﴿ وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ
رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ الشعراء:192
عن إعجاز القرآن، وخُلوده
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الشّهيد السّيّد مصطفى الخمينيّ رحمه الله
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
في تفسيره (مفتاح أحسن الخزائن الإلهيّة) يُورد العلّامة الشّهيد السّيّد
مصطفى الخمينيّ رحمه الله خمسة عشر وجهاً لإعجاز القرآن الكريم، في سياق تفسيره
الآيةَ الثّالثة والعشرين من سورة البقرة، وهي قولُه تعالى: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ فِي
رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا
شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾، وقد انتخبنا في هذه
المقالة ثمانية وجوهٍ منها ذكرناها مختصرة جدّاً وبتصرّفٍ في العبارات.
|
للقرآن الكريم قدمٌ
راسخ في كلّ وادٍ من المسائل العرفانيّة،
والإلهيّة، والحِكميّة، والفلسفة الطّبيعيّة، والمادّيّة، وفيه آياتٌ باهرات كاشفةٌ
عن تلك الحقائق برموز وإشارات وتَنبيهات. فمن وجوه الإعجاز والتّحدّي فيه:
1- اشْتِمالُه
على المعارف العالية
يتضمّن القرآن الكريم المعارف الرّاقية التي
لا يصلُ إليها بُعدُ أفكار العرفاء الشّامخين ولا آراءُ الفلاسفة البارعين، فإنّه أتى
بتوحيدٍ يحكي عنه قولُه تعالى: ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ..﴾ الحديد:4.
ولم يتمكّن البشرُ - إلى هذه العصور المتقدّمة
- من فَهم معيّة الذّات الأحديّة الإلهيّة البسيطة مع الكَثَرات السّرابيّة التي بِقِيعَة،
وبنَوا على حمل الآية الكريمة على المعيّة القيّوميّة، التي تكون للذّات الإلهيّة بالمجاز
لا الحقيقة.
2- أصول
الأخلاق في القرآن الكريم
يحوي القرآن العزيز أصولَ الأخلاق الإنسانيّة،
وعروقَ الكمالات النّفسانيّة، ويذكِّر الإنسان بالمعارج الملكوتيّة والمحاسن اللّاهوتيّة،
فيُعلنُ مُدويّاً: ﴿..قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي
بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ
إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ المائدة:15-16.
ولا يتمكّنُ البشر من الاطّلاع على تلك السُّبل
المخبوءةِ في زوايا القلوب والأرواح، ولن يفطنوا إلى حقيقة أنّ الإنسان البالغَ إلى
حدّ الرّضا بالرّضوان – كما في الآية - والمُتحقّق بمقام الرّضا، والمتَشَئّن بشأن
هذه المنقبة العالية والصّفة الرّاقية، يكون بعدُ في الظّلمات، فيُخرجه منها القرآن
العزيز إلى النّور، ويهديه إلى الصّراط المستقيم، فلا استقامةَ إلّا به.
3- الحقائق
الحِكميّة والطّبيعيَّة
لقد كشف القرآنُ المجيد النّقاب عن الحِقائق
الحكميّة والمسائل الفلسفيّة في عباراتٍ موجزة، فيُنادي – مثلاً - في موقف الإشارة
إلى مسألة وحدة الوجود وأصالته بقوله تعالى: ﴿اللهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ..﴾
النور:35. ﴿هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآَخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ..﴾
الحديد:3...
وفي معرض الإشارة إلى كيفيّة حصول الكثرة في
العالَم، نستحضِرُ الأَيمان والأقسامَ في السّوَر المكّيّة في الأجزاء الأخيرة، كسورة
المرسَلات وسورة العاديات، وسورة النّازعات، وفي هذه اليمينيّات أسرارٌ إلهيّة، ومسائلُ
فلسفيّة بلغت غايتَها في عبارات رائقة متعدّدة المراتب، حسب اختلاف رُتب عقول البشر
وأفكار القارئين .
وفي موقف وجود الوسائط بين الواحد الأوّل،
والمادّة التي هي مَثارُ الكَثرة، نقرأ – كنموذج – قوله تعالى: ﴿ثُمَّ
خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا
الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا
آَخَرَ فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ﴾ المؤمنون:14.
4- القوانين الفرديّة
والاجتماعيَّة
يتضمّنُ القرآنُ القوانين التي يحتاج
إليها الإنسان في حياته الفرديّة والاجتماعيّة، كما يحتاجُ إليها في سياستِه الأُسَرِيَّة
وصولاً إِلى سياسة القُطْرِ الّذي هُوَ فيه، وسياسة الأُمّة كلّها.
إنّ القرآن ناظمُ النّظام الخاصّ، وصاحبُ الفكر
الحديث في كيفية إدارة المُلك وإعاشة الطّبقات: ففيه قوانين فرديّة تنظّم العلاقة
بين العباد وخالقهم، وهي تربويّة روحيّة ضروريّة للحفاظ على النّظام العامّ الاجتماعيّ،
منها قوانين الطّهارة والصّلاة والصّوم والاعتكاف.
وفيه القوانين المنظّمة للشؤون الماليّة –
الاقتصاديّة، والاجتماعيّة، وغيرها من الأحكام على التّفصيل المحرّر في المصنّفات
الفقهيّة، وهي خلاصةُ التّدبُّر في القرآن الكريم، والسّنّة النّبويّة
5- فصاحةُ
القرآن وبلاغتُه
لقد تصدّى علماءُ الإسلام لتوضيح هذه الجهة
من الإعجاز القرآنيّ في الكُتب الكلاميّة، وفي التّفاسير، وفي الرّسائل المستقلّة بما
لا مزيدَ عليه.
ولَعَمري إنّ ما هو عندي عجيبٌ هو مطابقة الجمَل
التّركيبيّة فيه لطباعِ البشريّة، من حيث القِصَر والطّول، وهذه هي الجهة الإيقاعيّة
الخاصّة الّتي لا ينفكُّ منها الكلام المنسجم والتّركيب الموزون. وما اشتُهر من أنّ
في تقديم القرآن وتأخيره جملةً على جملة أو كلمةً على كلمة، نظراً معنويّاً مطلقاً،
وبلاغةً وفصاحةً خاصّةً مطلقاً، ممّا لا ترتضيه عقولُنا بعد، ولو أمكن أن تساعد عليه
عقولُ المتأخّرين، فإنّهم أدقّ نظراً من القدماء الأسبَقين.
6- ديمومةُ
أساليب التّعابير القرآنيّة
من الأمور التي تُعدّ من وجوه إعجاز القرآن،
ومن عجائب محاسن هذه المجموعة الإلهيّة والموسوعة الرّبّانيّة أنّه كتابٌ يمشي في جميع
الأمصار والأزمان باقياً، لا يَبلى ولا يندرسُ أسلوبُه وكيفيّة تركيبه وبنوده.
ومن الجدير هنا الإلفاتُ إلى احتواء
القرآن الكريم على أساليب البيان والتّعبير المعجِزة، وأنّ التّمدّن البشريّ كلّما
ازداد حضارةً ورُقيّاً في كيفيّة الإلقاء والإفادة واستعمال تقنيّات التّعبير الجديدة،
فإنّ القرآن يظلّ مُتقدّماً عليه من هذه النّاحية، وهادياً له إلى طريقةٍ أعلى وأرفع،
وسجيّةٍ أحسن وأرقى، وهذه المِيزة يلحظُها الخبيرُ المنصف عند المقارنة بين أساليب
البيان والإلقاء الواردة في الكتاب المجيد، وبين المعتمَد في الأدبيّات المعاصرة.
7- القانون
والهداية معاً
من اللّطائف التي تشتمل عليها هذه الموسوعة
الإلهيّة أنّ المُتعارف عليه في سائر الدّساتير والمصنّفات القانونيّة ليس إلّا ضبط
الموادّ وأصول القوانين وقيودها. لكنّ القرآن الكريم تخطّى ذلك إلى جعْل القانون يتصدّى
بنفسه لهداية البشر، من حيث ذِكر السّعادة الدّنيويّة والأخرويّة المُترتّبة على
الالتزام به. على سبيل المثال، قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ
عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾
البقرة:183، فقد تضمّنت هذه الآية تشريع الصّوم، وبيان
مقاصده، وأنّه مصلحةٌ للمكلّف.
8- كونُه تبياناً
لكلّ شيء
من الخصائص التي يحتوي عليها الكتاب المبين
أنّه تبيانٌ لكلّ شيء، فيكون تبياناً لنفسه بالأولويّة القطعيّة.
أمّا تبيانُ كلّ شيء فهو ممّا لا يدرَك،
ولا يعلمه إلّا الله ومَن ارتضاه سبحانه واصطفاه لنفسه، وهم أهل القرآن النّازل في
بيوتهم التي أَذِنَ اللهُ أن ترفَع ويُذكَر فيها اسمُه.
وأمّا تبيان نفسه، فقد تصدّى جمعٌ من السّلف
والخلف لاستيضاح ما خفيَ عليهم من معارف القرآن بالاستناد إلى القرآن نفسه، معتمدين
جملةً من الأساليب منها تتبُّع اللّفظ الواحد في جميع موارده من الكتاب العزيز،
ثمّ مقارنة المعاني المحتملة له بعضها ببعض، وملاحظةُ أنّ ما يكون مجملاً في آيةٍ من
القرآن يكون مفصّلاً في آية أخرى، إلى غير ذلك من الأساليب التي يحتاجُ تفصيلها إلى
مراجعة التّفاسير المُدَّعى فيها تفسيرُ القرآن الكريم بالقرآن نفسه.
عموم إعجاز القرآن الكريم
«لو
كان التحدّي ببَلاغة بيان القرآن وجَزالة أسلوبه فقط، لم يكن هذا التحدّي لِيَتعدّى
قوماً بعَينِهم، وهم العرب العرباء من الجاهليّين والمُخَضرمين قبل اختلاط اللّسان
وفساده.
بل
القرآن آيةٌ للبَليغ في بلاغتِه وفصاحتِه، وللحكيم في حكمتِه، وللعالم في علمِه،
وللاجتماعيّ في اجتماعه، وللمشرّعين في تشريعِهم، وللسّياسيّين في سياستهم، وللحكّام
في حكومتهم، ولجميع العالَمين في ما لا ينالونه جميعاً؛ كالغَيب، والاختلاف في الحُكم،
والعلم والبيان.
ومن
هنا يظهر أنّ القرآن الكريم يدّعي عمومَ إعجازه من جميع الجهات، من حيث كونه
إعجازاً لكلّ فردٍ من الانس والجنّ، من عامّة أو خاصّة، أو عالم أو جاهل، أو رَجُل
أو امرأة، أو فاضلٍ بارعٍ في فضلِه أو مفضولٍ إذا كان ذا لُبٍّ يشعرُ بالقول.
فالإنسانُ
اللّبيبُ القادرُ على تعقُّل هذه المعاني لا يشكّ في أنّ هذه المزايا الكليّة
وغيرها ممّا يشتملُ عليه القرآن الشّريف كلّها فوقَ القوّة الَبشريّة ووراء
الوسائل الطبيعيّة الماديّة، وإن لم يقدر على ذلك فلم يضلّ في إنسانيّته، ولم ينسَ
ما يحكم به وجدانُه الفطريّ من أن يرجع في ما لا يُحسِنُ اختبارَه ويجهل مأخذَه
إلى أهلِ الخِبرة به».