الرَّبوة
المباركة التي مرّت بها قافلة السّبايا
مشهد
السّيّدة
زينب عليها السّلام في سنجار شمال العراق
د. حسن كامل
شميساني
سنجار مدينة
معروفة من مدن شمال العراق، تقع في جنوبي نَصيبين عن يمين الطريق
إلى الموصل، على اتصال بمعظم مدن الجزيرة. اشتهرت بكونها مدينة الطّرق
والقوافل منذ القديم لأنّها سيطرت على الطّريق بين
العراق وسورية، وتقع فيها جبال سنجار التي يبلغ ارتفاعها نحو 4800
قدم، وتُعدّ من أعظم الجبال الشّرقيّة في بلاد الجزيرة.
هذا التّحقيق
يلقي الضوء على المدينة وصروحها التاريخية، وبخاصّة على المشهد الشريف المنسوب إلى
السيدة زينب بنت أمير المؤمنين عليهما السلام، مع الإشارة إلى أنّ الجماعات
التكفيرية من عصابة «داعش» أقدمت على تفجير هذا المقام في الثالث من آب الماضي عقب
سيطرتها على قضاء سنجار، كما هدمت العديد من المساجد التاريخية ومقامات الأنبياء
لا سيّما مقامَي النبيّين يونس وشيث عليهما السلام.
وهذه تفصيلات
كتبها الدّكتور حسن كامل شميساني - وهو من المتخصّصين في تاريخ
سنجار وتراثها - نقلناها عن دراسة له حول المشاهد المنسوبة للسيدة زينب عليها
السلام.
يوجد في
مدينة سنجار الكثير من المراقد والأضرحة المنسوبة لآل البيت عليهم السلام، وقد
أُقيمت منذ القرون الهجريّة الأولى، أي منذ خضوع سنجار للدّول الشّيعيّة
كالفاطميّين والبويهيّين والحمدانيّين والعقيليّين، فقد شجّع ملوك تلك الدّول بناء
هذه الأضرحة واستخدموا من أجلها أمهر البنّائين والصنّاع، فجاءت أبنيتُها آيةً في
الرّوعة والمتانة.
ومن تلك
المشاهد: المرقد المنسوب إلى السّيّدة زينب الكبرى بنت أمير المؤمنين عليّ بن أبي
طالب عليهما السّلام، والذي ابتدأ أمره بمرور سبايا واقعة الطّفّ في هذه المنطقة.
موقعه:
يقوم هذا المشهد على ربوة عالية في مدخل المدينة.
ويُنسَب إلى السّيّدة زينب بنت الإمام عليّ بن أبي طالب
سلام الله عليهما. لكن هناك من ينسبه إلى أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه
السلام.
قال الهرويّ المتوفّى سنة ( 611 هـ
/1214م) عند وصوله إلى سنجار ما يلي: «وبها مشهد عليّ بن أبي طالب عليه السلام على
الجبل»، ولم يذكر أنه مزار السّيّدة زينب عليها السلام. (الإشارات إلى
معرفة الزّيارات ص 66).
وكرّر ابن شدّاد المتوفّى سنة 684 ما
قاله الهرويّ: «...وبسنجار مشهدٌ كان ملاصقاً للسور
يعرَف بمشهد عليّ عليه السّلام». (الأعلاق الخطيرة، ج 3 : ق1 ص 155).
أوصافه
ومحتويات بنائه
استناداً إلى المشاهدات والنّصوص
الحديثة نقول: إنّ هذا المقام يتكوّن من فِناء واسع يدخَل إليه من باب
صغير، وهذا الفناء اتُّخِذ بأكمله مقبرة. ينزل إلى البناء من
مدخل يقع إلى اليمين بدرجتين تؤديان إلى غرفة مربّعة الشّكل تقريباً،
أبعادها - كما حددها المهتمون بالآثار – 3,40
× 62,3 م. والمسافة بين المدخل
والغرفة هي عبارة عن ممرّ يبلغ طوله: 30,4 م × 30,3 م.
على جانبيه غرف مربّعة مداخلها من الرّخام.
في جدار الغرفة المربّعة الجنوبيّ
محراب مصنوع من الحجر والجصّ، وغطِّيت هذه الغرفة بقبّة مظهرها الخارجيّ نصف
كروية، تقوم فوقها قبّة أخرى محاريّة الشّكل. يتوسّط
الجدارين الشّرقيّ والغربيّ مدخلان شُيِّدا من الحجر.
يؤدّي المدخل
الذي إلى يمين الدّاخل (المدخل الأيمن) إلى غرفة صغيرة مربّعة الشّكل
أبعادها: 40,3 م × 30,
3 م وهي خالية من النّقوش.
على عقادة الباب يوجد
عبارة: (راجي رحمة ربّه المعروف بالرّشيد). أمّا المدخل
الذي يوجد إلى يسار الدّاخل (المدخل الأيسر) فيعلوه عقد مزخرف بنقوش نباتيّة
محفورة في الحجر، وهو يؤدّي إلى غرفة الضّريح. وهذه الغرفة هي مستطيلة الشّكل
أبعادها: 40,5 م × 73,3
م. وفي وسطها القبر المشيد من الحجر والجص. ويوجد
على بعض قِطَعه كتابات من آية الكرسيّ، وفي هذه الغرفة أيضاً محراب صغير مصلح خالٍ
من النّقوش، وتغطّيها قبة مظهرها الخارجي مضلّع مخروطي الشّكل.
تاريخ بنائه
إنّ الكلمات المنقوشة على مدخل الرّواق
- إلى يسار الغرفة الكبرى - تدلّ على أنّ هذا البناء هو من قبل الملك الرّحيم
بدر الدّين لؤلؤ أيّام ملكه بلادَ سنجار (637 -657
هـ / 1239 - 1259 م). وهذه الكلمات هي: (عزّ مولانا السّلطان الملك
الرّحيم بدر...). وبدر الدّين هذا كان قد أكثر من إقامة
المنشآت العمرانيّة في أطراف مملكته من قصور ودور وحمّامات وخانات
ومشاهد، وسعى إلى إعادة تجديد أو ترميم الأسوار والقلاع
والجسور والمساجد والأضرحة، وخصوصاً الشّيعيّة منها. فالمعلومات كانت قد
أفادت أنه كان قد تقرّب من هذه الطّائفة وأعلن موالاته
لأئمّتها وأخذ ينشر مذهبها ويدعو إليه. وعمل على رعاية شؤونها
وصيانة مؤسّساتها والعناية بها، فقيل إنه لُقِّب بوليّ آل محمّد
صلّى الله عليه وآله. وقيل أيضاً أنه - رغبةً منه في إظهار موالاته لهذه الطّائفة
وأئمّتها - كان يرسل في كلّ سنة إلى مشهد الإمام
عليّ بن أبي طالب سلام الله عليه في النّجف الأشرف
قنديلاً مذهّباً زِنته ألف دينار.
إنّ ما ذكرناه من أقسام لهذا البناء
يمثّل في الواقع الأجزاء الأصليّة منه، والتي ينحصر
تاريخها بين سنة استيلاء بدر الدّين لؤلؤ على سنجار سنة (637 هـ/
1239م) وأخذِها من صاحبها الملك الأيوبيّ يونس بن مودود،
وبين سنة تشييده للأقسام الأخرى المضافة وهي سنة (644هـ/1246م) -كما هو مثبّت على
إحدى مداخل غرف الضّريح.
والأقسام الأخرى المضافة هذه تقع إلى
يسار وخلف غرفة الضّريح. وتتكوّن من ممر يؤدّي إلى غرفة
مربّعة تقريباً، صغيرة مقبّبة، تؤدّي بدورها إلى غرفة مستطيلة غير
منتظمة وبصيانات جديدة. طُليت الغرفة المربّعة المذكورة
وجدران الممرّ بالإسمنت بحيث انمحت غالبيّة الزّخارف الرّخاميّة الموجودة. أمّا
باطن القبّة فلم يعد يبدو منها شيء. والغرفة المربّعة
الموجودة في نهاية الممرّ، فعَقد الباب من داخلها يحتوي على ألواح
رخاميّة معشّقة، عليها كتابة بخطّ اليد تذكر اسم المؤسّس - بدر
الدّين لؤلؤ - وتاريخ إضافة هذا القسم. أو لعله - كما ورد في كتاب
(القباب المخروطية) - تاريخ البناء الأصلي
وهو سنة أربع وأربعين وستمائة للهجرةـ. ولعلّ الألواح هذه
كانت قد قُلعت من الأجزاء الرّئيسيّة من البناء وأضيفت إلى هذا القسم.
كما أنّ الزّخارف الموجودة في الممرّ قُلعت هي أيضاً من
البناء الأصليّ، واستُخدمت في تجميل هذه الغرفة حيث لا يوجد تناسق
في الزّخارف، ولم تعد تبدو بعد أن طليت بالإسمنت.
ويبدو أن هذا الضّريح كان قد أصابه
الهدم والتخريب مرّاتٍ ومرّات، وكان في كلّ مرّة يُعاد تجديده أو ترميمه، وإذا
سلّمنا جوازاً بما أفاد به ابن شدّاد من كون هذا الضّريح
أو المشهد هو للإمام عليّ بن أبي طالب عليه السّلام، وليس لابنته السّيّدة
زينب، فإنّه قد خُرّب مع جملة المباني على أيدي التّتار
الذين استولوا على سنجار في سنة (660 هـ / 1262م) كما قال ابن شدّاد
نفسه. ويظهر أنّه قد جدّد فيما بعد ومن قبل نائب التّتر
وهو من العجم، ويقال له قوام الدّين محمد اليزديّ، ورجع إلى سابق عهده
ومجده حيث عادت تقام فيه صلاة الجمعة من كل أسبوع.
وذكر أيضاً أنّ التّجديد عاد ولحقه مرّة
أخرى كما يتّضح ذلك من نصّ مكتوب على لوحة
رخاميّة موجودة على جدار غرفة الضّريح من خارج البناء يقول:
(...جدّد مزار السّتّ زينب بنت عليّ، العبد الفقير سيّدي باشا بن
خداد... ثمان عشر شهر ربيع الآخر سنة 1105 للهجرة).
قبّتا
الضريح
إحداهما نصف
كرويّة، تغطّي غرفة من غرف الضّريح المتعدّدة وهي الغرفة المربّعة الشّكل.
تقوم على ثلاثة صفوف من المقرنصات، وتقوم فوقها القبّة المحاريّة
الشّكل، وتحت قاعدتها (أي قاعدة القبّة نصف الكرويّة)
يدور شريط كتابيّ هو تتمّة الآية التي تعلو المحراب، أي تتمّة الآية
التّالية: ﴿بسم الله الرّحمن الرّحيم،
إنما يَعْمُرُ مَساجدَ اللهِ مَن آمَنَ بالله﴾ ثمّ اسم المتولّي على البناء. وترتفع
المقرنصات التي تقوم عليها القبّة مقدار 5,4
م عن الأرض. ويبلغ ارتفاع القبّة الكليّ حوالي سبعة
أمتار، ومن الخارج تكون هذه القبّة بل وتظهر بشكل نصف كرويّة.
والقبّة الثّانية
مخروطيّة، وهي قبّة غرفة الضّريح. لم يبق من مقرنصات الزّوايا فيها سوى أربع
دخلات مستطيلة في الجدار الشّمالي، وواحدة في الجدار
الغربيّ. كما توجد أيضاً أربع زوايا رُمِّمت بالجصّ بحيث مَحَت
المقرنصات التي كانت فيها. أمّا القبّة من الأعلى فقد طليت بالجصّ
بحيث فقدت أيضاً كامل معالمها تقريباً. أمّا من الخارج فالقبّة تبدو مضلّعة
مخروطيّة الشّكل.
محاريب
المرقد
يوجد في مرقد السّيّدة زينب سلام الله
عليها في سنجار محاريب عدّة، أشهرها المحراب الموجود في جدار القبلة
من المصلّى الصّغير الذي يقع بين غرفة الضّريح والغرفة المقابلة
لها.
شُيّد هذا المحراب من الحجارة والجصّ،
وغطيت واجهته بطبقة من الجصّ أيضاً. هو مستطيل الشّكل في داخله مستطيلان،
الخارجيّ منهما ارتفاعه 76,3 م وعرضه 28,2
م، ويضمّ في داخله أعمدة ارتفاعها 69, 1
م، وارتفاع عقده 18, 1 م، وسعة فتحته 28, 1 م. وعمقه 370,
م. أمّا المستطيل الدّاخليّ فارتفاعه 28, 1 م وعرضه 83,
0 م. ومن الملاحظ أنّ هذا المحراب يحتلّ ما
يقارب جدار القبلة بكاملة.
إذاً، يتألّف المحراب من
مستطيليْن متداخليْن، يمتدّ في أعلى المستطيل الخارجيّ
شريط كتابي عرضه 60,0م مسجّل عليه بخطّ
الثّلث على أرضيّة مُزهَّرة يقرأ عليها الآية القرآنيّة التّالية: ﴿بسم الله الرّحمن
الرّحيم، إنّما يَعْمُر مساجدَ اللهِ مَن آمَنَ بالله.﴾
وتساقطت بقيّة الحروف. والشّريط يحيط بجدران الغرفة من
جهاتها الأربع.
وفي هذا الشّريط إطار زخرفيّ عرضه
8,5 سم يحيط بالمحراب من جهاته الثّلاث وقد حُفر عليه أشكال
وريقات صغيرة وأنصاف الأوراق النّخيليّة وأزهار مغلقة،
وتربط هذه الأوراق فروع نباتيّة. وهذه الزّخارف بارزة عن مستوى
المحراب قليلاً. ويلي هذا شريط كتابيّ عرضه 30 , 0 م يحيط بالمحراب من
جهاته الثّلاث مسجّل عليه بالخط النّسخيّ الآيّة القرآنيّة
التّالية وتبدأ من أسفل الجهة اليمنى: ﴿بسم الله الرّحمن
الرّحيم، اللهُ لا إلهَ إلا هو الحيُّ القيومُ لا تأخذُه سِنةٌ
ولا نومٌ، له ما في السّمواتِ وما في الأرض﴾
.
وعلى القسم العُلويّ من المحراب: ﴿مَن ذا الذي
يَشفعُ عندَه إلاّ بإذنهِ يَعلمُ ما بينَ أيديهِم وما
خَلْفَهم﴾.. وعلى الجهة اليسرى: ﴿ولا يُحيطونَ
بشيءٍ مِن علمهِ إلاّ بما شاءَ وَسِعَ كرسيُّه السّمواتِ
والأرضَ﴾ .
ويلاحظ على جانبيَ تجويف المحراب
شكل عموديْن يعلو كلّاً منهما تاج ناقوسيّ. وليس له
قاعدة، وإنّما يرتكز على الأرض مباشرة. والعمودان خاليان من الزّخرفة،
ويستقرّ عليهما عقد مدبّب مطوّل شبيه بالعقد المنفرج. وقد
حفرت زخارف متعدّدة، منها ما يشبه العقد المفصّص، وحفرت أشكال خطوط
متقاطعة. وفي قمّة العقد ورقة من ثلاث شحمات وأنصاف
الأوراق النّخيليّة وأزهار مغلقة. ويتراوح بروز
هذه الزّخارف بين 2 و 6 سم. ويحيط بالعقد من خارجه أشكال نباتيّة تشبه
ما هو موجود بداخله. ويدنو من العقد شريط كتابيّ عرضه 25
, 0 م من الصّعب قراءته لأنّ أكثر حروف كلماته زائلة. وتخطيط أرضيّة
المحراب بشكل مستدير عمقه الكليّ 37, 0 م.
والمحراب هذا ليس مؤرَّخاً، وأغلب
الظنّ أنّ تاريخه يرجع إلى زمن الملك بدر الدّين لؤلؤ
(637 - 644 هـ / 1239 م - 1246 م) أي إلى زمن تشييد بناء الضّريح
بكامله، لأنّ الزّخارف النّباتيّة والقنديل والتّيجان
(تيجان الأعمدة) شبيهة - كما
يقول صاحب كتاب المحاريب العراقيّة - بالتي على محرابَي
يحيى بن القاسم والإمام عون الدّين في الموصل، وهما من مخلّفات
بدر الدّين نفسه، وإن كان هناك اختلاف من حيث مادة البناء.
فمحراب السّيّدة زينب، سلام الله عليها، بُني بالحجارة والجصّ، وغُطّيت واجهته
بطبقة سميكة من الجصّ، بينما المحرابان السّابقان بُنيا
من الرّخام الأزرق.