف في سرّه وعَلَنه، ويكون جميع جوارحه وأعضاء بدنه وقلبه في طاعة الله
تعالى واتّباعه، قال عزّ وجلّ: ﴿وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلَّا
لِيَعْبُدُونِ﴾
الذّاريات:56،
فإنّ عبادة الله تعالى والسَّير في طاعته واتّباعه هو سعادة العبد، وفيه صلاحُه
وكمالُه، ويقابله الضّلال والانحراف عن الحقّ، واتّباعُ خطوات الشّيطان.
ما تقدّم هما منزلا عالم المُلك، ويليهما منازل القلب:
3- منزل الحَمْد:
ومرجعُه إلى رضى العبد وطُمَأنينة نفسِه في قِبال قضائه تعالى وحُكمِه تكوينيّاً
وتشريعيّاً، وكَوْن الرّبّ تعالى ممدوحاً عنده من أيّ جهةٍ وصِفَة؛ من جهة صفاته
الذّاتيّة وصفاته الفعليّة، ومن جهة أوامره ونواهيه وتكاليفه المتوجّهة إلى العبيد
عامّةً أو خاصّة.
فإنّ العبد إذا توجّه إلى
[أدرك]
أنّ صلاحَه وسعادتَه وخيرَه في اتّباع الأحكام الإلهيّة وفي عبوديّة الربّ وإطاعته
وسلوك مَرضاته، يعرف أنّ ما يريد الله تعالى ويقضي ويحكم ويُقدِّر إنّما هو خيرٌ
وصلاحٌ للعبد، وما يريد إلَّا إصلاحَ حاله، وتكميلَ نفسه، وإيصالَ الخير والرّحمة
إليه. فهو محمودٌ في جميع فِعالِه وشؤونه، ليس في حُكمه وَهْن، ولا في عملِه ضعف،
ولا في قوله خلاف، ولا في تدبيره اختلال، ولا يُتصوَّر له نقصٌ ولا حاجة، وهو
غَنِيٌّ في ذاته وفي صفاته وفي أفعاله.
فلا بدّ للعبد من تحقيق هذه الصّفات الإلهيّة ومعرفتِها واليقين بها، حتّى يكون
مطمئنّاً [معها]، وحامداً له على كلّ حال، لا يبقى في نفسه أدنى درجةٍ من اضطرابٍ
واعتراضٍ وترديد.
فتَحقُّق هذه الصّفة وتثبُّتُها في سرّ السّالك إنّما يكون بعد تثبُّت العبوديّة،
وما لم يتثبّت في هذا المنزل: لا يُتوقَّع له الارتقاءُ إلى منزلٍ أعلى.
4- منزل السّياحة:
وهو سَيرٌ معنويٌّ وحركةٌ روحيّةٌ في الأسماء والصّفات والتّجلِّيات الإلهيّة،
وتحصيلُ المعرفةِ بالحقائق والمعارف اللّاهوتيّة بتَهذيب النّفس وتَزكيَتِها
وتسليمِها، ورفع الحُجُبِ بتأييد الله المتعال وحَوْلِه وقوّته، ولُطفِه وعنايتِه
وَتوفيقِه.
وهذا المعنى إنّما يتحقّق بالاتّصاف بالصّفات العُليا الإلهيّة، والتّمكُّن في
حضرَتها، والتّثبّت في ساحتها، والتّخلُّق بحقائقها. وحينئذٍ تتجلَّى له حقائقُ
الأسماء والصّفات، ويستعدّ لإدراكها. وهذا المنزل يُعبَّر عنه بـ «السّفر في الحقّ
بالحقّ».
5- منزل الرّكوع:
وفيه يتحقّقُ الخضوعُ والخشوعُ التّامُّ للسّالك في قِبال عظَمة اللّاهوت وجلالِ
الله وجَمالِه الأبهى، وترتفعُ الأنانيّة، ويركعُ لله بظاهرِه وباطنِه وفي جميع
أعماله وأحواله.
وأمّا المنزلان الأخيران، فهما منزلُ العقل، والمقام الجامع:
6- منزل السّجود:
وفيه يتحقّق مقامُ المَحْو والفناء الصِّرف، ولا يبقى من وجودِه أثرٌ، ولا يَرى
إلَّا اللهَ، وفيه تتجلَّى حقيقةُ الإخلاص.
7) منزل السّفر إلى الخَلق:
وهو المعبَّر عنه بقوله تعالى: ﴿..الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ
الْمُنْكَرِ وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ..﴾
التّوبة:112،
وهذه الجُملات
[الجُمل]
بمنزلةِ جملةٍ واحدة، وإشارةٌ إلى منزلٍ واحد، بقرينة العطف بالواو.
وفي هذا المنزل - بعد الفناء الصّرف وتجلِّي الإخلاص - يستعدُّ السّالكُ لأن يكونَ
واسطةً بين الخَلق والخالق بولايةٍ عامّة أو خاصّة.
فهذه سبعةُ منازلَ للسّالك إلى الله العزيز: مَنزلان منها في عالم المُلك
ويتعلَّقان بالبَدن، وهما التّوبة والعبادة. وثلاثةُ منازلَ منها تتعلَّق بالقلب
وعالَم الملكوت، وهي الحمد، والسّياحة، والرّكوع. وواحدٌ منها يتعلَّق بعالَم
الجبروت والعقل وحكومة اللّاهوت وهو السّجود. والمنزل الأخير مقامٌ جامع، وفيه
تَتجلَّى حقيقةُ الإنسان وكمالُه.
وهذا هو المرادُ من الإنسانِ الكامل، كما أنّ المنزلَ السّادس يُعبَّر عنه بمقام
الوصول واللّقاء ورفْع الحُجُب. وقد أُشير إلى هذه المنازل الستّة بقوله تعالى:
﴿فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّه ِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً وَلا يُشْرِكْ
بِعِبادَةِ رَبِّه ِ أَحَداً﴾
الكهف:110.
***
[أمّا قولُه تعالى]: ﴿..أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِماتٍ
مُؤْمِناتٍ قانِتاتٍ تائِباتٍ عابِداتٍ سائِحاتٍ ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً﴾
التّحريم:5،
فالآيةُ الكريمةُ في توصيف الأزواج من حيث كونهنّ أزواجاً، وهذه الأوصاف بالتّرتيب
المذكور صفاتٌ كماليّةٌ مُحَسِّنَةٌ لهنّ، وآخرُها السّياحةُ بعد كَونهنّ عابدات،
والمرادُ كونهنّ في صدد النّظر والتّفكُّر والتّحقيق في المعارف الإلهيّة والعقائد
الدّينيّة وكيفيّة تهذيب النّفس.
فالسّياحةُ في مقام الزّواج آخِرُ منزلٍ يفيد ويؤثّر في كماله وتمامه. وأمّا
الرّكوع والسّجود والأمر بالمعروف: فغير مفيدةٍ في مقام الزّواج من حيث الزوجيّة،
بل قد تُنافي حقوق الزّوجيّة، وعلى هذا لم تُذكَر في المَورد.
وأمّا عدمُ ذِكر صفات الإسلام والإيمان والقنوت في عِداد منازل السّالكين في الآية
السّابقة
[الآية 112 من سورة التّوبة]:
فإنّ السّلوك إنّما يُبتدأ به من منزل التّوبة، وأمّا مراحلُ
الإسلام والإيمان والقنوت الظّاهريّة الأوّليّة: فهي مقدّمة للسّلوك إلى الله
تعالى، والسَّير إنّما يُبتدأ به من التّوبة. فإنّ السَّير
إنّما يتحقّق بعد التّثبّت والتّهيّؤ، وهذه الصّفات للتّهيّؤ.