استنزالُ القِيم الإلهيّة إلى عالَم المحسوسات
الوحي هو المربّي الأوّل للبشريّة
____ الشّهيد السّيد محمّد باقر الصّدر قدّس سرّه ____
محاضرة حول وفاة رسول الله صلّى الله عليه وآله، للشهيد
السيد محمد باقر الصدر قدّس سرّه، ألقاها
في النجف الأشرف يوم الثامن والعشرين من صفر سنة 1358 للهجرة (1968م).
المقال التالي، مختصر بتصرّف عن كتاب (أئمّة
أهل البيت عليهم السلام
ودورهم في تحصين الرسالة الإسلاميّة)، من إصدار (مركز الأبحاث والدراسات التخصصية
للشهيد الصدر)، وقد ضمّ مجموعة من محاضرات السيد الشهيد رضوان الله عليه، ومن ضمنها المحاضرة المشار
إليها.
اليوم
نجتمع بمناسبة أعظم فاجعةٍ مرّت على تاريخ البشريّة على الإطلاق، وهي فاجعة تمثّلت
بانقطاع الوحيّ إثر وفاة رسول الله، صلّى الله عليه وآله، من جهة، وبانحراف
الأُمّة بعد المؤامرة التي حاكها فريق من المسلمين للاستيلاء على السّلطة من جهة
أخرى، خلافاً لما قرّره النبيّ وخطّه للنّاس بأمرٍ من الله تعالى.
أودُّ
الآن أن أقتصر على الجزء الأوّل من هذه الفاجعة، أن أنظر إلى الحدث الواقع في هذا
اليوم بوصفه حدثاً قد وَضع حدّاً لتلك الظاهرة العظيمة التي اقترنت مع هبوط
الإنسان على وجه الأرض، ظاهرة الوحي، ظاهرة ارتفاع الإنسان وتساميه للاتّصال
المباشر بالله سبحانه وتعالى.
الوحي
الذي يتمثّل في اتصالٍ خاصٍّ بين الإنسان وبين الله هو ضرورةٌ من ضرورات تكريم
الإنسان على وجه الأرض. وبهذا خَلَقَ الله سبحانه وتعالى الإنسان، وأودعه
الاستعداد الكامن، والأرضيّة الصالحة بإفاضة هذه الموهبة من الله سبحانه وتعالى
ضمن شرائط وظروف موضوعيّة وذاتيّة معيّنة.
الحسُّ وأثره
في تربية الإنسان
وهنا
أُريد أن أتناول جانباً واحداً من ضرورة الوحي؛ فأقول: إنّ الإنسان خُلق حسّيّاً
أكثر منه عقليّاً، خُلق يتفاعل مع حسّه أكثر ممّا يتفاعل مع عقله، بمعنى أنّ
النظريّات والمفاهيم العقليّة العامّة في إطارها النظري، حتّى لو آمن بها الإنسان
إيماناً عقليّاً، ودخلت إلى ذهنه دخولاً نظريّاً، فهي لا تهزّه، ولا تحرّكه، ولا
تبنيه، ولا تزعزع ما كان فيه، ولا تنشئه من جديد إلّا في حدود ضيّقة جدّاً.
الحسّ
هو المربّي في الدرجة الأُولى لإنسانٍ هذا مزاجُه وهذا وضعُه. والعقل هو المربّي، في
الدرجة الثانية، لإنسانٍ هذا وضعه وهذا مزاجه.
بناءً
على هذا، كان لا بدّ للإنسانيّة من حسٍّ مُربٍّ زائداً على العقل والمدَركات
العقليّة الغائمة الغامضة، لأنّ الإنسان لا يستوعب المدَركات العقليّة بسهولة، فهي
بالنسبة إليه، قد تكون غامضة ويكتنفها الضّباب، فتدخل إلى ذهنه في قوالب غير
واضحة.
إضافة
إلى هذه القوالب، كان لا بدّ للإنسان من مُربٍّ حسّيٍّ، أي أساسه الحسّ، كي يتربّى
على أهداف السّماء من مُثُلٍ وقيمٍ واعتبارات؛ وهذا هو السبب في أنّ أيّ إنسان
وأيَّ حضارة وأيّ مَدَنيّةٍ انقطعت عن السماء لم يربِّها العقل، بل ربّاها الحسّ وحده.
فكان
لا بدّ من خلق حسٍّ في الإنسان يدرك تلك القِيم والمُثل والمفاهيم، ويدرك التضحية في سبيل تلك القيم والمثل إدراكاً
حسّيّاً، لا إدراكاً عقلانيّاً بقانون الحُسْنِ والقبح العقليّين فقط، حتّى تُبعث فيه
إنسانيّته الكاملة، الممثّلة لكلّ جوانب وجوده الحقيقيّة فيدركها، كما ندرك
محسوساتنا، ومسموعاتنا ومبصراتنا.
وهذا
معنى ما قلناه من أنّ ضرورة الإنسانيّة في خطّ التربية، تفرض أن يودَعَ في طبيعة
تكوينِه وخلقِه أرضيّة صالحة لأنْ تكوِّنَ مِثْلَ هذا الحسّ، فيحسّ بحُسن العدل، وبقُبح الظلم، وبآلام
المظلومين، أي أنْ تكوّن حسّاً بكلّ ما يمكن
للعقل، وما لا يمكن للعقل إدراكُه من قيمٍ ومُثلٍ واعتبارات.
وهذه
الأرضيّة أو هذا الاستعداد الكامن الذي كان لا بدّ من خلقه في طبيعة الإنسان هو
استعداد الوحي، أي استعداد الارتباط المباشر بالله سبحانه وتعالى؛ لكي تنكشف كلُّ
السحب والستائر عن كلّ القِيم والمُثل وكلِّ هذه الاعتبارات والأهداف العظيمة، لكي
تُرى رؤية العين وتُسمع سماع الأُذن، ولكي يلمَسَها بيده، ويراها بعينه، ويشمّها، ويتذوّقها.
كان
لا بدّ من من وجود هذه البذرة - بذرة مثل هذا الحسّ - في النوع البشري، إلّا أنّ
وجدان هذه البذرة في النوع البشري لا يعني أنّ كلَّ إنسانٍ سوف يصبح له مثل هذا
الحسّ، سوف يتفتّق إدراكه عن مثل هذا الحسّ، وإنّما يعني أنّ الإمكانيّة الذاتيّة
موجودة فيه، إلّا أنّ هذه الإمكانيّة لن تخرج إلى مرحلة الفعليّة إلّا ضمن شروطها
وظروفها وملابساتها الخاصّة، كأيّ إمكانيّةٍ أُخرى في الإنسان.
مراتب الحسّ
أرضيّة
أن يحسَّ الإنسان بتلك القيم والمُثُل، تصبح أمراً واقعاً في أشخاص معيّنين
يختصّهم الله تبارك وتعالى بعنايته ولطفه واختياره، وهؤلاء هم الأنبياء، والمرسَلون،
الذين يرتفعون إلى مستوى أنْ تصبح المعقولات الكاملة محسوساتٍ لديهم، ذلك أنّ
الأفكار التي ترِد إلى ذهن الإنسان [على نحوَين]:
-
فتارةً تَرِد وهو لا يدرك مصدرها إدراكاً حسّيّاً.
-
وتارة أخرى ترد وهو يدرك مصدرها إدراكاً حسّيّاً.
كلّنا
نؤمن بأنّ الأفكار التي تَرِد إلى ذهن الإنسان وإلى فكره هي بقدرة الله وعنايته،
لكنْ إيماننا بذلك إيمانٌ عقليّ، نظريّ، لا أنّنا نحسّ بأنّ الله تعالى هو مصدر
العلم والمعرفة والأفكار الخيّرة في ذهن الإنسان.
فهناك،
إذاً، فارقٌ كبيرٌ بين حالتَين:
1-
حالةِ أنْ تَرِدَ فكرةٌ إلى ذهن إنسان، فيحسّ هذا الإنسان بأنّ هذه الفكرة أُلقيت
إليه من أعلى، بحيث يدرك إلقاءها من أعلى كما تدرك أنت الآن أنّ الحجر وقع من
أعلى، وأنّ قطرة المطر وقعت من أعلى، يدرك هذا بكلّ حسّه، وبكلّ سمعه وبصره، يدرك
أنّ هذا الفيض اُلقي عليه من قبل الله تعالى.
2-
وأُخرى لا يدرك هذا على مستوى الحسّ، يدرك أنّ هناك فكرةً تعيش في ذهنه، نيّرة،
خيّرة، لكنّه لم يرَ بعينَيه، لم
يرَ أنّ هناك يداً قذفت بهذه الفكرة إلى ذهنه.
القسم
الثاني هو الأفكار الاعتياديّة، التي تعيش في أذهان الناس.
وأمّا
القسم الأوّل - وهي الأفكار التي تُقذف في ذهن إنسان، فيتوفّر لديه حسٌّ بها
بأنّها قُذفت إليه من الله تعالى - فهذه
أيضاً على أقسام؛ لأنّ هذا الإنسان:
أ-
تارةً قد بلغ حسُّه إلى القمّة، قد استطاع
أن يحسّ بالعطاء الإلهي من كلّ وجوهه، من كلّ جوانبه، يسمعه ويبصره، ويراه من جميع
جهاته، ويتفاعل معه بكلّ ما يمكن للحسّ أن يتفاعل مع حقيقة. وهذا هو الذي يُعبّر عنه بمصطلح الرّوايات بمقامٍ عالٍ من
الأنبياء، مقام الرسول الذي يسمع الصوت ويرى الشخص أيضاً.
ب-
واُخرى يُفترض أنّه يحسّ بها من بعض جوانبها، وهو الذي عُبِّر عنه بأنّه يسمع
الصوت ولا يرى الشخص، فهذا إحساس، إلّا أنّه إحساس ناقص.
ج-
وقد يفترض أنّه أقلّ من ذلك، وهو الذي عبّر عنه في بعض الروايات بأنّه يرى الرؤيا
في المنام. هنا يرى شيئاً، هذه الرؤيا المناميّة تختلف عن الرؤيا في اليقظة من حيث
درجة الوضوح؛ فهنا فارقٌ كيفيٌّ بين الحسّ في الرؤيا المناميّة وبين الرؤيا في
عالم اليقظة والانتباه الكامل.
هناك
درجاتٌ من الحسّ، على وفق هذه الدرجات وُضعت مصطلحات: «الرسول»، و«النّبيّ»، و«المحدَّث»،
و«الإمام» ونحوُ ذلك من المصطلحات، إلّا أنّ الذي يمثّل أعلى هذه الدرجات، هو
الوحي المتمثّل في مَلَكٍ يتفاعل معه النبيّ تفاعلاً حسّيّاً من جميع جوانبه، كما
كان يعيش سيّد المرسلين صلّى الله عليه وآله مع جبرائيل عليه الصلاة والسلام.
النّبيّ هو
المربّي للآخرين
(بهذا
الحسّ استنزل النّبيّ صلّى الله عليه وآله) القِيَم والمُثُل والأهداف والاعتبارات
العظيمة من مستواها الغائم المبهم، والغامض العقلي، من مستوى النظريّات العموميّة،
(و)أعطاها معالمَ الحسّ التي لا ينفعل الإنسان بشيء - كما قلنا - بقدر ما ينفعل
بها.
ثمّ
إنّ هذا الشخص الذي استطاع أن يربّيَه الحسُّ القائم على الوحي يصبح هو حسّاً
مربّياً للآخرين؛ فالآخرون من أبناء البشريّة الذين لم تُتِح لهم ظروفهم
وملابساتهم وعناية الله أن يرتفعوا إلى مستوى هذا الحسّ، فإنه سوف يُتاح لهم، على
نحو غير مباشر، حسٌّ بالحسّ، لا حسٌّ بالحقيقة الإلهيّة مباشرة، حسٌّ بالمرآة، بالحقيقة
الإلهيّة، فالثقافة الإلهيّة انعكست على هذه المرآة، والآخرون يحسّون بهذه المرآة،
بينما النبيّ نفسه كان يحسُّ مباشرةً بتلك الثقافة الإلهيّة بما هي أمرٌ حسّي، لا
بما هي أمرٌ نظريّ.
فالوحي
- بحسب الحقيقة إذاً - هو المربّي الأوّل للبشريّة، والذي من دونه لم يُمكن
للبشريّة أن تتربّى على المُثل والقيم الإنسانيّة، لأنّ البشريّة بدون الوحي ليس
لديها إلّا حسٌّ بالمادة وما على المادة من ماديّات، وليس لديها إلّا إدراكٌ عقليٌّ
غائمٌ قد يصل إلى مستوى الإيمان بالقيم والمُثُل وبالله، إلّا أنّه إيمانٌ نظريّ
على أيِّ حال، لا يهزّ قلب هذا الإنسان ولا يدخل إلى ضميره، ولا يصنع كلّ وجوده،
ولا يتفاعل مع كلّ مشاعره وعواطفه.
فكان
لا بدّ من أن يُستَنزل ذاك العقل إلى مستوى الحسّ، لا بدّ أن تُستَنزل تلك المعقولات
إلى مستوى الحسّ، وحيث إنّ هذا ليس بالإمكان أن يُعمل مع كلّ الناس؛ لأنّه ليس كلّ
إنسان مهيّأً لهذا، اختُصّ، إذاً، بهذه العمليّة أُناسٌ معيّنون أوجدَ الله تبارك
وتعالى فيهم الحسَّ القائدَ الرائد، ".." ثمّ خلق حسّاً ثانويّاً،
وجوداً حسيّاً ثانويّاً، هذا الوجود الحسّي الثانوي كان هو المربّي للبشريّة.
استنزال القيم
العقليّة إلى مستوى المحسوسات
إذا
كان هذا حقّاً، فيجب أن نخطّط لأنفسنا، ونخطّط في علاقتنا مع الآخرين على هذا
الأساس، أن لا نكتفي بأفكار عقليّة نؤمن بها، نضعها في زاوية عقلنا كإيمان
الفلاسفة بآرائهم الفلسفيّة، بل يجب أن نحاول أن نستنزلها إلى أقصى درجة ممكنة من
الوضوح الحسّي.
طبعاً،
نحن لا نطمع أن نكون أنبياء، لا نطمع أن نحظى بهذا الشرف العظيم الذي انغلق على
البشريّة بعد وفاة النبي صلّى الله عليه وآله، ولكن مع هذا (الوضوح)، مقولٌ
بالتشكيك على حسب اصطلاح المناطقة.
ليس
كلّ درجة من الوضوح معناها النبوّة، هناك ملايين من درجات الوضوح قبل أن تصبح
نبيّاً، وهذه الملايين بابها مفتوحٌ أمامنا، ولا بدّ لنا أن لا نزهد في هذا
التطوير العقلي للقيم والمُثل الموجود عندنا، ولا بدّ لنا أن نطمع في أكثر من هذا
من الوضوح، وفي أكثر من هذا من التحدّد ومن الحسّية، ولا بدّ لنا أن نفكّر في أن
نُعبّئ كلَّ وجودنا بهذه القيم والمُثُل؛ لكي تكون على مستوى المحسوسات بالنسبة إلينا.