الملف

الملف

26/09/2014

مفادُ حديث الغدير

مفادُ حديث الغدير

شهادةُ الأجيال، وأئمّة العلم واللّغة

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ العلّامة الشّيخ عبد الحسين الأميني رحمه الله ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

عن الزّمخشريّ في (ربيع الأبرار)، أنّ معاوية سأل الدّارميّة الحجونيّة، وهي امرأةٌ من كنانة، عن سبب حبّها لأمير المؤمنين، عليه السّلام، وبُغضها له، فاحتجّت عليه بأشياء، منها: أنّ رسول الله عقد له الولاية بمشهدٍ منه يوم غدير خمّ، وعلّلت بغضَها لمعاوية بأنّه قاتَلَ مَن هو أولى بالأمر منه، وطلبَ ما ليس له، ولم يُنكِر عليها معاوية احتجاجَها بنصّ الغدير.

ما يلي، نصّ مقتطف بتصرّف من موسوعة (الغدير) للعلّامة الأمينيّ حول دلالة لفظة «المولى» الواردة في حديث الغدير.

 

مهما شكَكنا في شيءٍ فلا نشكّ في أنّ لفظة «المولى» سواء كانت نصّاً في المعنى الّذي نحاوله بالوضع اللّغويّ، أو مجملةً في مفادها لاشتراكها بين معانٍ جمّة، وسواء كانت عريّةً خاليةً عن القرائن لإثبات ما ندّعيه من معنى الإمامة أو محتفّةً بها، فإنّها في المقام لا تدلّ إلّا على ذلك، لِفَهم مَن وعاه من الحضور في ذلك المحتَشَد العظيم، ومَن بلغه النّبأُ بعد حينٍ ممّن يُحتجّ بقوله في اللّغة من غير نكيرٍ بينهم، وتتابَعَ هذا الفهم فيمَن بعدهم من الشّعراء ورجالات الأدب حتّى عصرنا الحاضر، وذلك حجّة قاطعة في المعنى المراد. وفي الطّليعة من هؤلاء:

* مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام، حيث كتب إلى معاوية في جواب كتاب له من أبياتٍ ما نصّه:

وَأَوْجَبَ لي وِلايَتَهُ عَلَيْكُمْ

رَسولُ اللهِ يَوْمَ غَديرِ خُمِّ

 

* ومنهم: حسّان بن ثابت الحاضرُ مشهدَ الغدير، وقد استأذن رسولَ الله، صلّى الله عليه وآله، أن ينظم الحديث في أبيات، منها قوله:

فَقالَ لَهُ: قُمْ يا عَلِيُّ! فَإِنَّني

رَضِيتُكَ مِنْ بَعْدي إِماماً وَهَادِيا

 

* ومن أولئك: الصّحابيّ العظيم قيس بن سعد بن عبادة الأنصاريّ، الّذي يقول:

وَعَلِيٌّ إِمامُنا وَإِمامٌ

لِسِوانا، أَتى بِهِ التَّنْزيلُ

يَوْمَ قالَ النَّبِيُّ: مَنْ كُنْتُ مَوْلا

هُ، فَهَذا مَوْلاهُ، خَطْبٌ جَليلُ

 

* ومن القوم: محمّد بن عبد الله الحِميَريّ القائل:

تَناسَوْا نَصْبَهُ في يَوْمِ خُمٍّ

مِنَ الباري وَمِنْ خَيْرِ الأَنامِ

 

* ومنهم: عمرو بن العاصي (العاص) الصّحابيّ القائل [قبل أن يصيرَ إلى معاوية]:

وَكَمْ قَدْ سَمِعْنا مِنَ المُصْطَفى

وَصايا مُخَصَّصَةً في عَلِي

وَفي يَوْمِ خُمٍّ رَقَى مِنْبَراً

وَبَلَّغَ وَالصَّحْبُ لَمْ تَرْحَلِ

فَأَمْنَحهُ إِمْرَةَ المُؤْمِنينَ

مِنَ اللهِ مُسْتَخْلَفُ المنحلِ

وَفي كَفِّهِ كَفُّهُ مُعْلِناً

يُنادِي بِأَمْرِ العَزِيزِ العَلِي

وَقالَ: فَمَنْ كُنْتُ مَوْلًى لَهُ

عَلِيٌّ لَهُ اليَوْمَ نِعْمَ الوَلِي

 

* ومن أولئك: كُمَيت بن زيد الأسديّ الشّهيد سنة 126، حيث يقول:

وَيَوْمَ الدَّوْحِ دَوْحِ غَدِيرِ خُمٍّ

أَبَانَ لَهُ الوِلايَةَ لَوْ أُطِيعَا

ولَكِنَّ الرِّجَالَ تَبَايَعُوهَا

فَلَمْ أَرَ مِثْلَها خَطَراً مَبِيعا

 

* ومنهم: السّيّد إسماعيل الحِميَريّ المتوفّى سنة 179 في شعره الكثير، ومنه:

لِذَلِكَ ما [لمّا] اخْتارَهُ رَبُّه

لِخَيْرِ الأَنَامِ وَصِيّاً ظَهِيرا

فَقَامَ بِخُمٍّ بِحَيْثُ الغَديرُ

وَحَطَّ الرِّحالَ وَعَافَ المَسِيرا

وَقُمَّ* لَهُ الدَّوْحُ ثُمَّ ارْتَقَى

عَلى مِنْبَرٍ كانَ رَحْلاً وَكُورا

وَنَادى ضُحًى بِاجْتِماعِ الحَجِيجِ

فَجَاؤوا إلَيْهِ صَغيراً كَبِيرا

فَقالَ وَفي كَفِّهِ حَيْدَرٌ

يَليحُ إِلَيْهِ مُبيناً مُشيرا:

أَلا إِنَّ مَنْ أنَا مَوْلًى لَهُ

فَمَوْلاهُ هَذا قَضَاً لَنْ يَجُورا

فَهَلْ أنا بَلَّغْتُ؟ قالوا: نَعَمْ

فَقَالَ: اشْهَدوا غُيَّباً أوْ حُضُورا

يُبَلِّغُ حَاضِرُكُمْ غائِباً

وَأُشْهِدُ رَبِّي السَّميعَ البَصيرا

فَقُومُوا بِأَمْرِ مَلِيكِ السَّما

يُبَايِعْهُ كُلٌّ عَليْهِ أَمِيرا

فَقَامُوا لِبَيْعَتِهِ صَافِقِينَ

أَكُفّاً فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ نَكِيرا

فَقالَ: إِلَهي! والِ الوَلِيَّ

وَعادِ العَدُوَّ لَهُ وَالكَفُورا

 

وَكُنْ خَاذِلاً للأُولى يَخْذُلونَ

وَكُنْ للأُولى يَنْصُرونَ نَصيرا

فَكَيْفَ تَرى دَعْوَةَ المُصْطفى

مُجاباً بِها أَمْ هَباءً نَثيرا؟

أُحِبُّكَ يا ثاني المُصْطَفى

وَمَنْ أُشْهِدَ النّاسُ فيهِ الغَديرا

* [قمّ الشّيء قمّاً: كَنَسَه]

* ومنهم: العبديّ الكوفيّ من شعراء القرن الثّاني في بائيّته الكبيرة بقوله:

وَكانَ عَنْها لَهُمْ في «خُمّ» مُزْدَجَرٌ

لَمّا رَقَى أَحْمَدُ الهادي عَلى قَتَبِ

وَقالَ وَالنّاسُ مِن دانٍ إِلَيْهِ وَمِنْ

ثاوٍ لَدَيْهِ وَمِنْ مُصْغٍ وَمُرْتَقِبِ:

قُمْ يا عَلِيُّ! فَإِنّي قَدْ أُمِرْتُ بِأَنْ

أُبَلِّغَ النّاسَ وَالتَّبْليغُ أَجْدَرُ بي

إِنّي نَصَبْتُ عَلِيّاً هادِياً عَلَماً

بَعْدي وَإِنَّ عَلِيّاً خَيْرُ مُنْتَصَبِ

فَبايَعوكَ وَكُلٌّ باسِطٌ يَدَهُ

إِلَيْكَ مِنْ فَوْقِ قَلْبٍ عَنْكَ مُنْقَلِبِ

 

* ومنهم شيخ العربيّة والأدب أبو تمّام المتوفّى سنة 231 هجريّة في رائيّته بقوله:

وَيَوْمَ «الغَديرِ» اسْتَوْضَحَ الحَقُّ أَهْلَهُ

بِضَحْياءَ لا فيها حِجابٌ وَلا سِتْرُ

أَقام رَسولُ اللهِ يَدْعوهُمْ بِها

ليَقْرَبَهُمْ عُرْفٌ وَيَنآهُمْ نُكْرُ

يَمُدُّ بِضَبْعَيْهِ وَيُعْلِمُ: أَنَّهُ

وَلِيٌّ وَمَوْلاكُمْ، فَهَلْ لَكُمْ خُبْرُ؟

يَروحُ وَيَغْدو بِالبَيانِ لِمَعْشَرٍ

يَرُوحُ بِهِمْ غَمْرٌ وَيَغْدو بِهِمْ غَمْرُ*

فكانَ لَهُم جَهْرٌ بِإِثْباتِ حَقِّهِ

وَكانَ لَهُمْ في بَزِّهِمْ حَقَّهُ جَهْرُ

* [في بعض المصادر: يَروحُ بِهِمْ بَكْرٌ وَيَغْدو بِهِمْ عَمْرُو]

وتبع هؤلاء جماعةٌ من بواقع أئمّة العلم والعربيّة الّذين لا يعْدُون مواقع اللّغة، ولا يجهلون وضع الألفاظ، ولا يتحرَّون إلّا الصّحّةَ في تراكيبهم وشعرهم، كَدعبل الخزاعيّ، والحمانيّ الكوفيّ، والأمير أبي فراس، وعَلَم الهدى المرتضى، والسّيّد الشّريف الرّضيّ، والحسين بن الحجّاج، وابن الرّوميّ، وكُشَاجِم، والصّنوبريّ، والمفجع، والصّاحب بن عبّاد، والنّاشىء الصّغير، والتّنّوخيّ، والزّاهي، وأبي العلا السّرويّ، والجوهريّ، وابن علويّة، وابن حمّاد، وابن طباطبا، وأبي الفرج، والمهيار، والصّولي النّيليّ، والفَنجكرديّ، إلى غيرهم من أساطين الأدب وأعلام اللّغة، ولم يزل أثرهم مقتصّاً في القرون المتتابعة إلى يومنا هذا، وليس في وسع الباحث أن يحكم بخطأ هؤلاء جميعاً وهم مصادره في اللّغة ومراجع الأمّة في الأدب.

وهنالك زرافاتٌ من النّاس - في كلّ جيل - فهموا من اللّفظ هذا المعنى وإن لم يُعربوا عنه بقريض، لكنّهم أبدوه في صريح كلماتهم، أو أنّه ظهر من لوائح خطابهم، ومن أولئك الشّيخان وقد أتيا أمير المؤمنين عليه السّلام مهنّئَيْن ومبايِعَيْن وهما يقولان: أَمسيتَ يا ابنَ أبي طالب مولى كلّ مؤمنٍ ومؤمنة.

فلَيتَ شعري أيّ معنًى من معاني «المولى» الممكنة تطبيقُه على مولانا لم يكن قبل ذلك اليوم حتّى تجدّد به، فأَتيا يُهنّئانه لأجله ويُصارحانه بأنّه أصبحَ متلفّعاً به يوم ذاك؟ أهو معنى النّصرة أو المحبّة اللّتَين لم يزل أمير المؤمنين عليه السّلام متّصفاً بهما منذ رضع ثدي الإيمان مع صِنوه المصطفى صلّى الله عليه وآله؟ أم غيرهما ممّا لا يُمكن أن يُراد في خصوص المقام؟ لاها الله، لا ذلك ولا هذا، وإنّما أرادا معنًى فهمَه كلُّ الحضور من أنّه أَوْلى بهما وبالمسلمين أجمع من أنفسهم، وعلى ذلك بايعاه وهنّآه.

ومن أولئك: الحارث بن النّعمان الفهريّ (أو: جابر) المنتقَم منه بعاجل العقوبة يوم جاء رسولَ الله صلّى الله عليه وآله وهو يقول: يا محمّد؟ أَمرتَنا بالشّهادتَيْن والصّلاة والزّكاة والحجّ، ثمّ لم ترضَ بهذا حتّى رفعتَ بِضَبعَي ابن عمِّك ففضَّلته علينا، وقلت: «مَنْ كُنْتُ مَوْلاهُ فَعَلِيٌّ مَوْلاهُ».

فهل المعنى الملازم للتّفضيل الّذي استعظمه هذا الكافر الحاسد، وطفقَ يُشكِّك أنّه من الله أم أنّه محاباة من الرّسول، يُمكن أن يراد به أحد ذَينك المعنيَين أو غيرهما؟

أحسبُ أنّ ضميركَ الحرّ لا يَستبيحُ لك ذلك، ويقول لك بكلّ صراحة: إنّه هو تلك الولاية المطلقة الّتي لم يؤمن بها طواغيتُ قريش في رسول الله صلّى الله عليه وآله إلّا بعد قهرٍ من آياتٍ باهرة، وبراهينَ دامغة، وحروب طاحنة، حتّى ﴿..جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْوَاجًا﴾. فكانت هي في أمير المؤمنين أثقلَ عليهم وأعظم، وقد جاهر بما أضمرَه غيره الحارثُ بن النّعمان فأخذه اللهُ أخذَ عزيزٍ مقتدر. [هو المقصود بقوله تعالى: ﴿سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ * لِلْكَافِرينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ﴾ المعارج:1-2]

* ومن أولئك: النّفر الّذين وافوا أميرَ المؤمنين عليه السّلام في رَحْبَةِ الكوفة قائلين: السّلام عليك يا مولانا. فاستوضحَ الإمامُ عليه السّلام الحالةَ لإيقاف السّامعين على المعنى الصّحيح، وقال: «كَيْفَ أَكونُ مَوْلاكُمْ وَأَنْتُمْ رَهْطٌ مِنَ العَرَبِ؟».

فأجابوه: إنّا سمعنا رسولَ الله صلّى الله عليه وآله يقولُ يومَ غدير خمّ: «مَنْ كُنْتُ مَولاه فَعَلِيٌّ مولاه».

إنّ المولويّة المستعظَمة عند العرب، الّذين لم يكونوا يتنازلون بالخضوع لكلِّ أحدٍ، ليست هي المحبّة والنّصرة، ولا شيء من معاني الكلمة، وإنّما هي الرّياسة الكبرى الّتي كانوا يستصعبون حملَ نِيرها إلّا بمُوجبٍ يُخضِعُهم لها، وهي الّتي استوضحَها أمير المؤمنين عليه السّلام للملإ باستفهامٍ، فكان من جواب القوم: أنّهم فهموها من نَصّ رسول الله، صلّى الله عليه وآله، وهذا المعنى غير خافٍ حتّى على المخدَّرات في الحجال.

عن الزّمخشريّ في (ربيع الأبرار): عن الدّارميّة الحجونيّة الّتي سألها معاوية عن سبب حبِّها لأمير المؤمنين عليه السّلام وبُغضها له، فاحتجّت عليه بأشياء منها: إنَّ رسول الله عقدَ له الولاية بمشهدٍ منه يوم غدير خمّ، وأسند بغضَها له إلى أنَّه قاتلَ مَن هو أَوْلى بالأمر منه وطلب ما ليس له. ولم يُنكره عليها معاوية.

وقبل هذه كلّها مناشدةُ أمير المؤمنين عليه السّلام واحتجاجُه به يوم الرّحبة، وكان ذلك لمّا نُوزِع في خلافته وبلغَه اتّهامُ النّاس له فيما كان يرويه من تفضيل رسول الله صلّى الله عليه وآله له وتقديمه إيّاه على غيره. قال برهان الدّين الحلبيّ في (سيرته) «احتجّ به بعد أنْ آلَت إليه الخلافة ردّاً على مَن نازَعَه فيها».

أَفَتَرى والحالة هذه معنًى معقولاً للمولى غير ما نَرْتَئيهِ، وفهمَه هو عليه السّلام، ومَن شهدَ له من الصّحابة، ومَن كتم الشّهادة إخفاءً لفضله حتّى رُمِيَ بفاضحٍ من البلاء، ومَن نازعه حتّى أُفحم بتلك الشّهادة؟ وإلّا فأيّ شاهدٍ له في المنازعة بالخلافة في معنى الحبّ والنّصرة وهما يعمّان سائر المسلمين؟

والواقفُ على موارد الحِجاج، بين أفراد الأمّة وفي مجتمعاتها وفي تضاعيف الكُتب منذ ذلك العهد المتقادم إلى عصورنا هذه، جِدُّ عليمٌ بأن القوم لم يفهموا من الحديث إلّا المعنى الّذي يحتجّ به للإمامة المطلقة؛ وهو الأولويّة من كلِّ أحدٍ بنفسه وماله في دِينه ودنياه، الثّابت ذلك لرسول الله صلّى الله عليه وآله وللخلفاء المنصوصِ عليهم من بعده.

 

اخبار مرتبطة

  دوريات

دوريات

26/09/2014

دوريات

نفحات