مرقدُ كُميل بن زياد رضوان
الله عليه
رمزٌ لنجمٍ في سماء الولاية
ــــــــــــــــــــ إعداد:
د. أليس كوراني ــــــــــــــــــــ
تَعْبُرُ
الشَّوارِعَ خفيفاً إِلى رَوْضَةٍ يَصْدَحُ فيها دُعاءُ كُمَيْلٍ لَيْلَةَ الجُمُعَةِ...
وَما إِنْ تَصِلَ حَتَّى يَخْتَلِطَ عَبَقُ الماضي بِالحاضِرِ، وَهُناكَ يَشِفُّ حُضورُ
سَيِّدِ الرَّوْضَةِ كُلَّما تَوَغَّلَ في الغِيابِ... وَيَتَّحِدُ المَكانُ
وَالزَّمانُ في لَحَظاتٍ مِنَ الصَّفاءِ وَالانْقِطاعِ إِلى الخالِقِ، فتَخْتارُ رُكْناً
في الأَرْجاءِ لِتَنْفَرِدَ بِروحِكَ عَنِ المَخْلوقينَ..
ما أَعظَمَ أَنْ تُناجيَ اللهَ، تَعالى، بدعاءِ كُمَيلٍ
عِنْدَ كُمَيلٍ نَفسِهِ! حتّى تَخالَ أنَّكَ تأتَمُّ بهِ أو بِأميرهِ في مَشهدٍ
روحانيّ بِتَلاوينَ ملائكِيّةٍ، فَلا تَدري أَأَنتَ بِقربِهِ أَم هوَ بِقُربِكَ؟
وبعد الانتهاء من الدّعاء والزّيارة، تجول ببصرك في
أرجاء هذا المقام الجليل، وتشكر الله، سبحانه وتعالى، على العناية التي خصّها بعض
الموالين لتجديده ورعاية زائريه، حتّى أضحى نجماً مضيئاً في سماء النّجف الأشرف،
بعدما كان مهجوراً في أواخر العهد العثمانيّ، ولم يكن يقصده إلّا الّذين يعلمون
مكانة كميل عند أمير المؤمنين، عليه السّلام، وعلوّ شأنه وإخلاصه لأهل البيت عليهم
السّلام، حتّى استُشهد على يد الحجّاج الثّقفيّ صابراً مُحتسباً...
يدفعك الفضول لمعرفة تاريخ المقام، وكيف انتعشَ وغصّ
بالوافدين، إذ يصل عدد هؤلاء في ليالي الجمع إلى عشرين ألفاً، كما حرص عدد من
العلماء الأفاضل والمراجع الدينيّة على توصية بدفنهم في هذه الرّوضة المباركة،
منهم: علماء آل القوجانيّ، وعميد المنبر الحسينيّ العلّامة الدّكتور الشيخ أحمد الوائليّ،
والشّيخ مهدي العطّار، والمرجع الدّينيّ آية الله المامقانيّ، والمرجع الدّينيّ السّعيديّ
النّجفيّ، إضافة إلى العشرات من الشّهداء والأدباء والمُفكّرين والوجهاء؛ وقيل
إنّه دُفن عدد من أصحاب أمير المؤمنين عليه السّلام قرب كميل رضوان الله عليه، ما يجعل الموالين من كلّ حدب وصوب، وعلى اختلاف
جنسيّاتهم، يفدون إلى زيارته... فسبحان من أحيى العظام وهي رميم...
تضمّ النّجف الأشرف عدداً كبيراً من العتبات المقدّسة
والمراقد والمزارات، أبرزها العتبة المقدّسة لأمير المؤمنين الإمام عليّ عليه
السلام، ومرقد مسلم بن عقيل، عليه السّلام، ومسجد الكوفة ليس ببعيد، ومقام كميل بن
زياد، رضوان الله عليه، فضلاً عن وادي السّلام الذي يعدّ أحد أكبر المقابر في العالم
ويقصدها الملايين في كلّ عام لأداء الزّيارة والتّبرّك.
فعندما تقصد النّجف الأشرف، سوف تحاول إيجاد كلّ ركن
وطأته أقدام المعصومين من أنبياء وأولياء، وأصحابهم المخلصين، وهذا ليس غريباً أو
مُستهجناً، فلطالما تتبّع الصّحابة أثر النّبيّ صلّى الله عليه وآله تبرّكاً
وتيمّناً؛ فقد روي عن نافع أنّ عبد الله بن عمر كان يتبع آثار النّبيّ، صلّى الله عليه
وآله وسلّم، فيصلّي في كلّ مكان صلّى فيه، حتّى أنّ النّبي نزل تحت شجرة، فكان ابن
عمر يتعاهد تلك الشّجرة فيصبّ في أصلها الماء لكيلا تيبس. وقال مُجاهد: كنّا مع ابن
عمر في سفر، فمرّ بمكان فحادَ عنه، فَسُئِلَ لمَ فعلت ذلك؟ قال: رأيت رسول الله، صلّى
الله عليه [وآله] وسلّم، فعلَ هذا ففعلتُ. وعن عاصم الأحول عمّن حدّثه قال: كان ابن
عمر، رضي الله عنه، إذا رآه أحدٌ ظنّ أنّ به شيئاً من تتبُّعه آثار النّبيّ صلّى الله
عليه [وآله] وسلّم.
موقع المقام
يقع المقام في وسط حيّ الحنّانة، في الموضع الذي سُمّي
قديماً بالثّويّة، والثّويّة كما جاء في معجم البلدان للحمويّ: «موضع قريب من
الكوفة، وقيل بالكوفة، وقيل خُريبة إلى جانب الحيرة على ساعة منها؛ ذكر العلماء أنّها
كانت سجناً للنّعمان بن المنذر (النّعمان بن المنذر بن الحارث بن جبلة الغسانيّ: أمير بادية
الشّام، قبيل الإسلام، توفّي
نحو 28 قبل الهجرة/ نحو 595 م) كان
يحبس بها من أراد قتله، فكان يقال لمن حبس بها ثوى، أي أقام، فسمّيت الثّويّة بذلك»،
وهو يبعد نحو كيلو متر ونصف عن مدينة النّجف القديمة المسوّرة، كما يبعد عن
الطّريق العامّ بين النّجف والكوفة، وهذ يعني أنّه ليس على مرأى السّائرين، إنّما
يعرج إليه من يقصده عمداً.
وبهذا الحيّ مسجدٌ يُعرف بمسجد الحنّانة، يقع في شمال بلدة النّجف القديمة على يسار الذّاهب إلى الكوفة،
ويقصده المجاورون والزّائرون، لأنّه من الأماكن التي صلّى فيها الإمام جعفر الصّادق،
عليه السّلام، ففي هذا الموضع أنزلوا السّبايا بعد واقعة كربلاء، كما وضعوا رأس
سيّد الشّهداء عليه السّلام ورؤوس أصحابه، ولهذا يعتقد بعض الباحثين أنّ اسم
«الحنّانة» كلمة مُشتقّة من الحنين، إشارة إلى بكاء السّبايا عندما عبث الجند
بالرّؤوس الشّريفة، فعن المفضّل بن عمرو قال: جاز مولانا الإمام جعفر بن محمّد الصّادق،
عليه السّلام، بالمائل طريق الغريّ فصلّى عندهُ ركعتين، فقيل له: ما هذه الصّلاة؟ قال:
«هَذا مَوْضِعُ رَأْسِ جَدّي الحُسَيْنِ، عَلَيْهِ السَّلامُ، وَضَعوهُ ها
هُنا».
ويرى آخرون أنّ كلمة
«الحنّانة» مُشتقّة من لفظة «حنّا»، و«حنّا» دير نصرانيّ قديم من أديرة الحيرة، كان
في موضع المسجد عينه، وتطوّرت اللّفظة من «حنّا» إلى «حنّانة» بمرور الزّمن.
تاريخ بناء
المقام
لا نعلم التّاريخ الدّقيق لبناء المقام، أمّا الضّريح
فقد عُرف منذ لحظة استشهاده ولم يندثر، وكان شيعة أهل البيت، عليهم السّلام،
يقرأون عنده الفاتحة ويزورونه كلّما سنحت لهم الظّروف. وفي مطلع القرن العشرين
وتحديداً في عام 1908م، كان عبارة عن غرفة فوقها قبّة، وقد التقط بعض الزّائرين
صورة للمقام آنذاك.
وأوّل عمارة للمرقد الشّريف، في العصر الحديث، كانت في
الخمسينيات من القرن العشرين، حيث قام بعض المؤمنين بتجديد غرفة الضّريح، ثمّ بنى النّاس
مقابرهم حول المرقد. وكان الشّيخ باقر ابن الشّيخ عبد النّبيّ الدروبي يتعاهد المرقد
ومسجد الحنّانة بالتّنظيف وإنارة السُّرُج، وخَلَفهُ في هذه المهمّة ولده الشّيخ محمّد
عليّ، ثمّ نجل هذا الأخير حتّى عصرنا الحاضر.
وقد تعاقبت عليه حركة الإعمار في سبعينيّات القرن العشرين،
فَبُنِيَ رواق وشُرفة خارجيّة صغيرة، ثمّ عمّر أهل الخير والصّلاح مرقده الشّريف
وشيّدوا فوقه قبّة عالية، وجعلوا له حرماً يحيط به صحن مستدير واسع. كما بنى وجهاء
النّجف غرفاً حول الصّحن وجعلوها مقابر لموتاهم.
وفي العام 2000م، تمّ إنشاء قبّة جديدة على الضّريح،
فشُيّدت وكُسيت بالكاشي الكربلائيّ وبالزّخارف الإسلاميّة، ونُقش عليها اسم
الجلالة، واسم النّبيّ صلّى
الله عليه وآله وأسماء الأئمّة عليهم السلام.
وفي عام 2007م، شهد المرقد عمليّة توسعة شملت بناء رواق إضافيّ
وتوسعة الشرفات، وإكساء أرضيّة المرقد والجدران بالمرمر، وكذلك إكساء السّقوف بالمرايا.
كما تمّ بناء سور جديد للمرقد على شكل أواوين مكسُوّة بالطّابوق ومُوَشّاة بالكاشي
القاشانيّ والزّخارف الإسلاميّة.
قبل الوداع
وأنت تتأمّل وجوه الزّائرين من عراقيّين وإيرانيّين
وخليجيّين وبهرة هنود، وغيرهم، تبتهج لكرامة صاحب المقام، ويشدّك شعور غريب لتبقى
في المقام ولا تبرحه، وتستحضر ذكرى هذا الرّجل العظيم الذي خصّه أمير المؤمنين
بدعاء نُسب إليه على مرّ الأيّام وكرور اللّيالي... من منّا لم يقرأ دعاء كُمَيل
ليالي الجمع وفي ليلة النّصف من شعبان، ولم يَتَناهَ إلى مسامعه أهميّته وعظيم
مضمونه؟ ومن منّا لا يعلم مقام كميل بن زياد وقربه من أمير المؤمنين، عليه
السّلام، ودفاعه عن الثّقلين حتّى استشهد ذوداً عن الإسلام المحمّديّ الأصيل؟!
أمّا نسبه، كما يذكره ابن سعد في الطّبقات الكبرى، فهو:
«كُمَيْلُ بْنُ زِيَادِ بْنِ نَهِيكِ بْنِ هَيْثَمِ بْنِ سَعْدِ بْنِ مَالِكِ بْنِ
الْحَارِثِ بْنِ صُهْبَانَ بْنِ سَعْدِ بْنِ مَالِكِ بْنِ النَّخَعِ مِنْ مَذْحِجِ.
رَوَى عَنْ عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَعَبْدِ اللهِ، وَشَهِدَ مَعَ عَلِيٍّ صِفِّينَ؛ وَكَانَ
شَرِيفًا مُطَاعًا فِي قَوْمِهِ، فَلَمَّا قَدِمَ الْحَجَّاجُ بْنُ يُوسُفَ الْكُوفَةَ
دَعَا بِهِ فَقَتَلَهُ»، وكان ذلك عام 82 للهجرة الموافق لعام 701 م.
بطاقة تعريف
ولد كميل بن زياد في اليمن في السّنة السّابعة قبل الهجرة،
أسلم صغيراً وأدرك النّبيّ صلّى الله عليه وآله، وقيل إنّه لـم يدركه. قدمت قبيلته
إلى الكوفة مع بدء انتشار الإسلام، وأضحى كميل من سادات قومه، وذا مكانة عظيمة عندهم.
ثبت على ولاية أهل البيت عليهم السّلام، ورفض نهج أعدائهم الذين شوّهوا صورة
الإسلام، وابتعدوا عن جادّة الحقّ والعدالة، فاحتجّ على سياسة الخليفة الذي خصّ
أقاربه بمقدّرات الدّولة، كما احتجّ على تصرّفات الولاة الظّالمين، فكان أحد أعضاء
الوفد القادم من الكوفة للاحتجاج على تصرّفات والي الكوفة عند عثمان.
ولقد أجمع
المؤرّخون وكتّاب التّراجم على فضله ومكانته، وفيه قال ابن أبي الحديد في (شرح نهج
البلاغة): «كان من أصحاب عليّ، عليه السّلام، وشيعته وخاصّته، وقتله الحجّاج على المذهب
فيمن قتل من الشّيعة. وكان كميل بن زياد عامل عليّ، عليه السّلام، على هيت». وهيت بلدة
على الفرات من نواحي بغداد فوق الأنبار، ذات نخل كثير وخيرات واسعة، وهي مجاورة
للبرّيّة.
وقال الذّهبيّ في تاريخه: «من كبار شيعة عليّ رضي الله عنه.. شهد صفّين مع عليّ، وكان شريفاً مطاعاً ثقةً عابداً على تشيّعه،
قليل الحديث، قتله الحجّاج».
وقال المحدّث الشّيخ عبّاس القمّيّ في موسوعة (سفينة البحار):
«كُمَيل بن زياد النَّخَعيّ، من أعاظم خواصّ أمير المؤمنين، عليه السّلام، وأصحاب سرّه،
وهو الذي يُنسَب إليه الدّعاء المشهور».
وقال السّيّد بحر العلوم قدّس سرّه في (الفوائد الرّجاليّة):
«من أصحاب أمير المؤمنين، عليه السّلام، الأصفياء».
أمّا عن استشهاده، فقد أورد المرجع العلّامة السّيّد أبو
القاسم الخوئيّ في (معجم رجال الحديث) قول الشّيخ المفيد قدّس سرّه حول ذلك: «قال الشّيخ
المفيد: ومن ذلك ما رواه جرير عن المغيرة، قال: لما وُلي الحجّاج، لعنه الله، طلب كميل
بن زياد فهرب منه، فحرمَ قومَهُ عطاءَهم، فلمّا رأى كميل ذلك قال: أنا شيخ كبير، وقد
نفد عمري ولا ينبغي أن أحرم قومي عطاءهم؛ فخرج فدفع بيده إلى الحجّاج، فلمّا رآه قال
له: لقد كنت أحبّ أن أجد عليك سبيلاً.
فقال له كميل:
لا تصرِّف عليّ أنيابك ولا تهدّم
عليّ، فوالله ما بقيَ من عمري إلّا مثل كواسر الغبار، فاقضِ ما أنت قاضٍ، فإنّ الموعدَ
الله، وبعدَ القتل الحسابُ، وقد خبّرني أمير المؤمنين، عليه السّلام، أنّك قاتلي.
قال: فقال له الحجّاج: الحجّةُ عليك إذاً.
فقال له كميل: ذاك إذا كان القضاءُ إليك!
قال: بلى، قد كنتَ فيمن قتلَ عثمان بن عفّان! إضربوا عُنقه.
فَضُربت عُنقُه!
وهذا أيضاً خبر رواه نقلة العامّة عن ثقاتهم وشاركهم في نقله
الخاصّة».
والرّواية باختلاف يسير في (الكامل في التّاريخ) لابن
الأثير.
وعن كميل بن زياد، رضوان الله عليه، يقول الشيّخ صفاء الدّين
الصافي، أحد أساتذة الحوزة العلميّة في النّجف الأشرف: «كميل بن زياد بايع أمير المؤمنين
الإمام عليّ بن أبي طالب، عليه السّلام، بعد مقتل عثمان بن عفّان، وأخلص في البيعة،
وكان من ثقاته، فلازمه وأخذ العلم منه، واختصّه بدعاء من أعظم الأدعية، وهو الدّعاء
المعروف اليوم بـ (دعاء كميل)، لهذا قال عنه علماء الرّجال، إنّه حامل سرّ الإمام عليّ،
عليه السّلام، واشترك معه في معركة صفّين؛ نصّبه الإمام عليّ، عليه السّلام،
عاملاً على بيت المال مدّة من الزّمن، وعيّنه والياً على (هيت)، فتصدّى لمحاولات معاوية
التي كانت تهدف إلى احتلال عددٍ من الحواضر الإسلامية. بايع الإمام الحسن، عليه
السّلام، بعد استشهاد الإمام عليّ، عليه السّلام، وبعد تولّي الحجّاج ولاية العراق
جدّ في طلبه سعياً إلى قتله».
كذلك عُرف كُميل بن زياد بحديث أمير المؤمنين، عليه السّلام،
عندما أخذه معه إلى زيارة وادي السّلام بظهر الكوفة، فأخبر كُميلٌ أنّ الإمام، عليه
السّلام، قال له: «يَا كُمَيْلَ بْنَ زِيَادٍ، إِنَّ هَذِهِ الْقُلُوبَ أَوْعِيَةٌ
فَخَيْرُهَا أَوْعَاهَا، فَاحْفَظْ عَنِّي مَا أَقُولُ لَكَ؛ النَّاسُ ثَلاثَةٌ، فَعَالِمٌ
رَبَّانِيٌّ ومُتَعَلِّمٌ عَلَى سَبِيلِ نَجَاةٍ، وهَمَجٌ رَعَاعٌ أَتْبَاعُ كُلِّ
نَاعِقٍ يَمِيلُونَ مَعَ كُلِّ رِيحٍ، لَمْ يَسْتَضِيئُوا بِنُورِ الْعِلْمِ، ولَمْ
يَلْجَؤوا إِلَى رُكْنٍ وَثِيقٍ.
يَا كُمَيْلُ، الْعِلْمُ خَيْرٌ مِنَ الْمَالِ، الْعِلْمُ
يَحْرُسُكَ وأَنْتَ تَحْرُسُ الْمَالَ، والْمَالُ تُنْقِصُهُ النَّفَقَةُ والْعِلْمُ
يَزْكُو عَلَى الْإِنْفَاقِ، وصَنِيعُ الْمَالِ يَزُولُ بِزَوَالِهِ.
يَا كُمَيْلَ بْنَ زِيَادٍ، مَعْرِفَةُ الْعِلْمِ دِينٌ يُدَانُ
بِهِ، بِهِ يَكْسِبُ الْإِنْسَانُ الطَّاعَةَ فِي حَيَاتِهِ وجَمِيلَ الْأُحْدُوثَةِ
بَعْدَ وَفَاتِهِ، والْعِلْمُ حَاكِمٌ والْمَالُ مَحْكُومٌ عَلَيْهِ.
يَا كُمَيْلُ، هَلَكَ خُزَّانُ الْأَمْوَالِ وهُمْ أَحْيَاءٌ،
والْعُلَمَاءُ بَاقُونَ مَا بَقِيَ الدَّهْرُ، أَعْيَانُهُمْ مَفْقُودَةٌ وأَمْثَالُهُمْ
فِي الْقُلُوبِ مَوْجُودَةٌ. هَا! إِنَّ هَا هُنَا لَعِلْماً جَمّاً - وأَشَارَ بِيَدِهِ
إِلَى صَدْرِهِ - لَو أَصَبْتُ لَهُ حَمَلَةً. بَلَى أَصَبْتُ لَقِناً غَيْرَ مَأْمُونٍ
عَلَيْهِ مُسْتَعْمِلاً آلَةَ الدِّينِ لِلدُّنْيَا ومُسْتَظْهِراً بِنِعَمِ اللهِ
عَلَى عِبَادِهِ وبِحُجَجِهِ عَلَى أَوْلِيَائِهِ، أَو مُنْقَاداً لِحَمَلَةِ الْحَقِّ
لا بَصِيرَةَ لَهُ فِي أَحْنَائِهِ، يَنْقَدِحُ الشَّكُّ فِي قَلْبِهِ لِأَوَّلِ عَارِضٍ
مِنْ شُبْهَةٍ، أَلا لا ذَا ولا ذَاكَ، أَو مَنْهُوماً بِاللَّذَّةِ سَلِسَ الْقِيَادِ
لِلشَّهْوَةِ، أَو مُغْرَماً بِالْجَمْعِ والادِّخَارِ لَيْسَا مِنْ رُعَاةِ الدِّينِ
فِي شَيْءٍ، أَقْرَبُ شَيْءٍ شَبَهاً بِهِمَا الْأَنْعَامُ السَّائِمَةُ؛ كَذَلِكَ
يَمُوتُ الْعِلْمُ بِمَوْتِ حَامِلِيهِ.
اللَّهُمَّ بَلَى، لا تَخْلُو الْأَرْضُ مِنْ
قَائِمٍ لِلَّهِ بِحُجَّةٍ إِمَّا ظَاهِراً مَشْهُوراً وَإِمَّا خَائِفاً مَغْمُوراً
لِئَلا تَبْطُلَ حُجَجُ اللهِ وبَيِّنَاتُهُ، وكَمْ ذَا وأَيْنَ؟ أُولَئِكَ واللهِ
الْأَقَلُّونَ عَدَداً والْأَعْظَمُونَ عِنْدَ اللهِ قَدْراً، يَحْفَظُ اللهُ بِهِمْ
حُجَجَهُ وبَيِّنَاتِهِ حَتَّى يُودِعُوهَا نُظَرَاءَهُمْ ويَزْرَعُوهَا فِي قُلُوبِ
أَشْبَاهِهِمْ. هَجَمَ بِهِمُ الْعِلْمُ عَلَى حَقِيقَةِ الْبَصِيرَةِ وبَاشَرُوا رُوحَ
الْيَقِينِ واسْتَلانُوا مَا اسْتَوْعَرَهُ الْمُتْرَفُونَ وأَنِسُوا بِمَا اسْتَوْحَشَ
مِنْهُ الْجَاهِلُونَ وصَحِبُوا الدُّنْيَا بِأَبْدَانٍ أَرْوَاحُهَا مُعَلَّقَةٌ بِالْمَحَلِّ
الْأَعْلَى، أُولَئِكَ خُلَفَاءُ اللهِ فِي أَرْضِهِ والدُّعَاةُ إِلَى دِينِهِ، آهِ
آهِ شَوْقاً إِلَى رُؤْيَتِهِمْ...».