الوعيُ التاريخي
وحُسن التفكير
حُكم الوحي أو حُكم العَصَبيّة
ـــــــــــــــــــــــــ
الشيخ حسن فرحان المالكي* ـــــــــــــــــــــــــ
في
هذه المقالة من «فكرٌ ونظر» يُقارب
الباحث الإسلامي الشيخ حسن فرحان المالكي واحدة من أبرز القضايا في حركة التاريخ
الإسلامي، عَنينا بها ظاهرة الانحراف عن مسار الوحي والشريعة المُقدّسة في سياق
التجربة التاريخيّة للدولتَين الأمويّة والعبّاسيّة. وهي الظاهرة التي لا تزال
سارية إلى يومنا هذا، وتتلخّص بالانفصام بين نظام العدل النبويّ ونظام العصبيّة
القبليّة، التي أخذ بها الأمويّون والعبّاسيّون على امتداد حقبة مهمّة في تاريخ
الإسلام.
نشير
إلى أنّ هذا المقال مقتطف من دراسة طويلة للشيخ المالكي.
كثيرٌ
من الناس يُؤلمهم ذكر مساوئ الدول كدولة بني أميّة وبني العبّاس، مع أنّهم
متطرّفون دينيّاً والمتوقّع غِيرتُهم على الدِّين!
الوعي
التاريخي من أهمّ محرّضات العقل على حُسن التفكير، وهذا يدفعه لدقّة الحكم على
الأشياء، ولذلك كان ثُلث القرآن على الأقلّ تاريخاً عن السابقين. ما تعمّق أحدهم
في التاريخ إلّا اعتدل وتخلّى عن التطرّف، وإنّما يأتي التطرّف من القراءة السريعة
الساذجة للتاريخ، ومن مصادر متطرّفة وغير موثوقة.
سبب
تطرّف المتطرّفين أنّ غير ثقاتٍ في دينهم أخبروهم بأنّ تاريخهم محلّ استلهام
الأحكام الشرعيّة، وهذه أشهر كذبة يصدّقها المتطرّفون، لذلك يتورّطون بأعمال العنف
والإرهاب.
يتورّطون
عندما يكتشفون أنّ مَن كانوا يظنّونهم حماةَ الإسلام وممثّليه في الماضي، يقتلون
الأبرياء، ويشربون الخمور، ويزنون، وينهبون الأموال، ويكذبون، إلخ. فهنا يضطرّون
لتكذيب هذه الذنوب والجرائم ليبقى لهم الدين نفسه، لأنّهم قد صدّقوا الكذبة التي
تجعل التاريخ ديناً، مع أنّه أفعال بشريّة خالصة.
ويتبيّن
بهذا أنّ إخلاص المتطرّفين هو للأشخاص وليس للنصوص المقدّسة، لأنّهم ضعيفو العلم
والبحث، لذلك لا يعرفون هذه الجرائم، وبعضهم يسترها عمداً.
هنا
لا بدّ من القيام بعمل معاكس في إبراز هذه الجرائم، وفضح المتستّرين عليها، حتّى
يتعلّم الشباب أنّ مَن يعدّونهم قدوة قد يكون بعضهم من المجرمين.
ولذلك
كلّ الذنوب التي يستحلّ بها الشّبّان المتطرّفون الدماءَ، هي ذنوب اقترفها بعض مَن يعظِّمونهم
ويرونهم من السلف الصالح الواجب اتّباعهم. وقد ذكرتُ في السابق أنّ الوعي التاريخي
ليس الوعي بالسلطات فقط، بل بما يرتبط بها من فقهاء ووعّاظ ومحدّثين... إلخ،
فالمهمّ هو الدين وليس السياسة، لا بدّ أن تضمن سلامة الموقف.
التكفير..
من دون نصوص شرعيّة
ولو
سألنا، ما هي أبرز الأمور التي يستبيح بها بعض الشباب وشيوخهم الدماء؟ هل هو الحُكم
بغير ما أنزل الله تعالى؟ أَم سبّ الصحابة؟ أم زيارة
قبور الأولياء؟
... كلّ هذه العناوين موجودة في سَلَفهم.
ولو
أخذنا استباحتهم الدّماءَ من أجل (الحُكم بغير ما أنزل الله)، لوجدنا أنّ هذه
الاستباحة – نفسها - هي حُكمٌ بغير ما أنزل الله، فالحكم شيء، والقتل شيء آخر.
وهنا
لا بدّ أن تُثبِت له أنّ بني أُميّة وبني العبّاس ممّن يعظّمونهم كانوا لا يحكمون
بما أنزل الله، فلماذا يُعظّمونهم ويقلّدونهم في الدين؟
وسيجدون
أنّ زعماء العقائد قد حكموا بغير ما أنزل الله عندما يُقنعونهم بأنّ هذا يُقتل،
وهذا يُجلد، وهذا يُنفى من الأرض... كلّ هذا بلا نصوص شرعيّة.
سيجدون
أنّ (الحكم بغير ما أنزل الله) يملأ كتب العقائد والفقه التي يرجعون إليها
ويقلّدونها، فكيف يقلّدون (كفّاراً) إذا كانوا يكفرون بها؟
ما
معنى الحكم بغير ما أنزل الله؟
وهل الكفر كلّي أو نسبي؟ وهل
يَسلم أحد من الحكم بغير ما أنزل الله؟ هذه أسئلة تُوجب على الغلاة وضع إجابات
عليها.
الحكم
بغير ما أنزل الله كفرٌ بلا شكّ، ولكن أيّ كفر؟ وما
الواجب في فاعله إنْ كفر - سواء كان كفراً كلّيّاً أو نسبيّاً؟ وهل
يجب قتل كلّ كافر؟
ثمّ
أنت في بيتك،
في مدرستك، في عملك، وتعاملك مع الموافق والمخالف ومع
الناس..إلخ، هل تحكم أنت في كلّ هذا بما أنزل الله؟ هل
أنت متأكّد؟
هنا
يجب فتح باب معنى (الكفر) الذي هو نوعان:
إمّا
جحود مباشر لحكم الله،
أو تغطية وإهمال لحكم الله واختيار غيره.
مَن
يضمن سلامته من الثاني؟
وماذا
لو وجدت أنّ بعض الصحابة أو السلف اختار غير ما أنزل الله؟ وذكَّره
الناس به؟ لكنّه أبى ورود النصّ -كاستلحاق معاوية لزياد مثلاً - ماذا تفعل؟ وكذلك
نَصّ حديث عمّار، ونصّ الرِّبا مع عُبادة [بن الصامت]، وردّ
حديث الأنصار (الأَثَرة)،
وردّ حديث عبد الله بن عمرو في الرجل القحطانيّ.. إلخ، هل
تسمّيه كفراً؟ [هذه نصوص عن رسول الله صلّى الله عليه وآله ردّها معاوية على
رواتها من الصحابة]
وإذا
اكتشفتَ أنّ هذا الشخص أو ذاك قد تمّ تذكيره، فأصرّ وظهر من قرائن الحال اختياره
حكمَه على حكم الله!
وأنّه
لا وجود لجهل ولا تأويل، فهل هو كافر؟ وإذا كان كافراً، فهل هو كُفر كلّي أم نسبي؟
وما
حكم الشرع في الكافر؟ هل هو القتل أم أنّ القتل مخصّص في الشرع بأمور جنائيّة
محدّدة؟
وأنت
تدرس النصوص التي تؤمن بصحّتها، والتي فيها إطلاقُ الكفر، كالتفاخر بالأنساب
والنياحة على الميّت، فهل ترى المتفاخر بالنَّسَب كافراً مثلاً؟ وهل
يجب قتل المتفاخر بالنَّسَب؟ وخاصّة أنّه يرتّب على ذلك أحكاماً شرعيّة بأنّه لا
يجوّز الزواج منهم إلّا على أساس نَسبي؟ وهنا ستجد صحابة وعلماء!
هل
ستكفِّر عمر بن الخطاب الذي رتّب على النَّسب موضوع الكفاءة في الزواج، وتبعه على
ذلك معظم العلماء والمذاهب؟ ومعظم القبائل اليوم، هل
هم كفّار؟
وهكذا
يجب أن تبحث موضوع (الحُكم بغير ما أنزل الله)، وستجده مبثوثاً في الصحابة
والتابعين والعلماء والقبائل.. إلخ. هل كلّ هؤلاء دماؤهم
مباحة؟
هنا
لا بدّ أن تفتح موضوع الكفر والحكم بغير ما أنزل الله - مع إقرارنا بأنّه معصية أو
كفر بحسب الشخص والحالة - إلّا أنّ الموضوع أكبر ممّا تتصوّر.
ادرس
الكفر في القرآن الكريم وستجد أنّ النبيّ لم يقاتل كلّ مَن كفر، وإنّما قاتل
الكافر المعتدي المحارب (الجنائي)، هل تريد تذكيرك ببعض الآيات؟
حسناً
اقرأ: ﴿..قُلْ
أَبِاللهِ وَآَيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لَا تَعْتَذِرُوا
قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ..﴾ التوبة:65-66، هؤلاء
لم يقتلهم النبيّ على عِظم جرمهم وكفرهم (استهزأوا بالله وآياته ورسوله)، ولم
يطلِّق منهم زوجاتهم بالردّة ولا شيء. إذاً ليس كلّ كافر يُقتل.
عندما
تحكم بقتل كلّ كافر فهذا (حُكم بغير ما أنزل الله)، وبحسب منهجك يجب قتلك، لأنّك
حكمتَ بغير ما أنزل الله، ولأنك وجدت مَن بيّن لك فتكبّرت.. إلخ.
مَن
يفخر بالأنساب مثلاً، ويرتّب على ذلك أحكاماً وضعيّة هل هو كافر؟ كلّ قبائل
الجزيرة تقريباً فيها هذا، فكيف تستنجد بها في نُصرتك وهي كافرة؟
وما
حكم الاستعانة بالكفّار ومظاهرتهم؟ ستجد نفسك - أخي الشابّ المتطرّف - في أكثر من
كفر، وتستوجب أكثر من قَتْلة..
وفق منهجك ومنهج شيوخك لا منهجي.
إذاً،
فالوعي التاريخي بالصحابة والسلاطين والفقهاء هو من كوابح التطرّف، لذلك يلجأ
الغلاة إلى محاربة هذا الأمر، ويقولون لك إنّ بحوثك تطعنُ في السَّلَف!
توريط
الغلاة بِسَلَفِهم هو أنجع وسيلة لإيقاف غلوّهم ومحاصرته، لأنّ هذا سيوقعهم بين
أمرين:
إمّا
تكفير سَلَفِهم،
أو العصبيّة المكشوفة!
فإنْ
كفَّروا سَلَفَهم، فقدوا الشباب والمتعاطفين، وإن
تعصّبوا وتلوّنوا وخدعوا ومكروا ... فهنا يأتي دور الباحثين في كشفهم أمام الشباب
لينفضّوا عنهم.
وهذا
لا يعني مجاملة السلطات في المظالم، فهذا له محلّه، ولكنّ الشرّ الأكبر يَكمن في
هذا الغلوّ والتطرّف الذي ليس مع حقوق ولا عدالة ولا معرفة..
بل
بعض الباحثين والمفكّرين يرون أنّ الغلوّ والتطرّف هو صنيعة السلطات الظالمة
والاستبداديّة لإلهاء الشعوب بالتطرّف عن نقد المظالم والفساد، ولكنّ وجهة النظر
هذه، حتّى لو صحّت نسبياً، فلا أظنّها عامّة، لأنّ التطرّف قديم قبل الحكومات
الاستبداديّة، وله عقائده وتراثه ورموزه وشياطينه القديمة.
ثمّ
لو افترضنا أنّ التطرّف صناعة حكوميّة خالصة، فانتقاده بعلمٍ ومعرفةٍ سيزيد من
الاعتدال ويحرج الحكومات ويكشفها عندما تكون الحُجج في أيدي الجميع.
صحيح
أنّنا نلحظ بعض ما يُريب أحياناً، من تصدّر الغلاة للردّ على شُبهات الغلاة - كَناقش
الشوكة بالشوكة كما قال الإمام عليّ - ولكن هل هذا عن تعمّد؟
لا
نريد أن نستعجل عجَلة الغُلاة في الاتّهامات السهلة، نريد أن نبني مصداقيّة عند
الجميع، من المتطرّف إلى الحاكم، فالصدقُ مَنجاة، وبراءةُ ذات.
ما
يُحرج الحكومات هو الحقوق والحرّيّات، ولكن لا يُمكن أن تضغط في هذا السبيل
والشعوب متطرّفة، لا بدّ من محاربة التطرّف وتقديم رؤية حقوقيّة معتدلة.
الحكومات
فيها من الظلم والأَثَرة [أي التفرُّد والاستئثار] والفساد واللّعب بالرأي العامّ
ما يعرفه كلّ لبيب، ولا يجب السكوت عنه، ولكن لا بدّ أن تفصل نفسك عن التطرّف قبل
ذلك.
الخلاصة
أنّ استباحة الدماء بحجّة (الحُكم بغير ما أنزل الله) هو حُكمٌ بغير ما أنزل الله،
راجعوا القرآن واعرفوا الخصال الموجبة للقتل وحكِّموها.
فِريَةُ
سَبُّ الصحابة
كذلك
ممّا يَستبيح به الغلاةُ القتلَ مسألة (سبّ الصحابة)، ومثلما قلنا إنّ الحكومات
فيها مظالم وأثرة ولكن لا يجوز استهداف رجال الأمن، فكذلك بعض المسلمين فيهم ظلَمة
ومخرّفون وغُلاة.. ولكن لا يجوز قتلهم، لا سيّما وأنّ ما في بعضهم من أخطاء وغلوٍّ
موجود عند بعض الفِرق الأخرى أيضاً.
ومثلما
قلنا إنّ الغلاة يستبيحون الدماء بسبب ما يظنّونه (حكم بغير ما أنزل الله)، وإن
فعلهم هذا حكم بغير ما أنزل الله، فكذلك موقفهم من سائر المسلمين، وهنا
نسأل:
بأيّ
نصٍّ أوجبتم قتل مَن يسبّ بعض الصحابة؟
أيّ
نصٍّ قرآني أو حديثي يقول بهذا؟
لن
تجدوا إلّا (أحكاماً وضعيّة) لبعض السَّلف يُبيحون ذلك. وهنا
أنتم (تحكّمون أحكاماً وضعيّة) ليست في الكتاب ولا في السنّة.
وهذا
لا يعني إقرار مَن يسبّ، ولكن ما هي عقوبة هذا السابّ شرعاً، وليس مذهباً؟
ثمّ
أنتم تجهلون أنّ سلفكم من بني أميّة وبعض أهل الحديث كان يسبّ بعض الصحابة الكبار،
وأنتم تترضّون عنهم وتحبّونهم، فهذه قِسْمَةٌ ضِيزى.
ثمّ
إنّ الخوارج - وهم أقذعُ السّبّابين - يكفّرون عليّاً وعثمان، ولم يرَ الإمام عليّ
ولا الصحابة السابقون قتلهم إلّا إذا باشروا في الاعتداء المُسلّح.
هذا
حبيبكم زهران علوش يقول: (سنُعيد مجد بني أميّة)! وبنو أميّة أوّل مَن حكموا جهاراً
بغير ما أنزل الله ، وقتلوا وسبّوا أهل بدر على المنابر!
إذاً،
فالوعي التاريخي بكوارث السلف من تحكيمهم آراءهم في دين الله، وقتلهم الأخيار،
ولعنهم الصحابة وأهل البيت، هو مَن سيُحرج الغُلاة ويكشفهم.
الغلاة
لهم مغالطات كثيرة، فتنبّهوا لها جيداً. فأنت إذا ذكرتَ مظالم بني أميّة الذين
قتلوا الصحابة واستابحوا أعراضهم أتوكَ وقالوا أنت ضدّ الصحابة، بمعنى أنّه يجب
عليك السكوت عمّا جرى لأهل بدر وبيعة الرّضوان في صفِّين وواقعة الحرّة من قتلٍ
وتمثيلٍ واستباحةٍ من قبل بني أُميّة. هذه هي الخلاصة، وهو تزييفٌ للوعي. فالوعي
التاريخي مهمّ جداً، ولم أجد مثلَه في مواجهة الغلوّ والتطرّف. نعم! القرآن أكثر
فاعليّة عند مَن يعبد الله، لكن مَن يعبد التاريخ فاصدمه به!
* باحث إسلامي من الحجاز