حقيقة الهيكل الإنساني
روح مجرّد وجسد مركّب يتكاملان
ــــــــــــــــــــــــــــ الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء
ــــــــــــــــــــــ
أجاب القرآن الكريم من خلال آياته البيّنات عن ماهيّة
الإنسان والسرّ الذي استودعه فيه الحقّ جلّ شأنه ليكون أهلاً للتكريم والاستخلاف
في الأرض.
ولعلّ من أبرز البيّنات التي يحتاجها الإنسان ليعرف نفسه
ويُدرك خالقه هي هذا التركيب الخلّاق للهيكل الإنساني بين الروح المجرّد والجسد
المادي المركّب؛ وهو ما أفصحت عنه الآية الكريمة: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ
فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ﴾ التين:4.
هذه
المقالة للإمام الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء تبيّن لنا مقاصد الحكمة الإلهيّة من
هذا التركيب المبدع للهيكل الإنساني من الروح المجرّد والجسد المادي.
نُشير
إلى أننا اقتطفنا هذا النص من كتاب العلّامة كاشف الغطاء المعروف: (الفردوس
الأعلى).
هل
في هذا الهيكل الإنساني سوى ما هو المعروف والمحسوس من أنّه: جسد وروح؟ روح مجرّدة
بسيطة، وجسد مادي مركّب
من العناصر، فهل ثمّة شيء ثالث؟
الجواب:
نعم، ولكن لا تستغرب ولا تعجب لو قلت لك أنّ في كلّ جسم حيّ مادي عنصري جسماً آخر
أثيريّاً سيّالاً شفّافاً، هو أخفّ وألطف من الهواء، وهو برزخٌ بين الجسم الماديّ
الثقيل، والروح المجرّد الخفيف.
ولعلّ
هذا هو الجسم البرزخي الذي يُسأل في القبر ويُحاسب، وينعَّم إنْ كان تقيّاً ويعذَّب
إنْ كان شقيّاً، ويبقى في نعيم أو حميم إلى يوم البعث، يومِ القيامة الذي تعود فيه
هذه الأبدان العنصرية للحياة الأبدية.
وقد
تلونا عليك من قبل أنّ الحقائق الحِكميّة والدقائق الفلسفيّة لا تسَعُها العبارات
اللفظية، وأنّ الألفاظ لا يقتنَص منها شوارد المعاني، وأوابد الأسرار، ولكنّها إذا
كانت لا تحكي عن الحقيقة من كلّ وجه، فقد تحكي عنها من وجه. أرأيتَك حين تقول:
روحي وجسدي وعقلي، مَن تعني بياء المتكلّم؟ ومن هو الذي تقصده بقولك (أنا وأنت
وهو) وأمثالها من الضمائر؟ فهل تريد بقولك: أنا لهذا الجسد الخاصّ ولشخصيتك المتعيّنة
من الجسد والنفس؟ إذاً فماذا تريد بقولك جسدي؟ ومَن هو الذي أضفت إليه جسدَك أو
أضفتَ جسدَك أو نفسك أو عقلك إليه؟
ثم
هل تدبّرت حالك حين تتلو سورة من القرآن؟ تحفظها في نفسك وتقرّرها في خاطرك من دون
أن تحرّك لسانك أو يظهر صوتك وأنت في تمام السكوت والسكون، كأنّ في داخلك شخصاً
يقرأ ويتلو عليك بغير صوتٍ ولا لسان، فقد تقرأ سورة من الطِّوال أو قصيدةً ساحبةَ
الأذيال مرتّلاً لها ومترسّلاً فيها واللّسان صامت والمقول ساكت، وقد قرأتَها كلمةً
كلمة وتلوتَها حرفاً حرفاً، فمن ذا الذي أملاها عليك؟ وأين كانت مخزونةً ومجتمعة،
ثمّ جاءت واحدةً بعد واحدة متقطّعة؟
حقّاً
أنّ التفكّر في هذه السلسلة؛ سلسلة الفكر والذِّكر، والحفظ والنسيان، والتصوّر
والتفكّر، والتصديق والشكّ واليقين، وكلّ ما هو خارج عن المادة الجسمانيّة
والأعضاء الحسّيّة، حقّاً أنّ معرفة كلّ ما هو من هذا النطاق أمرٌ لا يُطاق ولا
تصل أنْسُر العقول مهما حلَّقت في سماء التفكير إلى كبرياء معراجه ومفتاح رِتاجه،
ولكن مهما استعصى على أُولي الحِجى سرُّه، فهو يدلّ دلالة واضحة على أنّ في الإنسان
بشخصه الخاصّ جوهراً مفيضاً وآخر مستفيضاً، وغلافاً يحمل هذَين الجوهرَين.
فالمُفيض
هو النفس الجزئية المتّصلة بالنفس الكليّة؛ المبدأ الأعلى.
والمستفيض
هو ذلك البدن المثالي الأثيري.
والغلاف
هو هذا البدن العنصري.
على
أنّ التحقيق والبحث الدقيق أوصلنا إلى حقيقة جليّة وهي أنّ هذه الحقائق الثلاث شيء
واحد، وأنّها تنشأ نشأة واحدة، وأنّ النفس جسمانيّة الحدوث روحانيّة البقاء، فهي
تتدرّج في تكوّنها ونشوئها ونموّها من النطفة إلى أن تصير إنساناً كاملاً عاقلاً،
بل إلى أن تصير عقلاً مجرّداً: مَلَكاً أو شيطاناً.
فهذا
العنصريّ هو النفس، ولكنْ بمرتبتِها السافلة. والنفس هي البدن، ولكنْ بمرتبته العالية، وكلّ ما فيه من الحواسّ
الظاهرة والباطنة، والقوى العاملة: من الهاضمة والماسكة والدافعة والمصوّرة والمقدّرة،
إلى غير ذلك، كلّها آلات للنفس وأدوات تمدّها وتستمدّها، وتتعاكس معها، وتتعاون
أخذاً وردّاً وسلباً وإيجاباً.
وحدة النفس والبدن
فكلّ
الانفعالات النفسية تظهر صوَرُها على البدن. ألا ترى جمرةَ الخجل وصفرةَ الوجَل
وضربانَ العروق وخفقَان القلب عند الخوف، وابتهاجَ البدن عند الفرح؟ وبالعكس كلّ
ما يصيب البدن من ضربة أو صدمة أو جرح تنفعل النفسُ به وتتألم؟ وكلّ هذا شاهد
ودليل على وحدة النفس مع البدن، وأنّ البدن المادي، والبدن الامتدادي المجرّد عن
المادة، والروح المجرّدة عنهما شيء واحد، وهذا البدن الامتدادي الأثيري هو همزة
الوصل بين الروح المجرّدة عن المادة ذاتاً المتعلّقة بها تصرّفاً وبين البدن
المادي ذاتاً، والذي هو آلة الروح تعلّقاً وتصرفاً، وهو الذي تجد الإشارة عنه
حيناً والتصريح به حيناً آخر في كلمات أكابر الفلاسفة الأقدَمين والحكماء الشامخين
والعرفاء السالكين، مثل قول أرسطو في ما نُقل عنه: «إنّه ربّما خلوتُ بنفسي وخلعتُ
بدني وصرتُ كأنّي جوهرٌ مجرّدٌ بلا بدن، فأكون داخلاً في ذاتي خارجاً عن جميع
الأشياء، فأرى في ذاتي من الحُسن والبهاء ما أبقى له متعجّباً مبهوتاً، فأعلم أنّي
جزءٌ من أجزاء العالَم الأعلى الشريف».
ونُقل
عن الوصية الذهبية لفيثاغورس، أو ديوجانس: «إذا فارقتُ هذا البدن أصبحتُ سابحاً في
عوالم الفلك؛ غيرَ عائدٍ إلى الإنسانية ولا قابلاً للموت».
وقال
آخر: «من قدر على خلْع جسده صعدَ إلى الفلك، وجُوزِيَ هناك بأحسن جزاء».
والصعود
إلى الفلك إنّما [يكون بـ] ذلك الجسم الأثيري بحُكم التناسب؛ فكما أنّ الجسم
العنصري أخلدَ إلى الأرض لأنّه منها ويعود إليها، فكذلك الجسم الأثيري يرقى إلى الأجسام
الفلكية الأثيرية لأنّه منها ويعود إليها.
ولا
غرابةَ لو قال بعض العرفاء: «ربّما تجردتُ من بدني هذا وارتقيتُ إلى الأفلاك وسمعتُ
تسبيحَ الملائكة»، وكلّ هذه الأحوال إنما هي لهذا البدن الأثيري المثالي لا
للعنصري ولا للروح، فإنّها ترقى إلى عالَم المجرّدات المحضة بعد كمالها لا إلى
الأجسام الفلكية والعوالم الأثيرية.
وعلى
كلٍّ، يُغنيك الوجدان عن البرهان في إثبات تلك الأبدان - الأبدان المثالية التي هي
أنت، وأنت هي - وبقاؤك به لا بهذا الجسد العنصري الذي قد عرفتَ أنّه في كلّ برهة
يتلاشى ولا يبقى منه شيء، ثمّ يتجدّد وتتعاقب في تقويمه الصوَر صورة بعد صورة،
وهيئة بعد هيئة، وهو الذي يستعمل الحواسّ ويستخدمها وتُملي عليه الرّوح المعارف
والأمور العامة فيُمليها على القلب واللسان.
انظر
إذا كنت تحفظ سورة من القرآن أو خطبة من الخطب أو قصيدة من الشّعر، فربّما تلوتَها
في نفسك وقرأتها في خاطرك، فتجِد كأنّ شخصاً في طويّتك يتلوها عليك كلمةً كلمة،
وأنت سامدٌ ساكنٌ لم تفتح فماً ولم تحرّك لساناً. وطالما كنتُ أمسِك القلم بأناملي
فأجد كأنّ إنساناً أو ملاكاً يُملي عليّ الخطبة أو الشعر أو المقال، ويجري مع
القلم من دون فكرة ولا رويّة، كأنّي أنقله من كتابٍ أمامي. وليس شيءٌ من هذه الأعمال
من وظائف الروح والنفس، وإنما وظائفها العلم والإدراك ومعرفة الكليّات المجرّدة
والأمور العامّة، مثل أنّ الكَثرة هي الوحدة والوحدة هي الكثرة، وأنّ العِلّة تَعالي
المعلول، والمعلول تَنازلُ العلّة، وأنّ الغاية هي الرجوع إلى البداية، والبداية
هي النهاية، وأمثال هذه من قواعد الحدوث والقِدم والوجوب والإمكان والجواهر والأعراض.
كما
أنّها أيضاً ليست من وظائف الجسد المادي الحيّ، فإنّ وظيفته إدراك الجزئيّات،
وثورة العواطف من تأثير الحسّ الظاهري أو الباطني. نعم، بحكم الوحدة والاتّصال بين
تلك القوى يستمدّ بعضها من بعض، ويتقوّى بعضها ببعض، وحكم العالَم الصغير مثل
العالم الكبير، فكما أنّ الجسمانيّات العنصرية مرتبطة بالفَلكيات وهي مرتبطة
بالمجرّدات، والنفوس الجزئية تستمدّ من النفوس الكلية، وهي تستمدّ من العقول المجرّدة،
فكذلك هذا الجسد الإنساني الذي انطوى فيه العالَم الأكبر ولا تُعدّ قواه ولا تُحصر.
الجسم البرزخي بين
الروح والمادة
حيث
عرفتَ جيداً أنّ في الإنسان بدناً برزخياً بين الروح المجرّد والجسد المادي، فاعلم
أنّ هذا البدن قد تغلبُ عليه الناحية الروحيّة والنَّزَعات العقلية، فيغلب على
الجسد المادي ويسخِّرُه لحُكمه ويكون تابعاً له ومنقاداً لأمره. وقد ينعكس الأمر،
فتتغلّب النواحي الماديّة والشَّهَوات الحسّيّة على المَلَكات الروحيّة فتصير
الروح مسخّرةً للمادّة تابعة لها منقادة لرغباتها وشهواتها، وهنا تصير الروح مادّة
تهبط إلى الدَّرَك الأسفل وظلمات الجهالات، ﴿..وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى
الْأَرْضِ..﴾ الأعراف:176، وهناك تصير المادّة روحاً حتّى تخفّ وتلطف وتنطبع بطابع
المجرّدات، فتسمو إلى الملأ الأعلى في هذه الحياة الدنيا فضلاً عن الحياة الأخرى،
وقديماً ما قال بعض الشعراء في سوانحهم الشعرية:
خَفَّتْ وَكَادَتْ أَنْ
تَطِيرَ بِجِسْمِهَا وَكَذَا الجُسُومُ تَخِفُّ بِالأَروَاحِ
بل
الجسم قد يطير بالروح، وقد قلت في كلمة سابقة: إنّ الأنبياء والحكماء والعرفاء ومَن
هو على شاكلتِهم من رجال الله تعالى، جعلوا أبدانهم أرواحاً، أمّا نحن فقد جعلنا
أرواحنا أبداناً، وإذا صار البدن روحاً، وغلب حكم الملك على الملكوت لم يعسر على
ذلك أن يخترق حدود الزمان وسدودَ المكان، فيحكم على الزمان والمكان ولا يحكم شيءٌ
منهما عليه. وبهذا يسهل عليك تصوّر المعراج الجسماني وسيرَه في الملكوت الأعلى
ورجوعه قبل أن يبرد فراشه، وإحضار آصف عرش بلقيس قبل أن يرتدّ إليه طَرْفُه،
ومبارحة أمير المؤمنين عليه السّلام المدينة إلى المدائن لتجهيز سلمان رضوان الله
عليه، ورجوعه من ليلته، بل وما هو أشدّ غرابة من ذلك هو حضوره عند كلّ محتَضر في
شرق الأرض وغربها؛ من مؤمنٍ أو منافق: «يَا حَارِ هَمدانَ مَن يَمُتْ يَرَنِي..».
يسهُل
عليك تصوّر هذه القضايا الخارقة لنواميس الطبيعة، بل يسهل إليك التصديقُ بها. نعم!
وإنّما يستعصي علينا الإذعانُ بها، ويجعل عندنا هذا القبيل من المستحيل انغمارُنا
في المادّة وانطمارُ أرواحنا في مفازات الطبيعة، فلا نبصر ولا نتعقّل إلّا من وراء
حُجبها الكثيفة.
ومَن
للأعمى والأكمه أن يرى نور الشمس أو يستلذّ بلَحن نغَمات الأوتار، وليس عندنا لردّ
هذه الأنوار سوى الإنكار وسدّ باب الاعتبار، أرأيت هذَين المَلَوَيْن المتعاقبَين
على هذه الكرة؟ لو قيل لك: إنّ أحداً يراهما دفعة واحدة بعينه هل تعدّ هذا المقال
إلّا من المحال، ولكن لو كان في إحدى كواكب المجرّة - التي تبعد عن نظامنا الشمسي
ملايين الملايين من الأميال - ذو بصرٍ حديد وأَيْدٍ شديد، نظرَ إلى الأرض لأَبصرَ
الليل والنهار فيها بآنٍ واحد، يعني يرى وجهَها المقابلَ للشمس والمعاكس له دفعةً
واحدة، وما ذاك إلّا لأنّه ترفّعَ عن أفُق الزمان والمكان، وخرج عن الحدود والقيود.
ولو
أنّ البدن المثالي، بما فيه من الروح، تكاملتْ ملَكَاتُه وتعالتْ روحيّاته لغلبتْ
قوّتُه على هذا البدن العنصريّ، وسار أو طار به حيث شاء، كما ربّما ينقل مثل ذلك
عن بعض المرتاضين من العرفاء الواصلين، وقد قيل لبعضهم إنّه رُوي أنّ عيسى عليه
السّلام مشى على الماء، فقال: «لَو كَمُلَ يَقينُه لَمَشَى عَلَى الهَواء»،
ولعلّ إلى هذا ومثله الإشارة في الحديث القدسيّ المعروف: «أَطِعْنِي تَكُن مَثَلِي.
أَقُولُ للشَّيء: كُنْ فَيَكُون، وَتَقُولُ لَه: كُنْ فَيَكُون».