وصيّة الإمام الخمينيّ قدّس
سرّه إِلى ابنه السّيّد أحمد*
كلّما ازداد
الإنسانُ معرفةً، عَظُم استصغارُه لِما سواه تعالى
____ «شعائر» ____
وصيّة
أخلاقيّة – عرفانيّة هي عبارة عَنْ رسالة وَجّهها الإمام الخمينيّ قدّس سرّه لابنه
السّيّد أحمد، رحمه الله، يؤكّد فيها الإمام، رضوان الله عليه، أهمّيّةَ الصّلاة في الارتقاء
الرّوحيّ، وَكونها مفتاح اقتلاع فِتن الدّنيا من النّفس، وَيحذّر من معاشرة مُنكِرِي
مقامات العارفين، فهم قطّاعُ الطّريق إِلى الحقّ تبارك وَتعالى.
الحَمْدُللهِ وَالصَّلاةُ
وَالسَّلامُ عَلى رَسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ...
وَلَدي العَزيزُ:
الرِّسالَةُ الّتي أهْديكَها عِبارَةٌ عَنْ نَبْذَةٍ مِنْ صَلاةِ العارِفينَ، وَنَزْرٌ
مِنَ السُّلوكِ المَعْنَويِّ للسّالِكينَ، بِرُغْمِ أَنَّ يَراعاً كَيراعي يَعْجزُ
عَنْ بَيانِ هَذِهِ الرِّحْلَةِ. وَأُقِرُّ أَنَّما كَتَبْتُهُ لايَتَخَطّى الأَلْفاظَ
وَالعِباراتِ، وَأَنا بِنَفْسي لَمْ أَحْصُلْ عَلى نَزْرٍ يَسيرٍ مِنْ ذَلِكَ.
ابني البارّ:ما جاءَ في هَذا
المِعْراجُ هُوَ الغايَةُ القُصْوَى لِآمالِ العارِفينَ، حَيْثُ نَقِفُ عاجِزينَ إِزاءَ
ذَلِكَ، لَكِنْ يَجِبُعدمُ القُنوطِ مِنَ الرِّعايَةِ الإِلَهِيَّةِ؛ فَإِنَّهُ جَلَّ
وَعَلا مُغيثُ الضُّعَفاءِ وَمُعينُ الفُقَراءِ.
فِلْذَة كَبِدي:
يَقَعُ الكَلامُ في السَّفَرِ مِنَ الخَلْقِ إِلى الحَقِّ تبارك وتعالى، وَمِنَ
الكَثْرَةِ إِلى الوَحْدَةِ، وَمِنْ عالَمِ الطَّبيعَةِ إِلى ما فَوْقَ الجَبْروتِ،
إِلى حَدِّ الفَناءِ المُطْلَقِ الحاصِلِ في السَّجْدَةِ الأُولَى، وَالفَناءِ بَعْدَ
اليَقْظَةِ الحاصِلِ في السَّجْدَةِ الثّانِيَةِ. وَهَذا تَمامُ قَوْسِ الوُجودِ مِنَ
اللهِ وَإلى اللهِ. وَفي هَذِهِ الحالَةِ لا ساجِدَ وَلا مَسْجودَ لَهُ، وَلاعابِدَ
وَلامَعْبودَ: ﴿هُوَالْأَوَّلُ وَالْآَخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ..﴾ الحديد:3.
وَلَدِي: أَوَّلُ ما أُوصيكَ
بِهِ عَدَمُ إِنْكارِ مَقاماتِ العارِفينَ، فَإِنَّ هَذا أُسْلوبُ الجاهِلينَ، وَاجْتِنابُ
مُعاشَرَةِ مُنْكِري مَقاماتِ الأَوْلِياءِ، فَإِنَّ هَؤُلاءِ قُطّاعُ طَريقِ الحَقِّ.
لن يُفلِحَ إلّا مَن أغاثَه اللهُ تعالى
عَزيزي: دَعِ الكِبْرَ وَالخُيَلاءَفَإنَّهُماإِرْثُ
الشَّيْطانِ، حَيْثُ أَبى الخُضوعَ لِوَلِيِّهِ وَصَفِيِّهِ بِأَمْرِهِ تَعالى تَكَبُّراً
وَغُروراً. وَاعْلَمْ أَنَّ جَميعَ ابْتلاءاتِ بَني آدَمَ تَنْبُعُ مِنْ هُناكَ،
وَتِلْكَ هِيَ أُصولُ الفِتْنَةِ؛ وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكونَ الآيَةُ الشَّريفَةُ: ﴿وَقَاتِلُوهُمْحَتَّىلَاتَكُونَفِتْنَةٌ
وَيَكُونَالدّينُللهِ..﴾البقرة:193،
في بَعْضِمَراحِلِها، إِشارَةً للجِهادِ الأَكْبَرِ وَمُحارَبَةِ جُذورِ الفِتْنَةِ
المُتَمَثِّلَةِ بِالشَّيْطانِ وَجُنودِهِ، حَيْثُ تَمْتَدُّ هَذِهِ الجُذورُ إِلى
أَعْماقِ قُلوبِ البَشَرِ. فَيَجِبُ عَلى كُلِّ شَخْصٍ الجِهادُ لاقْتِلاعِ جُذورِ
هَذِهِ الفِتْنَةِ، وَلَوْ أَثْمَرَ هَذا الجِهادُ لَصَلُحَ كُلُّ شَيٍْءٍ.
وَلَدي:اسْعَ جاهِداً للظَّفَرِ
في هَذا المَجالِ، أَوْ في بَعْضِ مَراحِلِهِ عَلَى الأَقَلِّ. شَمِّرْ عَنْ سواعِدِ
الجِدِّ لِتَقْليصِ الأَهْواءِ النَّفْسِيَّةِ الّتي لاتُحَدُّ بِحَدٍّ، وَاسْتَغِثْ
بِاللهِ العَلِيِّ القَديرِ، فَلَنْ يُفْلِحَ شَخْصٌ لَمْ يُغِثْهُ تَعالى.
وَالصَّلاةُ- مِعْراجُ
العارِفينَ وَسَفَرُ العاشِقينَ- هي مفتاحُالوُصولِ إِلى هَذِهِ الغايَةِ؛ وَإِنْ
وُفِّقْتَ وَوُفِّقنا لِأَداءِ رَكْعَةٍ مِنْها، وَمُشاهَدَةِ الأَنْوارِ المَكْنونَةِ
فيها وَالأَسْرارِ المُكْتَنِفَةِ لَها، وَلَوْ بِمِقْدارِ تَحَمُّلِنا، نَكونُ
قَدْشَمَمْنا شَمَّةً مِنْ غايَةِ أَوْلياءِ اللهِ وَمَقْصودِهُمْ، وَرَأَيْنا مَنْظَراً
مِنْ صَلاةِ مِعْراجِ سَيِّدِ الأَنْبِياءِ وَالعُرَفاءِصَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآله؛
وَيَكونُ اللهُ تَعالى قَدْ مَنَّ عَلَيْنا وَعَلَيْكُمْ بِهَذِهِ النِّعْمَةِ العَظيمَةِ.
ما أَبْعَدَ الطَّريقَ! وَكَمْ هُوَ مَحْفوفٌ بِالمَخاطِرِ، وَيَتَطَلَّبُ المَزيدَ
مِنَ الزّادِ وَالرّاحِلَةِ، وَلا يَمْلِكُ أَمْثالي مِنَ الزّادِ سِوَى النَّزْرِ
القَليلِ، وَالكَمَّ الزَّهيدَ، إِلّا إِذا شَمَلَتْنا يَدُ العِنايَةِ الإِلَهِيَّةِ.
جاهِد نفسَك في شبابك
وَلَدي البارّ:
اسْتَثْمِرْ شَبابَكَ بِمِقْدارِ ما تَبَقّى، فَفي الهَرَمِ تَفْقِدُ كُلَّ شَيْءٍ
حَتّى الاهْتِمامَ بِاللهِ جَلَّ وَعَلا وَالآخِرَةِ. مِنْ مَكائِدِ الشَّيْطانِ
وَالنَّفْسِ الأَمّارَةِ بِالسّوءِ أَنْ يَعِدَ الشَّبابَ بِإصْلاحِ أَنْفُسِهِمْ
عِنْدَ الهَرَمِ وَالمَشيبِ، لِيُفَوِّتَ عَلَيْهِمْ فُرْصَةَ اغْتِنامِ شَبابِهِمْ،
وَيَعِدَ الكُهولَ بِطولِ العُمُرِ، وَيَصُدَّ الإِنْسانَ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَالإِخْلاصِ
لَهُ بِوُعودِهِ الواهِيَةِ حَتّى آخِرَ لَحْظَةٍ مِنْ عُمُرِهِ وَحُلولِ المَوْتِ،
حَينَئِذٍ يُسْلَبُ إيمانُهُ إن لَمْ يَكُنْ قَدْ سُلِبَهُ سَلَفاً.
إِذاً، جاهِدْ نَفْسَكَ
في شَبابِكَما دُمْتَ تَمْتَلِكُ قُوَّةً أَكْبَرَ، وَفِرَّ عَنْ غَيْرِ اللهِ تَعالى،
وَاجْعَلِ ارْتِباطَكَ بِهِ وَثيقاً إِلى أَبْعَدِ الحُدودِ، إِنْ كانَ لَكَ بِهِ
ارْتِباطٌ، وَإلّا فَاسْتَجْلِبْهُ وَاعْمَلْ عَلى تَرْسيخِهِ، حَيْثُ لايَسْتَحِقُّ
مَوْجودٌ سِواهُ هَذا الارْتِباطَ. وَالارْتِباطُ مَعَ أَوْليائِهِ إن لَمْ يَكُنْ
مِنْ أَجْلِ الارْتِباطِ بِهِ فَهُوَ مِنْ خُدَعِ الشَّيْطانِ.
لاتَنْظُرْ بِعَيْنِ
الرِّضا إِلى نَفْسِكَ وَعَمَلِكَ مُطْلِقاً،فَكَذا كانَ أَوْلِياءُ اللهِ الخُلَّصُ
يَرَوْنَ أَنْفُسَهُمْ«لاشَيْء»،وَيَعدُّونَ حَسَناتِهِمْ سَيّئاتٍ أَحْياناً.
عَزيزي: كُلَّما ارْتَفَعَ مَقامُ
المَعْرِفَةِ ازْدادَ الشُّعورِ بِتَفاهَةِ غَيْرِ اللهِ جَلَّ وَعَلا. هُنالِكَ تَكْبيرٌ
بَعْدَ كُلِّ حَمْدٍ وَتَسْبيحٍ في الصَّلاةِ–تِلْكَ هِيَ المِرْقاةُ للوُصولِ
إِلى اللهِ- كَما أَنَّ فيالدُّخولِ إِلَيْها تَكْبيراً أَيْضاً، وَهُوَ يُشيرُ
إِلى أَنَّهُ أَكْبَرُ مِنْ أَنْ يُحْمَدَ، وَهُناكَ تَكْبيراتٌ بَعْدَ الخُروجِ مِنْها
أَيْضاً، وَهِيَ تُوحي بِعُلُوِّ ذاتِهِ وَصِفاتِهِ وَأَفْعالِهِ، وَتَنَزُّهِهِ
عَنِأن يُوصَف.
ماذا عَسانا قائِلينَ؟
مَنِ الواصِفُ؟ وَماذا يَصِفُ؟ وَمَنِ المَوْصوفُ؟ وَبِأَيِّ لِسانٍ يوصَفُ؟ حَيْثُ
لا وَجودَ لِلْعالَمِ بِأَسْرِهِ؛ مِنْ أَعْلى مَراتِبِ الوُجودِ إِلى أَسْفَلِ
السّافِلينَ، فَالوُجودُ لَهُ فَقَطْ. فَإِنْ نَطَقَ أَوْلِياؤُهُ بِكَلِمَةٍ أَوْ
حَديثٍ فَمِنْهُ لا مِنْ غَيْرِهِ، وَلايَسْتَطيعُ أَحَدٌ التَّمَرُّدَ عَنْ ذِكْرِهِ،
فَكُلُّ ذِكْرٍ يَعودُ إِلَيْهِ:﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ..﴾
الإسراء:23؛
وَ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ الفاتحة:5،
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكونَ هَذا خطاباً مِنْهُ تَعالى لِكافَّةِ المَوْجوداتِ: ﴿..وَإِنْ
مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ..﴾
الإسراء:44،
وَهَذا بِلِسانِ الكَثْرَةِ أَيْضاً، وَإلّا فَهُوَ الحَمْدُ وَالحامِدُ وَالمَحْمودُ:«إنّ
ربّكَ يُصلّي».
﴿اللهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ..﴾
النّور:35.
* [في حديث المعراج: (أصول
الكافي، ج 1، ص 443): «.. فَأَوْقَفَه جَبْرَئِيلُ مَوْقِفاً فَقَالَ لَه مَكَانَكَ
يَا مُحَمَّدُ، فَلَقَدْ وَقَفْتَ مَوْقِفاً مَا وَقَفَه مَلَكٌ قَطُّ ولَا نَبِيٌّ،
إِنَّ رَبَّكَ يُصَلِّي. فَقَالَ: يَا جَبْرَئِيلُ، وكَيْفَ يُصَلِّي؟ قَالَ: يَقُولُ:
سُبُّوحٌ قُدُّوسٌ، أَنَا رَبُّ الْمَلَائِكَةِ والرُّوحِ، سَبَقَتْ رَحْمَتِي غَضَبِي.
فَقَالَ: اللَّهُمَّ عَفْوَكَ عَفْوَكَ..».]
خدمةُ الخَلَق
وَلَدي: نَحْنُ نَعْجِزُ عَنْ
شُكْرِهِ عَلى نِعَمِهِغَيْرِ المُتَناهيَةِ، فَمِنَ الأَفْضَلِ أَلّا نَغْفلَ
عَنْ خِدْمَةِ عِبادِهِ، فَإِنَّ خِدْمَتَهُمْ خِدْمَةٌ لَهُ، لِأَنَّهُمْ جَميعاً
مِنْهُ. لا تَمُنَّ عَلى خَلْقِ اللهِ أَبَداً إِزاءَ تَقْديمِكَ خِدْمَةً لَهُمْ،
فَإِنَّهُمْ أَصْحابُ الفَضْلِ عَلَيْنا حَقّاً، وَالواسِطَةُ لِتَقْديمِ الخِدْمَةِ
لَهُ جَلَّ وَعَلا. وَلا تَسْتَغِلَّ تَقْديمَ الخِدْمَةِ لَهُم في نَيْلِ السُّمْعَةِ
وَالشَّعْبِيَّةِ، فَإِنَّ هَذِهِ مِنْ دَسائِسِ الشَّيْطانِ الّذي يَمْكُرُ للإيقاعِ
بِنا. وَاخْتَرْ ما يَنْفَعُ عِبادَ اللهِ لا ما يَنْفَعُكَ وَأَصْدقاءَكَ، فَإِنَّ
هَذِهِ علامَةُ الصِّدْقِ وَالإِخْلاصِ لَهُ جَلَّ وَعَلا.
وَلَدي العَزيز:
إِنَّ اللهَ تَعالى حاضِرٌ وَشاهِدٌ عَلى ما في العالَمِ بِأَسْرِهِ؛ وَإنَّ صَفْحَة
أَنْفُسِنا إِحْدَى صُحُفِ أَعْمالِنا. حاوِلِ اخْتِيارَ ما يُقَرِّبُكَ مِنْهُ فَإِنَّ
في ذَلِكَ رِضاهُ. ".."
وَها أَنَذا أَسْتَجيرُ
بِاللهِ العَلِيِّ القَديرِ في هَذِهِ اللَّحَظاتِ الأَخيرَةِ، وَأَتَأَمَّلُ الشَّفاعَةَ
مِنْ أَوْليائِهِ، جَلَّ وَعَلا.
رَبَّنا اجْعَلْ هَذا الشَّيْخَ
الضَّعيفَ وَأَحْمَدَ الفَتِيَّ تَحْتَ رِعايَتِكَ، وَأَحْسِنْ عَواقِبَهُما
وَظَلِّلْهُما بِرَحْمَتِكَ الواسِعَةِ وَاهْدِهِما صِراطَكَ المُسْتَقيمَ.
______________________________
* نقلاً عن صحيفة الإمام: ج 20،
ص 129 (15 ربيع الأول 1407)