العقل الّذي «فيه شيء»، يَغزو العالم الإسلاميّ*
لم يترك أيٌّ من الفقهاء أثراً في الفكر الدّينيّ،
والسّياسيّ المتّصل بالدّين، كما ترك ابن تيميّة. ولد في العام (661 للهجرة/ 1263
للميلاد)، أي في ذروة عصر الانحطاط والتّقهقر الذي بدأ يشهده العالم الإسلاميّ
وتفكّك الإمبراطوريّة العربيّة الإسلاميّة، فكان لهذا التّقهقر أثره في فكره وفتاواه.
كتب أحمد بن تيمية الحرّاني (ت: 728 للهجرة) في العقيدة وفنّد آراء المتكلّمين
وخصوصاً المعتزلة منهم، وجادل في كلّ صغيرة وكبيرة تتّصل بالإسلام، نصّاً قرآنياً
وأحاديث نبويّة، حتى لقِّب بشيخ الإسلام. تأثّر بمذهب ابن حنبل الذي يوصف بالتّشدّد
وخصوصاً في الاجتهاد في النّصّ الدّينيّ وتأويلاته. طوّر نظريّة الجهاد لدى
المسلمين وأعطاها أبعاداً دينيّة ودنيويّة، مشدّداً على مقولات من قبيل «إنّ غير
المؤمن تجب عداوته»، وعلى ضرورة «إهانة غير المسلم وإهانة مُقدّساته»، وصولاً إلى
تبنّي نظريّة «دار الإسلام ودار الكفر»، أي عمليّاً «دار الحرب» لكلّ مَن لا ينتمي
إلى الإسلام، وهي النّظريّة «الحبيبة» على قلوب التّنظيمات الجهاديّة المنتشرة
اليوم في العالمَين العربيّ والإسلاميّ. ليس لمقولة «دار الإسلام» أو «دار الكفر»
أو الحرب، أثَر في القرآن أو السّنّة النّبويّة، بل نشأت في العهد الأمويّ، وقال
بها الفقيه أحمد بن حنبل.
عاصر الرحّالة المعروف ابن بطّوطة الفترة الزّمنيّة
التي كان يخطب فيها ابن تيميّة ويعطي اجتهاداته. في كتابه الممتع، (تحفة النّظّار
في غرائب الأمصار)، يحكي الرحّالة المغربيّ ابن بطّوطة عن أهمّ مشاهداته خلال
رحلاته التي استغرقت ثلاثين عاماً من الترحال والطواف
في مختلف الأقطار والأمصار. ويهمّنا في هذا الباب أن نسرد واقعة طريفة ومعبّرة
عاينها أثناء حضوره صلاة الجمعة بجامع دمشق، حيث كان إمام الصّلاة حينها شيخ
الإسلام ابن تيميّة. يعترف الرحّالة المغربي أنّ ابن تيمية كان «كبير الشام» و«أهل
دمشق يعظّمونه أشدّ التّعظيم»، لكنّه يضيف متداركاً «إلّا أنّ في عقله شيئاً». وهي
كما لا يخفى صيغة مهذّبة للقول بأنّ في عقل الرّجل خَللاً ما. لم تكن تلك الملاحظة
ملاحظةَ شيخٍ من منافسي ابن تيميّة حتى نقول إنّها مجرّد غِيرة وتحامل، بل كانــت
مـــلاحظة رحّــالة منقطع للتّرحــال وتـــسجيل المـــشاهدات بدقّةٍ بالــغة.
الواقعة التي عاينها
الرحّالة ابن بطوطة باستغرابٍ لدى حضوره خطبة ابن تيميّة في يوم الجمعة، هي أنّ شيخ
الإسلام بدأ يشرح للنّاس، فيقول: «إنّ الله ينزل إلى السّماء الدّنيا كنزولي هذا»،
ونزل درجة من درج المنبر. وبينما هو يشرح على ذلك النّحو، انبرى إمامٌ مالكيّ حضر
الصّلاة مُحتجّاً على ابن تيميّة وسوء توصيفه للذّات الإلهيّة، فقامت قيامة العامّة
على ذلك الفقيه المالكيّ وضربه المصلّون بالأيدي والنّعال. وقد حدث كلّ هذا أمام
استغراب «الضّيف» المغربيّ.
المرشد الرّوحي لـ«داعش»
وأمّا السّؤال: كيف تأتّى
لابن بطّوطة أن يلاحظ على ابن تيميّة أنّ في عقله شيئاً؟ فلا إجابة واضحة عنه. لكن لا يخامرنا أدنى شكّ في أنّ الرحّالة المغربيّ لم يكن
يتصوّر أنّ ذلك العقل الذي «فيه شيء»، هو العقل الذي سيغزو معظم العالم الإسلاميّ،
وضمــنه بلده المغرب.
بصرف النّظر عن ملاحظات
ابن بطّوطة عن ابن تيميّة، ألهَم الرّجل التّنظيمات الدينيّة ذات الطابع السياسيّ،
وشكّل الأب الرّوحيّ للحركات السلفيّة، وعلى الأخصّ منها الحركة الوهّابيّة التي
أسّسها محمّد بن عبد الوهّاب في الحجاز، التي لا تزال تشكّل الأسس العقائديّة للشّريعة
في المملكة العربيّة السعوديّة.
غزا فكر ابن تيميّة
التنظيمات السلفيّة، فقاد بفكره تنظيم «القاعدة» وجبهة «النّصرة»، ويشكِّل اليوم
المرشد الروحيّ لـ «داعش»، وخصوصاً في ما يتّصل بالمجموعات غير الإسلاميّة وكيفيّة
التعاطي معها، بفرض دخولها
إلى الإسلام، وإلّا واجهت مصيراً يبدأ بفرض الجزية عليها أو تهجيرها من أرضها،
وصولاً إلى إرسالها إلى القبور.
يكتسب الحديث عن ابن تيميّة
أهمّيته الاستثنائيّة من كون الرجل يقيم بقوّةٍ بين ظهرانينا اليوم، على رغم مضيّ
ثمانية قرون على وفاته بالجسد. فهو يقود المنظومة الفكريّة للتيّارات السلفيّة
التي شهدت صعودها منذ أكثر من أربعة عقود، وتعيش ذروة هذا الصّعود بعد الانتفاضات
العربيّة، وانهيار بُنى الدولة والمواقع التي تسجّلها التيارات السلفيّة على الأرض
في أكثر من بلدٍ عربيّ، وتفرض بموجبها قوانينها وشريعتها على المسلمين وغير
المسلمين، مستلهمةً بذلك فقه ابن تيميّة الحاضر أبداً في نظرها.
لا شكّ في أنّ ابن تيميّة
كان ابن عصره المليء بالفوضى والحروب ضدّ المسلمين بعد انهيار الإمبراطوريّة ودخول
العرب والمسلمين في مرحلة الانحطاط، كما أنّه عاش في ذروة الصراعات اللّاهوتيّة في
الإسلام، ما جعله ينحاز
إلى المدارس المُتشدّدة الرّافضة التأويل العقلاني للنصّ الدينيّ وللشريعة على
السواء، ما جعل فتاويه أكثر تشدّداً من المدرسة الحنبليّة التي كان ينتسب إليها.
ابن تيمية يقود التكفيريّة المعاصرة
لقد فضحت الانتفاضات
العربيّة هذا التجمّد عند مقولات فقهيّة تآكلت مع الزمن، لكنّها لا تزال حيّة في كُتب
التعليم والإرشاد التابعة للمؤسّسات الدينيّة، بل ويجري فرضها بالقوّة في بعض
الأماكن. إنّ هول ممارسات التنظيمات المتطرّفة التي أمكنها فرض سيطرتها، بما
يرافقها من عنفٍ وقتلٍ وتدميرٍ باسم الدّين الإسلاميّ، قد دفع، بصعوبة، بعض القيِّمين
على المؤسّسات الدينيّة لإطلاق تصريحات مندِّدة بالتصرفات الجارية، نافيةً عنها
انتسابها إلى الدّين الإسلاميّ، لكن من دون أن تشير الى أنّ هذا العنف يجد مرجعه
في الفكر والفقه اللّذين يجري تعليمهما وإنتاجهما في البلدان العربيّة على العموم.
تحت ضغط المؤسّسة
السياسية، صدرت تصريحات من مسؤولين في المؤسّسة الدينيّة في المملكة العربيّة
السعوديّة تناولت ممارسات «داعش». فقد صرّح مفتي السّعودية، الشيخ عبد العزيز آل
الشيخ: «داعش فئة ظالمة معتدية، ويجب على المسلمين قتالها إذا قاتلت المسلمين»،
وهو تصريح يشي صراحةً بحقّ هذا التنظيم في قتال غير المسلمين، فيما لا يشير الشيخ
الجليل إلى أصل المشكلة في صعود هذا التنظيم ومسؤوليّة المنظومة العقائديّة
السائدة في بلده.
فعلى سبيل المثال، إنّ
جامعة «الإمام محمّد بن سعود» التي هي أكبر الجامعات الإسلاميّة في العالم، تضمّ
أكثر من عشرين ألف طالب يدرسون فيها الشّريعة، وتحمل بعض رسائل الدكتوراه التي
ينتجها طلّابها عناوين من قبيل: «النصيحة الإيمانيّة في فضيحة الملّة النصرانيّة»،
«أوجه الشّبه بين اليهود والرافضة في العقيدة»، «اليمانيّات المسلولة على الرافضة
المخذولة»، وغيرها من العناوين المتشابهة. فهل من عجب أن تخرج من جبّة هذه المؤسّسات
الفكرية تلك النماذج من المجاهدين؟