﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ..﴾
فضلٌ في العَفو، وعدلٌ
في العقاب
____ العلّامة السّيّد عبد الله شبّر رحمه الله ____
المقالة التّالية للعلّامة السّيّد عبد الله
شبّر من كتابه (السّلوك إلى الله) تتناول أهمّيّة تذكُّر مراحل ما بعد الموت؛ من
القبر إلى الحساب. فإذا أحسن المرء استحضار هذه المواقف أفلحَ في سلوكه وأعدّ
العدّة ليومٍ لا ينجو فيه إلّا مَن أتى الله تعالى بقلبٍ سليم.
المعاد، وأصلُه مكان العَوْد، أو زمانُه.
والمرادُ به أنَّ الله سبحانه يُعيدُ أبداننا بعد موتها مع أرواحها كهيئتها للجزاء
على الأعمال. ولولا المعاد لكان التّكليف عَبَثاً وذهبت مظالمُ العِباد، وتَساوى
أهل الصّلاح والفساد. وقد تظافرت به الآيات، وتواترت به الرّوايات فيجبُ الإقرارُ
به. وكلُّ ما أخبر به النّبيّ الصّادق صلّى الله عليه وآله فهو حقّ. والموت
عَيَانٌ لا يحتاجُ إلى بيان: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ..﴾ آل عمران:185، وهو مصلحةٌ للمؤمن وللكافر كما في
الرواية عن أمير المؤمنين عليه السّلام.
وليس الموتُ أمراً يَعدمنا، بل هو الحياة
الحقيقيّة كما قال صلّى الله عليه وآله: «خُلِقتُمْ لِلبَقاءِ لا لِلفَناءِ»،
وفي المرتضويّ: «النَّاسُ نِيامٌ، فَإذا مَاتُوا انْتَبَهُوا».
من القبر إلى الحساب
* المُساءَلةُ في القبر، وثوابُه، وعذابُه حقٌّ لإخبار النبيّ صلّى الله عليه وآله والمعصوم عليه السّلام بها، فيَجبُ الإذعانُ بذلك كلّه. قال
تعالى: ﴿..وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ
يُبْعَثُونَ﴾ المؤمنون:100. والبرزخ هي الحالةُ التي تكون ما بين
المَوت والبعث. وتكون الرّوحُ في هذه المدّة في بدنها المثاليّ، الّذي يرى الإنسانُ
نفسَه فيه في النّوم. فالنّوم أخُ الموت، وفي النّبويّ الشّريف: «وَالَّذي
بَعَثَني بِالحَقِّ لَتَموتُنَّ كَما تَنامونَ، ولَتُبعَثُنَّ كَما تَستَيقِظونَ».
وأكثر ما يكون عذابُ
القبر من سوء الخُلُق، والنّميمة، والاستخفاف بالتَّطَهُّر من البَول. وهو للمؤمنين
كفّارةُ ما بقيَ عليهم من الذّنوب التي لا تُكفّرها الهموم، والغموم، والأمراض،
وشدّةُ النّزع عند الموت، وتَطاير الكتب، ونشْرُها. وقد رُوي: «مَا أَقَلَّ مَنْ
يُفْلِتُ مِنْ ضَغْطَةِ الْقَبْرِ».
* والميزان والحساب
حقّ؛ قال تعالى: ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ
لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ..﴾ الأنبياء:47.
والميزانُ ميزانان: ميزانٌ باطنيّ، وهو الأنبياء والأئمّة، كما عن الإمام الصّادق
عليه السّلام، قال: «هُمُ الأَنْبِياءُ وَالأوْصِياء». وميزانٌ ظاهريّ، كما
في الآيتَين من سورة الأعراف: ﴿وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ
فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ
خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآَيَاتِنَا يَظْلِمُونَ﴾ الأعراف:8-9، فمَن ثقُلت أعمالُه في الباطنيّ
ثقُلت في الظّاهريّ، ومَن خفّت أعمالُه في الباطنيّ خفَّت في الظّاهريّ. والواجبُ
الإيمان بالميزان إجمالاً. ولا يجب العِلم بكيفيّته، وتفاصيله. وسُئل أمير
المؤمنين عليه السّلام كيف يحاسبُ اللهُ الخلقَ على كَثرتهم؟ فقال عليه السّلام: «كَما
يَرزُقُهُمْ على كَثْرتِهِمْ».
وفي الكتاب العزيز: ﴿..وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ﴾ الأنعام:62. ويأبى الله تعالى إلّا أن يعرّفهم
حقيقةَ ذلك؛ ليبيّن لهم فضلَه عند العفو، وعدلَه عند العقاب؛ فيخاطب عبادَه جميعاً
- من الأوّلين والآخرين - بمُجمَلِ حسابِ أعمالهم مخاطبةً واحدة، يسمع كلُّ واحدٍ
منهم قضيّتَه دون غيره، ويظنّ أنّه المخاطَب دون غيره، لا تشغلُه عزَّ وجلَّ
مخاطبةٌ عن مخاطبة، ولا ينجو من خطر الميزان والحساب إلّا مَن حاسبَ نفسه في
الدّنيا، ووزنَ بميزان الشّرع أعمالَه، وأقوالَه، وخطَراته، ولَحَظاتِه.
(بتصرّف)