في
معنى القضاء والقدر
مختارات من روايات أئمّة أهل البيت عليهم
السّلام
_____
السيّد مرتضى العسكري _____
أخذت مسألة
القضاء والقدر فسحة شاسعة في الجدل الكلامي والفلسفي، فضلاً عن الأعمال التي
قدّمها علماء التفسير والحديث في التاريخ الإسلامي.
سوى أن أحداً
من المتكلّمين والفلاسفة وأهل الحديث لم يُفلح في تقديم مقاربة يقينة ناجزة بصدد
هذه المسألة العَقَدية البالغة الأهمية.
بقيت الروايات
المنقولة عن أئمّة أهل بيت النبوّة عليهم السلام هي الفيصل في فهم حقيقة القضاء
والقدر كما نزّلها الحقّ سبحانه على قلب النبيّ الأعظم صلّى الله عليه وآله. فقد
تولّى أئمّة الهدى عليهم السلام بيان حقيقتها للناس، وذلك في سياق مهمّتهم
الإلهيّة لتبيين حقائق التنزيل والتأويل بعد ارتحال النبيّ الخاتَم إلى جوار
الرفيق الأعلى.
في ما يلي،
نصوص مختارة من الروايات الشريفة في معنى القضاء والقدر كما جمعها العلّامة السيد
مرتضى العسكري رحمه الله، ووردت في كتابه (مصطلحات قرآنية).
«شعائر»
أوّلاً:
رُوي في (توحيد) الصّدوق وفي )الكافي) للكلينيّ، واللّفظ للأخير، قال:
«كَانَ
أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عليه السّلام جَالِساً بِالْكُوفَةِ بَعْدَ مُنْصَرَفِه مِنْ
صِفِّينَ، إِذْ أَقْبَلَ شَيْخٌ فَجَثَا بَيْنَ يَدَيْه ثُمَّ قَالَ لَه: يَا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ، أَخْبِرْنَا عَنْ مَسِيرِنَا إِلَى أَهْلِ الشَّامِ؛ أبِقَضَاءٍ مِنَ
الله وقَدَرٍ؟
فَقَالَ
أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عليه السّلام: أَجَلْ يَا شَيْخُ، مَا عَلَوْتُمْ تَلْعَةً
ولَا هَبَطْتُمْ بَطْنَ وَادٍ إِلَّا بِقَضَاءٍ مِنَ اللهِ وقَدَرٍ.
فَقَالَ
لَه الشَّيْخُ: عِنْدَ الله أَحْتَسِبُ عَنَائِي يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ.
فَقَالَ
لَه: مَه يَا شَيْخُ، فَوَاللهِ لَقَدْ عَظَّمَ اللهُ الأَجْرَ فِي مَسِيرِكُمْ
وأَنْتُمْ سَائِرُونَ، وفِي مَقَامِكُمْ وأَنْتُمْ مُقِيمُونَ، وفِي مُنْصَرَفِكُمْ
وأَنْتُمْ مُنْصَرِفُونَ، ولَمْ تَكُونُوا فِي شَيْءٍ مِنْ حَالاتِكُمْ مُكْرَهِينَ،
ولَا إِلَيْه مُضْطَرِّينَ.
فَقَالَ
لَه الشَّيْخُ: وكَيْفَ لَمْ نَكُنْ فِي شَيْءٍ مِنْ حَالاتِنَا مُكْرَهِينَ ولَا إِلَيْه
مُضْطَرِّينَ وكَانَ بِالْقَضَاءِ والْقَدَرِ مَسِيرُنَا ومُنْقَلَبُنَا ومُنْصَرَفُنَا؟
فَقَالَ
لَه: وتَظُنُّ أَنَّه كَانَ قَضَاءً حَتْماً وقَدَراً لَازِماً؟ إِنَّه لَوْ كَانَ
كَذَلِكَ لَبَطَلَ الثَّوَابُ والْعِقَابُ والأَمْرُ والنَّهْيُ والزَّجْرُ مِنَ اللهِ،
وسَقَطَ مَعْنَى الْوَعْدِ والْوَعِيدِ، فَلَمْ تَكُنْ لَائِمَةٌ لِلْمُذْنِبِ ولَا
مَحْمَدَةٌ لِلْمُحْسِنِ، ولَكَانَ الْمُذْنِبُ أَوْلَى بِالإِحْسَانِ مِنَ الْمُحْسِنِ،
ولَكَانَ الْمُحْسِنُ أَوْلَى بِالْعُقُوبَةِ مِنَ الْمُذْنِبِ. تِلْكَ مَقَالَةُ إِخْوَانِ
عَبَدَةِ الأَوْثَانِ وخُصَمَاءِ الرَّحْمَنِ وحِزْبِ الشَّيْطَانِ وقَدَرِيَّةِ هَذِه
الأُمَّةِ ومَجُوسِهَا.
إِنَّ
اللهَ تَبَارَكَ وتَعَالَى كَلَّفَ تَخْيِيراً، ونَهَى تَحْذِيراً، وأَعْطَى عَلَى
الْقَلِيلِ كَثِيراً، ولَمْ يُعْصَ مَغْلُوباً، ولَمْ يُطَعْ مُكْرِهاً، ولَمْ يُمَلِّكْ
مُفَوِّضاً، ولَمْ يَخْلُقِ السَّمَاوَاتِ والأَرْضَ ومَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً،
ولَمْ يَبْعَثِ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ ومُنْذِرِينَ عَبَثاً، ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ
كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ..».
ثانياً:
عن الإمام جعفر بن محمّد الصّادق عليه السّلام:
أ)
«إنَّ النّاسَ فـي الـقَدَرِ عَلى ثَلاثَةِ أَوْجُهٍ:
رَجُلٌ
يَزْعُمُ أَنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ أَجْبَرَ النّاسَ عَلى المَعاصي، فَهَذا قَدْ
ظَلَمَ اللهَ في حُكْمِهِ فَهُوَ كافِرٌ.
ورَجُلٌ
يَزْعُمُ أَنَّ الأَمْرَ مُفَوَّضٌ إِلَيْهِمْ، فَهَذا قَدْ أَوْهَنَ اللهَ في سُلْطانِهِ
فَهُوَ كافِرٌ.
ورَجُلٌ
يَزْعُمُ أَنَّ اللهَ كَلَّفَ العِبادَ ما يُطيقونَ وَلَمْ يُكَلِّفْهُمْ ما لا يُطيقونَ،
وَإِذا أَحْسَنَ حَمِدَ اللهَ، وَإِذا أَساءَ اسْتَغْفَرَ اللهَ، فَهَذا مُسْلِمٌ
بالِغٌ».
ب)
«لَا جَبْرَ ولَا تَفْوِيضَ ولَكِنْ أَمْرٌ بَيْنَ أَمْرَيْنِ، قَالَ الرّاوي،
قُلْتُ: ومَا أَمْرٌ بَيْنَ أَمْرَيْنِ؟ قَالَ: مَثَلُ ذَلِكَ: رَجُلٌ رَأَيْتَهُ
عَلَى مَعْصِيَةٍ فَنَهَيْتَهُ فَلَمْ يَنْتَهِ، فَتَرَكْتَهُ، فَفَعَلَ تِلْكَ الْمَعْصِيَةَ،
فَلَيْسَ حَيْثُ لَمْ يَقْبَلْ مِنْكَ فَتَرَكْتَهُ كُنْتَ أَنْتَ الَّذِي أَمَرْتَهُ
بِالْمَعْصِيَةِ».
ج)
«ما اسْتَطَعْتَ أَنْ تَلومَ العَبْدَ عَلَيْهِ فَهُوَ مِنْهُ، وَما لَمْ تَسْتَطِعْ
أَنْ تَلومَ العَبْدَ عَلَيْهِ فَهُوَ مِنْ فِعْلِ اللهِ. يَقولُ اللهُ تَعالى للْعَبْدِ:
لِمَ عَصَيْتَ؟ لِمَ فَسَقْتَ؟ لِمَ شَرِبْتَ الخَمْرَ؟ لِمَ زَنَيْتَ؟ فَهَذا فِعْلُ
العَبْدِ. وَلا يَقولُ لَهُ: لِمَ مَرِضْتَ؟ لِمَ عَلَوْتَ؟ لِمَ قَصُرْتَ؟ لِمَ ابْيَضَضْتَ؟
لِمَ اسْوَدَدْتَ؟ لِأَنَّهُ فِعْلُ اللهِ تَعالى».
ثالثاً:
عن الإمام أبي الحسن الرّضا عليه السّلام، قال:
أ)
«إنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يُطَعْ بِإكْراهٍ، وَلَمْ يُعْصَ بغَلَبَةٍ، وَلَمْ
يُهْمِلِ العِبادَ في مُلْكِهِ، وَهُوَ المالِكُ لِما مَلَّكَهُمْ، وَالقادِرُ عَلى
ما أَقْدَرَهُمْ عَلَيْهِ، فَإِنِ ائْتَمَرَ العِبادُ بِطاعَتِهِ لَمْ يَكُنِ اللهُ
عَنْها صادّاً، ولا مِنْها مانِعاً، وَإِنِ ائْتَـمَـروا بِـمَعْصِيَتِهِ فَشاءَ أَنْ
يَحُولَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ذَلِكَ فَعَلَ، وَإِنْ لَمْ يَحُلْ وَفَعلوهُ فَلَيْسَ
هُوَ الذي أَدْخَلَهُمْ فيهِ».
يـعـني
أنَّ الإنسان الذي أطاع الله تعالى، لم يَكُن مجبَراً على الطّاعة، والإنسان الذي
عصاه لم يَغلب مشيئةَ الله، بل اللهُ شاءَ أن يكون العبدُ مختاراً في فعله.
ب)
وقال عليه السّلام: «قالَ اللهُ تَباركَ وَتَعالى [في
الحديث القدسيّ]: يَا ابْنَ آدَمَ، بِمَشِيئَتِي كُنْتَ
أَنْتَ الَّذِي تَشَاءُ لِنَفْسِكَ مَا تَشَاءُ، وبِقُوَّتِي أَدَّيْتَ فَرَائِضِي،
وبِنِعْمَتِي قَوِيتَ عَلَى مَعْصِيَتِي، جَعَلْتُكَ سَمِيعاً بَصِيراً قَوِيّاً، مَا
أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ الله، ومَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ».
شرح الرّوايات
إنّ
للجبر والتّفويض جانبَين:
أ)
ما كان منهما من صفات الله تعالى.
ب)
ما كان منهما من صفات الإنسان.
فما كان منهما من صفات الله تبارك وتعالى، فينبغي
أخذُه منه سبحانه بوساطة الأنبياء، وأوصياء الأنبياء، عن الأنبياء.
وما
كان مـن صفات الإنسان، فإنّ قولَنا: أفعلُ هذا أو لا أفعلُه دليلٌ على أنّنا نفعل
ما نفعله باختيارنا، وقد تقرّر في محلّه أنّ سيرَ الإنسان في حياته لا يُشابه سَير
الذّرّة والكواكب والمجرّات المسخَّرات بأمر الله في كلّ حركاتها، وما يصدر منها
من آثار.
[في
المقابل]، لم يفوِّض الله عزّ وجلّ إلى الإنسان أمرَ نفسه وكلَّ ما سخّر له ليفعل
ما يشاء كما يحبّ وكما تَهوى نفسه، بل إنّ الله تعالى أرشـدَه بـوسـاطـة أنبيائه
كيف يؤمن بقلبه بالحقّ، وهداه إلى الصّالح النّافع في ما يفعلُه بجوارحه، ودلَّه
على الـضّارّ منه، فإذا اتّبع هدى الله وسار على الطّريق المستقيم خطوةً واحدة، أخذَ
الله بيده وسار به عشر خـطوات، ثمّ جزاه بثمار عمله في الدّنيا والآخرة سبعمائة مرّة
أضعاف عمله، واللهُ يضاعف لمَن يشاء بحكمتِه ووفق سنّته.
فـلولا
إمدادُ الله عبيدَه بكلّ ما يملكون من طاقات فكريّة وجسديّة وما سخَّر لهم في هذا
العالم، لما اسـتـطـاع المؤمن أن يعملَ عملاً صالحاً، ولا الضّالّ الكافر أن يعملَ
عملاً ضارّاً فاسداً. إذاً، فإنّ الإنسان يفعلُ ما يفعل - بما منحَه الله - بمَحض
اختياره. وبناء على ما بيّناه، نخلص إلى أنّ الإنسان لم يفوَّض إليه الأمـر في هذا
العالَم، ولم يُجبَر - في المقابل - على فعل، بل هو أمرٌ بين الأمْرَين، وهذه هي
مشيئةُ الله وسنّتُه تعالى في أمر أفعال العباد، ولن تجدَ لسُنّة الله تبديلاً.