نَفْيُ
الصِّفَات
دلالاتُها الاصطلاحيّة، ومقاصدُها القرآنيّة
ــــــــــــــــــ
العلامة الشّيخ محمّد جواد مغنيّة*
ــــــــــــــــــــ
لا
يختلفُ اثنان من المسلمين في أنّ الله سبحانه يوصَفُ بكلّ ما وَصَفَ به نفسه في
كتابه العزيز، وأنّ عظَمته في الكمال والجلال كما هي لا يحدّها وَصْفٌ، ولا يُدركها
عقل، وأنّها أزليّةٌ أبديّة تماماً كذاتِه القُدسِيّة.. وإنّما الكلام والخلاف في
أنّ الصّفات العليا بأيّ معنى تنسب إليه تعالى، وتطلق عليه؟
-
هل تُنسب إليه، جلَّت عظَمته على أنّها شيءٌ غير الذّات، وزائدة على كُنهها
وحقيقتها تماماً كما هي الحال في وصف الإنسان بالعلم، فإنّ حقيقة الإنسان حيوان
ناطق، وحقيقة العلم الكشف عن الواقع، فإذا وصفنا الإنسان بالعلم فقد وصفناه بما هو
زائد وخارج عن ذاته وطبيعته، وإلّا كان الإنسان - بما هو - عالماً من غير كسبٍ
واستفادةٍ وبحثٍ ودرس، وهذا خلاف الحسّ والوجدان.
-
هل وصفُ الله بالعلم وغيره كذلك وعلى هذه الحال، أو أنّ الله يوصَف بالعلم والقدرة
بمقتضى ذاته وحقيقته، لا بشيء زائد عنها تماماً كوصف الإنسان بالإنسانيّة، والشّجر
بالشّجريّة، مثلاً؟
آراء المُتكلّمين
قال
الأشاعرة: كلّ صفاته، تعالى، غيرُ ذاته وزائدةٌ عليها، ومعنى هذا أنّ ذاته - بما
هي - لا تقتضي العلم والقدرة ونحوهما من الكمال، تماماً كما أنّ ذات الإنسان لا
تقتضي العلم. وقد تخطّوا بذلك حدود التّوحيد حيث يلزمُهم القول بتعدّد القديم، كما
تخطّوا حدود العدل في قولهم بالجَبر.. وما لنا ولهم، فلنَدعهم وشأنهم.
وذهب
أهل العدل والتّوحيد إلى أنّه لا صفات لذاتِ الله تزيد على ذاته، وأنّ وصفَه
بالعلم والقدرة تماماً كوصف الإنسان بالإنسانيّة، والشّجر بالشّجريّة، لأنّ ذاته
تعالى - بما هي وبطبعها وحقيقتها - تقتضي العلم والقدرة، بل هي عينُ العلم والقدرة،
كما أنّ الإنسانيّة عينُ الإنسان، لأنّ كماله تعالى ذاتيّ لا كسبيّ، ومطلَق غير
مقيَّد بشيءٍ دون شيء، وجهة دون جهة، وأنّه بموجب هذا الكمال الذّاتيّ المطلق غنيٌّ
عن كلّ شيء يزيد على ذاته وكُنهه..
ولماذا
الزّيادة وما هو الدّاعي إليها ما دامت الذّات القدسيّة كاملةً بنفسها من كلّ
الجهات، وهل نحتاج إلى الزّائد لنكملَ به الكامل، ونتمّمَ التّامّ، وعلى هذا إذا أُطلقت
صفات الكمال عليه تعالى - كالعالم والقادر - فيجب أن يراد بها نفس الذّات القدسيّة
التي تقتضي القدرة والعلم، بل هي عين العلم والقدرة، تماماً كما يراد من كلمة «الله».
وكلّ وصفٍ جاء في القرآن الكريم، وعلى ألسنة الرّاسخين في العلم فإنّ المراد هذا
المعنى بالخصوص..
وحدة الذّات، وتعدّد الصّفات
أمّا
الصفات المنفيّة عن ذاته تعالى في كلام أمير المؤمنين عليه السّلام، فهي الأحوال الخارجة
عن الذّات والزّائدة عليها وتعرّض لها بسببٍ من الأسباب، تُنفى هذه عنه لأنّها من
صفات المخلوقين دون الخالق.
وتسأل:
كيف نتصوّر وحدةَ الذّات مع تعدّد الصّفات، وهل هذا إلّا كقول مَن قال: الأب
والابن وروح القدس إلهٌ واحد؟
وأجاب
البعض بأنّ الصّفات بالنّسبة إليه تعالى متعدّدةٌ مفهوماً متّحدةٌ مصداقاً.
وهذا
الجواب - كما نرى - لا يحلّ الإشكال، لأنّ صدقَ المفاهيم العديدة على شيءٍ واحد
يستدعي أن تكون به حيثيّاتٌ عديدة، فيُقال: هو عالمٌ لصِدق مفهوم العلم عليه،
وقادرٌ لصِدق مفهوم القدرة.. والله واحدٌ من كلّ وجهٍ لا حيثيّات له وجهات.. أجل،
يقال: هو علمٌ لأنّ العلم ذاتيّ له، وهو عالمٌ لأنّه يعلم كلّ شيء، ولكنّ الجهة
هنا واحدة، وهي العِلم.
والأَولى في الجواب:
أنّه لا مصداقَ ولا مفاهيم، ولا حيثيّات وجِهات.. لا شيءَ على الإطلاق إلّا واجبُ
الوجود الكامل المطلَق من كلّ وجه، وإنّ التّعدّد إنّما هو في أنواع الكمال
وأقسامه، لا في ذات الكامل المطلَق الذي هو المبدأ الأوّل لكلّ كمال.
وبتعبيرٍ ثانٍ:
كما أنّ تعدّد المخلوقات لا يتنافى مع وحدة الخالق، كذلك تعدّد الكمالات لا يتنافى
مع وحدة مبدئها ومصدرها.
يقول
الإمام عليّ عليه السّلام: «وَكَمالُ الإِخْلاصِ لَهُ نَفْيُ الصِّفاتِ عَنْهُ».
أي نفيُ الصّفات الخارجة عن الذّات وطبيعتها، لا نفيُ الصّفات التي هي عينُ الذّات
وحقيقتُها، وإلّا فإنّ «كلام الإمام عليه السّلام مليءٌ بصفات الله سبحانه، بل هو
في هذا الكلام يصفُه أكملَ الوصف»، كما قال الشّيخ محمّد عبده.
_______________________________________
* فقيه وعالم دين من
لبنان توفّي سنة 1979م، والنّصّ مقتطف من كتابه (في ظلال نهج البلاغة)
معنى «نَفي
الصفات» في كلام أمير المؤمنين عليه السلام
«ما ورد في كلام أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السّلام: (وَكَمالُ
الإِخْلاصُ لَهُ نَفْيُ الصِّفاتِ عَنْهُ)؛ فالمرادُ به نفيُ الصّفة
الموجودة بوجودٍ غيرِ وجودِ الذّات، كالبياض في الأبيض، لا كالنّاطق للإنسان.
ولمّا كان أكثر ما يُطلق عليه اسمُ الصّفة هو الّذي يكون أمراً عارضاً، ولا
يُقال للمعاني الذّاتيّة للشّيء إنّها صفاتٌ له، نفى عنه [تعالى] الصّفة. ألا ترى
إلى قوله عليه السّلام بعد ذلك: «فمَنْ وَصَفَ اللهَ سُبْحانَهُ فَقَدْ
قَرَنَهُ، وَمَنْ قَرَنَهُ فَقَدْ ثَنّاهُ»، فعُلم أنّه عليه السّلام أراد
بالصّفة ما قارنَ الذّات الموجب للاثنينيّة فيها.
فالعلمُ في غيره، سبحانه، صفةٌ زائدةٌ، وفيه نفسُه تعالى؛ فهو علمٌ باعتبار
وعالِمٌ باعتبار، وهكذا في سائر الصّفات. وهذه الاعتبارات العقليّة لا توجِبُ
تكثّراً في ذاته بوجهٍ من الوجوه، ولا تخلّ بوحدانيّته الصّرفة الخالصة أصلاً، بل
تزيده وحدةً، لأنّه لو فُرض أنّه لم يكن في ذاته شيءٌ منها، لما كان واحداً
حقيقيّاً؛ مثلاً لو فرض أنّه علم وليس بقدرة، أو أنّه علم وليس بعالمٍ، لكان فيه
جهةٌ غير جهةِ الوجوب والوجود، وهي جهةُ الإمكان والعدم، فيلزم تركُّبه من جهتَيْن
وهو محال».
(الوافي، الفيض الكاشانيّ)