حبُّ الله تعالى، منبع كلّ حسنة
____ الشّهيد السّيّد عبد الحسين دستغيب قدّس
سرّه ____
﴿مَا جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ
فِي جَوْفِهِ..﴾ الأحزاب:4.
لا يكون القلب موحّداً إلّا إذا خلُص من لَوْثَة حبّ الدّنيا؛ لاستحالة إشراك حبّ
الله تعالى مع حبّ من سواه.
ما يلي، مقتطف من كتاب (القلب
السّليم) للشهيد السّيّد عبد الحسين دستغيب، رحمه الله، يبيّن فيه أنّ حبّ الدّنيا
– وهو رأسُ كلّ خطيئة - منشأه الجهلُ بالله تعالى، وأنّ معرفته سبحانه تُفضي إلى
حبّه وحبّ أوليائه، وهو أساسُ كلّ فضيلة.
﴿قُلْ إِنْ كَانَ آَبَاؤُكُمْ
وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا
وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ
اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ
وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾ التّوبة
24.
مَن عرف الله المُنعم،
وعرف أنّه مخلوقٌ ومربوبٌ له ويتولّى سبحانه تدبيره، وكلّ ما لديه من أموره الدّاخليّة
وعلاقاته الخارجيّة هو منه تعالى، وعرف أنّ جميع الأسباب مُسخَّرة له بأمره، فإنّ
هذه المعرفة تستلزم محبّة الله والرّكون إليه والإيمان به. وينبغي أن يكون حُبّه
لله، تعالى، أكثر من حبِّه لما أعطاه إيّاه الله، وأن تكون علاقته به أكثر من
علاقته بجميع الأسباب.
وكلّما ازدادت هذه
المعرفة وازدادت طهارة القلب، كلّما ازدادت هذه المحبّة والعلاقة إلى حيث يصبح لا
يرى أحداً غير الله يستحقّ الحبّ، ولا يبقى له تعلّق بأحدٍ حتّى بنفسه ولا بأيّ
شيء آخر، ويصبح تعلّقه به سبحانه لا غير. وإذا أحبّ أحداً أو شيئاً فإنّما يحبّه لله وفي الله، وتكون
أمنيته أن يقدّم نفسه وكلّ ما يملك في سبيله تعالى.
ويستلزم حبُّ الله حبَّ رسوله وعبده المصطفى، محمّد صلّى الله عليه وآله،
بحيث يكون حبّه، صلّى الله عليه وآله، أكثر
من أيّ شخص وأيّ شيء، «حبُّ محبوبِ الله حبُّ الله».
كما يستلزم حبُّ رسول
الله، صلّى الله عليه وآله: حبَّ أهل بيته وقُرباه، ويجب أن تكون علاقة الشّخص
القلبيّة بهم أكثر من علاقته بأقاربه هو، وقد حرصت بهذا آيّة المودّة في القربى،
وأخبار كثيرة من طُرق العامّة والخاصّة.
حبُّ الدّين من حبّ الله عزّ وجلّ
ومن لوازم حبّ الله حبّ دين الله، والتّعلّق بأوامره، بحيث يرضى الشّخص
بالضّرر الذي يصيب دنياه أكثر من رضاه بالضّرر الذي يصيب دينه، ويكون مُستعدّاً
للتّخلّي عن أيّ نفع مادّيٍّ من أجل امتثال أمر ربِّه.
وأيضاً من لوازم حبّ الله، حبّ الدّار الآخرة التي هي مقرّ الثّواب والجزاء
الإلهيَّين، ومورد لرعايته ولطفه ومحبّته سبحانه، والتي يجب أن يكون حبّها أكثر من
الحياة الدّنيا المستعارة، وينبغي أن يجعل دنياه فداءً لآخرته، ويكون أكثر رضاً
بالضّرر الذي يصيب دنياه من الضّرر الذي يصيب آخرته، إلى حدّ أنّه يصبح لا يحبّ
الدّنيا أصلاً على نحو الاستقلال، بل يحبّها باعتبارها مقدّمة لآخرته.
هذه هي حقيقة الإيمان، وكلّ مَن كان وضعه مُطابقاً لِما ذُكر فهو من أهل
النّجاة، وأصحاب اليمين، ويستحقّ التّوفيقات والهدايات والتّأييدات الإلهيّة.
ومَن كان وضعه بعكس ذلك، أي أنّ الحياة الدّنيا ومالها ومنامها وجاهها
وجلالها وعلاقاتها وملذّاتها محبوبة لديه وعزيزة ومهمّة أكثر من حبّه وعلاقته
بالله والرّسول، صلّى الله عليه وآله وأهل البيت عليهم السّلام، ".."
وباختصار إنّه مستعدّ لتقديم آخرته فداءً لدنياه، مثل هذا الشّخص فاسقٌ لأنّه
ضلّ عن طريق سعادته وخرج من طاعة أمر الله بالإيمان بالله والاعتقاد به وبالرّسول والآخرة،
وكلّ من أصبح فاسقاً فقد حُرِم من هداية الله وعنايته وتوفيقه وتأييده ﴿.. وَاللهُ
لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾ التوبة:24.
وأيضاً، ينبغي أن ينتظر الفاسق حلول غضب الله وعقوبته في الدّنيا أو الآخرة
﴿..فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ..﴾ التوبة:24.
إذاً، يجب على كلّ مؤمن بالله والرّسول، أن يرجع إلى قلبه ويرى إذا كان حبّه
لله ولِما يرجع إليه أكثر في قلبه وأقوى من حبّ الدّنيا وعلائقها - فإذا وجد أنّ
الأمر كذلك - فَلْيشكر الله تعالى وَلْيَبذل جهده للحصول على المزيد.
وإذا رأى أنّ الأمر بالعكس فَلْيبكِ على نفسه وليعمل على إصلاح شأنه،
وينبغي أن لا يقرّ له قرار حتّى يُوقن بأنّ محبّته لله والآخرة أصبح أكثر من حبّه
للدّنيا.
هل نريد رضى أهل البيت عليهم السّلام؟
بالنّسبة إلى حبّ أهل البيت، عليهم السّلام، الّذين يجب على كلّ مسلم أن
يحبّهم أكثر من دنياه، يجب أن يرجع أحدنا إلى قلبه وينظر بإنصاف كيف هو تجاه هذه
الفريضة الإلهيّة، هل يحبّهم عليهم السّلام أكثر؟ أم أنّه يحبّ أكثر مرمّة معاشه
وصلاح أمور دنياه ورونقها واتّساقها وزينتها وسائر ملذّاتها المادّيّة.
إذا تبيّن له بعد التّأمّل أنّ حبّ الدّنيا في قلبه هو الغالب الأقوى من حبّ
آل محمّد صلّى الله عليه وآله، فليعلم أنّه قصّر في هذه الفريضة الإلهيّة، ويجب أن
يسعى لكي يصبح حاله بالعكس، كما يجب أن لا يغترّ بما سمعه من نجاة مُحبّي آل محّمد
صلّى الله عليه وآله، ومقامهم عند الله تعالى، مثل: «حُبُّ عَلِيٍّ حَسَنَةٌ لا
تَضُرُّ مَعَها سَيِّئَةٌ» لأنّ ذلك صحيح بالنّسبة إلى من كان حبّ آل محمّد
غالباً في قلوبهم لحبّ الدّنيا، أمّا هو فينبغي أن يقال عنه إنّه مُحبّ الدّنيا لا
محبّ أهل البيت عليهم السّلام.
وأحياناً تكون غلَبة حبّ الدّنيا على القلب سبباً في أن يصبح صاحب هذا
القلب مبغوضاً لله والرّسول وأهل البيت عليهم السّلام . ".."
* قال
أمير المؤمنين عليه السّلام: «إِنَّ وَلِيَّ مُحَمَّدٍ، مَنْ أَطاعَ اللهَ، وَإِنْ
بَعُدَتْ لُحْمَتُهُ (كسلمان وأبي ذرّ)، وَإِنَّ عَدُوَّ
مُحَّمَدٍ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ مَنْ عَصَى اللهَ وَإِنْ قَرُبَتْ لُحْمَتُهُ»
(كأبي جهل وأبي لهب).
* وقال الإمام الباقر
عليه السّلام: «يا جابِرُ، مَنْ كانَ للهِ مُطيعاً فَهُوَ لَنا وَلِيٌّ، وَمَنْ
كانَ للهِ عاصِياً فَهُوَ لَنا عَدُوٌّ، وَما تُنالُ وِلايَتُنا إِلّا بِالعَمَلِ
وَالوَرَعِ».
حبّ الله منشأُ
كلّ خير
روح المسألة أنّ حبّ
الله تعالى، ومحمّدٍ وآله صلّى الله عليه وآله، والحياةِ الآخرة، ضدّ حبّ الدّنيا
والعلاقة بها، وقوّةُ كلٍّ منهما عينُ ضعف الآخر، وفي الاهتمام بكلٍّ منهما عدمُ اعتناء بالآخَر.
وكما أنّ حبّ الدّنيا أساسُ كلِّ ذنبٍ وأصلُه، فإنّ حبّ الله - وما يرجع
إليه تعالى - أساسُ كلِّ حسنةٍ وسببُها، بحيث أنّه إذا زال حبّ الدّنيا من القلب
تماماً، واستقرّ بدلاً منه حبُّ الله، فلن يصدر من الشّخص أيّ خطأ، ولن يُحرَم من
أيّ خيرٍ وحسَنة، وسيطهَّر من كلّ الرّذائل، ويتّصف بكلّ الفضائل.