فضائل الصمت
أعظم الصَّوم الإمساكُ عن فضول الكلام
منزلة الصمت ركن أساسي في تزكية النفس، وهي أحد أهم
الشروط التأسيسية في آداب السير والسلوك. وقد أوصى أئمّة أهل البيت عليهم السّلام
بأدب الصّمت لِما له من تحصين للنفس من الزَّلل الناتج عن كثرة الكلام. وهو ما جاء
بصريح تنبيهات الرسول الأعظم في قوله صلّى الله عليه وآله: «مَنْ صَمَتَ نَجَا».
في هذه المقالة للفيلسوف العارف السيد حيدر الآملي رحمه
الله، تأهيل شرعي وأخلاقي في فضل السكوت والصمت، وقد اقتطفناها من كتابه المعروف
(تفسير المحيط الأعظم والبحر الخِضمّ).
«شعائر»
المراد
من إمساك اللَّسان هو إمساكه عن فضول الكلام وعن كلّ ما يخالف رضا الله تعالى
وإرادته من الأوامر والنواهي، لأنّ الله تعالى لم يأمر مريم عليها السّلام في
صومها إلَّا بالإمساك عن الكلام، لقوله تعالى: ﴿.. فَقُولِي
إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا﴾
مريم:26.
ويُعلَم
صدقُ هذا أيضاً من قوله تعالى: ﴿ وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ
النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا * فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي
عَيْنًا..﴾ مريم: 25- 26.
لأنّ
هذا أمرٌ بالأكل والشّرب، وذاك أمرٌ بالسكوت عن فضول الكلام، فعرفنا أنّ أعظم الصّوم:
السكوتُ عن فضول الكلام، وهذا لو لم يكن كذلك ما قال النبيّ صلَّى الله عليه وآله
وسلّم: «مَنْ صَمَتَ نَجَا». والحكمةُ في ذلك أنّ صمتَ الظاهر من القول
باللّسان سببٌ لنُطق الباطن والقول بالجَنان، ولهذا إذا سكتتْ مريم عليها السّلام
من القول باللّسان، نطق عيسى عليه السّلام في المَهد بالبيانِ ودَعوى خلافةِ الرّحمن،
فافهم جدّاً فإنّه دقيق.
ويعرَف
من هذا سِرُّ قولُه صلّى الله عليه وآله: «مَنْ أَخْلَصَ للهِ تَعَالَى أَرْبَعِينَ
صَبَاحَاً ظَهَرَتْ يَنَابِيعُ الحِكْمَةِ مِنْ قَلْبِهِ عَلَى لِسَانِهِ». ".."
وورد
أيضاً: «هَلْ يَكُبُّ النَّاسَ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ فِي النَّارِ إلَّا حَصَائِدُ
أَلْسِنَتِهِم؟» و«حصائدُ الأَلسِنة» في الأغلب لا تُستَعمل إلَّا لفضول
الكلام.
وقال
[الإمام عليّ عليه السلام]: «..ومَنْ كَثُرَ كَلَامُهُ كَثُرَ خَطَؤُهُ، ومَنْ
كَثُرَ خَطَؤُهُ قَلَّ حَيَاؤُهُ، ومَنْ قَلَّ حَيَاؤُهُ قَلَّ وَرَعُهُ، ومَنْ
قَلَّ وَرَعُهُ مَاتَ قَلْبُهُ، ومَنْ مَاتَ قَلْبُهُ دَخَلَ النَّارَ».
ويشمل
جميعَ ذلك قولُه تعالى: ﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي
الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ *
إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ
لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ * وَلَوْلَا
إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا
سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ * يَعِظُكُمَ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا
لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ
الْآَيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ النور:14-18.
واللهِ
ثمّ واللهِ، لو لم يكن في القرآن - في هذا الباب - إلَّا هذه الآيات، لكفى جزماً
بالسكوت عن فضول الكلام، وعن الَّذي ليس لصاحبِه به علم. ومع ذلك كلَّه، فكلّ مَن
يعتقد أنّ عليه ملكَين موكّلَين وكّلهما الله تعالى ليَكتبا كلَّ ما يصدر عنه؛
خيراً كان أو شرّاً، لم يتكلَّم إلَّا بقدر الضرورة، ولا نطقَ بشيءٍ غير الخير،
والشاهد على هذا قولُه جلّ ذكره: ﴿ إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ
عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ﴾ ق:17.
وإذا
عرفتَ هذا فعليك بحفظ اللّسان والسكوت عن فضول الكلام، فإنّ مضرّتَه أكثر من
منفعته، وفسادَه أعظمُ من فائدته، وقد عرفتَ صدقَ هذا من العقلِ والنّقل، واللهُ
أعلمُ وأحكم، وهو يقول الحقَّ، وهو يَهدي السَّبيل.