لمّا
تآمرت قريش على قتل الرّسول الأعظم صلّى الله عليه وآله
وزّعوا دَمَه بين القبائل
_____
د. طه جابر العلواني* _____
منذ أن تآمرت قريش على قتل رسول
الله، صلّى الله عليه وآله، وأوصلهم قائدهم إبليس إلى تلك الفكرة الجهنميّة، فكرة
انتداب شابّ جلد قويّ من كلّ قبيلة من قبائل العرب وقبائل قريش، لضرب سيّدنا رسول
الله، صلّى الله عليه وآله، ضربة واحدة مشتركة، تقضي عليه، ويتفرّق دمه بين
القبائل، فلا يستطيع بنو هاشم أن يحاربوا القبائل كلّها، فيرضخون للأمر الواقع،
ويقبلون الدّية؛ تلك المؤامرة أفشلها الله تبارك وتعالى، وقد سقطت بهجرة رسول الله
صلّى الله عليه وآله ووصوله إلى المدينة سالمـًا معافًى، وفكرة تفريق الإسلام
وتمزيقه وتوزيع مسؤوليَّة ذلك على قبائل عديدة، كأنَّها هاجس خفيّ يظهر بين فترة
وأخرى؛ لتمزيق الإسلام وتفريق دمه بين القبائل.
وفي عصرنا هذا نجد الظّاهرة
بارزة بأجلى معانيها، وبأقوى ممّا كان إبليس قد فكّر به وأوحى بالفكرة إلى زعماء
قريش، فالإسلام اليوم كأنَّه رقعة كبيرة واسعة تقطع القبائل بها لتأخذ كلّ قبيلة
منها بنصيب، وفقًا لأهوائها ورغباتها ودوافعها ومصالحها وشهواتها، وما إلى ذلك، ثمّ
توضع الأسماء بعد ذلك على تلك القطع، أو على الأديم الممزّق الذي كان اسمه
الإسلام، فالسّياسيّون الطّامحون يؤدّون أدوارًا سياسيَّة يتقنونها أو لا يتقنونها،
يقتطعون قطعة ثمّ يُطلق عليها الإسلام السّياسيّ، ويأتي آخرون ليقتطعوا قطعة أخرى
ويطلقون عليها الإسلام التّربويّ، ويأتي فريق ثالث ليقدّم لنا الإسلام السّنّيّ، وفريقٌ
رابع يقتطع منه قطعة أخرى ليسمّيه الإسلام الشّيعيّ أو الرّافضيّ أو أيَّة تسمية
أخرى.
ويأتي الرّاغبون بالرّاحة
والعزلة فيقطعون لأنفسهم قطعًا يطلقون عليها الإسلام الصّوفيّ، والجهاديّ،
والأشعريّ، والماتريديّ، والعقلانيّ، والمعتزليّ، ثمّ برزت لنا اليوم فئةُ المسلمين
الدّيمقراطيّين ليأخذوا نصيبهم من هذا الأديم الممزّق الذي كان اسمه الإسلام،
فيقطعون لأنفسهم قطع ويقولون: إنَّه الإسلام الدّيمقراطيّ، وهكذا يفعل اللّيبراليّون،
وقبل ذلك فعلها الشّيوعيّون، وبرزت اشتراكيّة الإسلام، وشيوعيّة الإسلام، فما أكثر
المزق والقطع التي مزّق هذا الأديم المسكين إليها!
وجاء آخرون ليطرحوا علينا رأس
ماليّة الإسلام، وليبراليّة الإسلام، والإسلام المذهبيّ، والإسلام اللّامذهبيّ،
إلى آخر القائمة التي ما تزال مفتوحة للجديد، وكأنَّ هذا الإسلام ليس له مرجعيَّة
يرجع إليها، وتحدّد بمقتضاها مفاهيمه ومعانيه ومقاصده وغاياته، فهو نَهب لكلّ أحد،
وهي صورة مُفزعة مفجعة، وكأنَّهم يريدون أن يقولوا: ماذا نفعل وهو حمّال أوجه،
فعليه أن يحتمل كلّ هذا الرّكام، وكلّ هذه العناوين، ويمدّ أصحابها بما يرغبون
وبما لا يرغبون.
ومرجعيّته المعصومة شاهدة عليهم،
ورسول الله، صلّى الله عليه وآله، يرقب ما أحدثوا بعده، وسينبّئه الله، جلّ شأنه،
بما أحدث النّاس بعده في هذا الدّين، وكيف قطّعوه ومزّقوه إربًا، وفرّقوا دمه بين
قبائلهم وطوائفهم وفرقهم المخذولة، وخذلوه فما زادهم الله إلّا خبالًا، وتخسيرًا؛
ولذلك شعرت بتعاطف مع شوقي في قوله:
بِأيمانِهِمْ
نورانِ: ذكرٌ وسُنَّة
|
فَما
بالُهُمْ في حالِكِ الظُّلُماتِ؟
|
وهذه المصائب التي تنال من الأُمَّة
ليلَ نهارَ، وتتفجّر في أقاليمها وأقطارها في كلّ حين، يمكن أن تزداد وتكبر وتتّسع
وتقضي على الأخضر واليابس، لكنّ الله، جلّ شأنه، يرحم فينا أطفالًا رضّعاً لم نعد
نعرف كيف نرحمهم، وشيوخًا ركّعاً لم نعد نعرف كيف نعتني بهم، وبهائم رتّعاً لم نعد
نعرف كيف نهتمّ بها، يرحمنا بضعفائنا، ويتفضّل علينا بوجود القرآن بيننا، فذلك لا
يعني أنَّنا سوف نظلّ في عين العناية، فإنّ لذلك نهاية؛ فلنَحذر النّهاية، ولنَعد
إلى الله، جلّ شأنه، ولنعد إلى مرجعيّة الكتاب، وهَدي النّبيّ الخاتم، وأحكام
القرآن الحاكم، وقيمه، ومقاصده، فهو فينا ذكر، وبصائر، وكتاب مبين، ونبيّ مقيم.
___________________________________
* مفكّر ورئيس المعهد العالميّ للفكر
الإسلاميّ