الأسرار
الإلهيّة للمأتم الحسيني
بقلم:
الإمام السيّد عبد الحسين شرف الدين رضوان الله عليه
للإمام
المرجع السيّد عبد الحسين شرف الدين رضوان الله عليه مطالعات
مشهودة في ترسيخ البنيان الثقافي والمعرفي للثقافة العاشورائيّة. ولأجل تظهير أهميّة
مطالعاته، اختارت «شعائر» من كتابه (المجالس الفاخرة) هذا النصّ الذي يضيء على
الدلالات الإيمانيّة والعقائديّة العميقة لإحياء العزاء الحسيني.
عَلِمَ الباحثون من مدقِّقي
الفلاسفة أنّ في مآتمنا المُختصّة بأهل البيت عليهم السلام، أسراراً شريفة تعود
على الأمّة بصلاح آخرتها ودنياها، أُنبّهك إليها بذكر بعضها، وأُوكل الباقي إلى
فطنتك:
* فَمنها: إنّ المصلحة
التي استُشهد الحسين عليه السّلام - بأبي وأمّي - في سبيلها، وسُفك دمه الزكي
تلقاءها، تستوجب استمرار هذه المآتم، وتقتضي دوامها إلى يوم القيامة، وبيان ذلك:
إنّ المنافقين حيث دفعوا
أهل البيت عليهم السلام عن مقامهم، وأزالوهم عن مراتبهم التي رتّبهم الله فيها،
ظهروا للناس بمظاهر النيابة عن رسول الله صلّى الله عليه وآله، وأظهروا التأييد
لدينه، والخدمة لشريعته، فوقع الالتباس، واغترّ بهم أكثر الناس، ولمّا ملكوا من
الأمّة أزمّتها، واستسلمت لهم برمّتها، حرّموا - والناسُ في سِنَةٍ عن سوء مقاصدهم
- من حلال الله ما شاؤوا، وحلّلوا من حرامه ما أرادوا، وعاثوا في الدين وحكّموا
فيه القاسطين، فَسَمَلُوا أعينَ أولياء الله، وقطّعوا أيديهم وأرجلهم من خلاف، وصلبوهم
على جذوع النخل، ونفوهم عن عقر ديارهم حتى تفرّقوا أيدي سبأ، ولعنوا أمير المؤمنين
عليه السّلام، وكنّوا به عن أخيه الصادق الأمين صلّى الله عليه وآله.
استنقاذ
الدين
فلو دامت تلك الأحوال،
وهم أولياء السلطة المطلقة، والرئاسة الروحانيّة، لما أبقوا للإسلام عيناً ولا
أثراً، لكنْ ثارَ الحسينُ عليه السّلام فادياً دين الله، عزّ وجلّ، بنفسه وأحبّائه
حتّى وردوا حياض المنايا، ولسان حاله يقول:
إِنْ
كانَ دينُ مُحَمَّدٍ لَمْ يَسْتَقِمْ
|
إِلّا
بِقَتْلي فَيَا سُيوفُ خُذيني
|
فاستَنقذ الدين من أيدي
الظالمين، وانكشف الغطاء - بوقوع تلك الرزايا - عن نفاق القوم حتّى تجلّت عداوتهم
لله، عزّ وجلّ، وظهر انتقامهم من رسول الله، صلّى الله عليه وآله، إذ لم يكتفوا
بقتل الرجال من بنيه عُطاشى والماء تعبث فيه خنازير البرّ وكلابه، ولم يقنعوا بذبح
الأطفال من أشباله أحياءً، وقد غارت أعينهم من شدّة العطش، ولا اكتفوا باستئصال
العترة الطاهرة ونجوم الأرض من شَيبة الحمد حتّى وطأوا جثثهم بسنابك الخيل، وحملوا
رؤوسهم على أطراف الأسنّة، وتركوا أشلاءهم الموزّعة بالعراء، ثمّ أزروا ودائع
الرسالة وحرائر الوحي مسلّبات، وطافوا البلاد بهنّ سبايا كأنهنّ من كوافر البربر،
حتّى أدخلوهنّ تارةً على ابن مرجانة، وأخرى على ابن آكلة الأكباد، وأوقفوهنّ على
درج الجامع في دمشق حيث تُباع جواري السبي.
فلم تبقَ بعدها وقفةٌ من
عداوتهم لله، ولا ريبةٌ بنفاقهم في دين الإسلام، وعَلِمَ، حينئذٍ، أهلُ البحث
والتنقيب من أولي الألباب أنّ هذه أمورٌ دُبِّرت بليلٍ، وأنّها عن عَهْدٍ عهدَ السلف
بها إلى خَلَفه، وما كانت ارتجالاً من يزيد - وما المسبّب لو لم ينجح السبب - ثمّ
لم تزل أنوار هذه الحقيقة تتجلّى لكلّ مَن نظر نظراً فلسفيّاً في فجائع الطفّ
وخطوب أهل البيت عليهم السلام، أو بَحَثَ بَحْثَ مدقّقٍ عن أساس تلك القوارع،
وأسباب هاتيك الفظائع.
وقد علم أهل التدقيق من
أولي البصائر أنّه ما كان لهذا الفاجر أن يرتكب من أهل البيت ما ارتكب، لولا ما مهّده
سلَفُه من هدم سورهم، وإطفاء نورهم، وحمله الناس على رقابهم، وفعله الشنيع يوم
بابهم. وتَاللهِ لولا ما بذله الحسين عليه السّلام في سبيل إحياء الدين من نفسه
الزكيّة، ونفوس أحبّائه بتلك الكيفيّة، لأمسى الإسلام خبراً من الأخبار السالفة،
وأضحى المسلمون أُمّةً من الأمم التالفة، إذ لو بقي المنافقون على ما كانوا عليه
من الظهور للعامّة بالنيابة عن رسول الله، والنصح لدينه صلّى الله عليه وآله، وهم
أولياء السلطة المطلقة والإرادة المقدّسة، لغرسوا من شجرة النفاق ما أرادوا، وبثّوا
من روح الزندقة ما شاؤوا، وفعلوا بالدين ما تُوجبه عداواتهم له، وارتكبوا من
الشريعة كلّ أمر يقتضيه نفاقهم.
وأمّا وشَيبة الحسين عليه
السلام المخضوبة بدمه الطاهر، لولا ما تحمّله سلام الله عليه، في سبيل الله، ما
قامت لأهل البيت عليهم السلام (وهم حُجج الله) قائمة، ولا عرفهم (وهم أولو الأمر)
ممّن تأخّر عنهم أحدٌ، لكنّه - بأبي وأُمّي - فضح المنافقين، وأسقطهم من أنظار
العالمين، واستلفت الأبصار مصيبته إلى سائر مصائب أهل البيت، واضطرّ الناس، بحلول
هذه القارعة، إلى البحث عن أساسها، وحملَهم على التنقيب عن أسبابها، والفحص عن
جذرها وبذرها، واستنهض الهِمم إلى حفظ مقام أهل البيت عليهم السلام، وحرّك الحميّة
على الانتصار لهم، لأنّ الطبيعة البشريّة، والجِبلّة الإنسانيّة تنتصر للمظلومين
وتنتقم بجهدها من الظالمين، فاندفع المسلمون إلى موالاة أهل البيت عليهم السلام حتّى
كأنّهم قد دخلوا - بعد فاجعة الطفّ - في دور جديد، وظهرت الروحانيّة الإسلاميّة
بأجلى مظاهرها، وسطع نور أهل البيت عليهم السلام بعد أن كان محجوباً بسحائب ظلم
الظالمين، وانتبه الناس إلى نصوص الكتاب والسنّة فيهم عليهم السلام، فهدى الله بها
مَن هدى لدينه، وضلّ عنها مَن عميَ عن سبيله.
وكان الحسين - بأبي وأُمّي
- على يقينٍ من ترتُّب هذه الآثار الشريفة على قتله، وانتهاب رحْله، وذبح أطفاله،
وسبي عياله، بل لم يجد طريقاً لإرشاد الخلق إلى الأئمّة بالحق، واستنقاذ الدين من
أئمّة المنافقين - الذين خفيَ مكرهم، وعلا في نفوس العامّة أمرهم - إلّا الاستسلام
لتلك الرزايا، والصبر على هاتيك البلايا، وما قصد كربلاء إلّا لتحمّل ذلك البلاء؛
عهد معهود عن أخيه، عن أبيه، عن جدّه، عن الله، عزّ وجلّ، ويرشدك إلى ذلك - مضافاً
إلى أخبارنا المتواترة من طريق العترة الطاهرة - دلائل أقواله، وقرائن أفعاله، فإنّها
نصٌّ فيما قلناه..
*
ومنها: إنّها جامعة إسلاميّة، ورابطة إماميّة
باسم النبيّ وآله، صلّى الله عليه وآله، ينبعث عنها الاعتصام بحبل الله، عزّ وجلّ،
والتمسّك بثقلَي رسول الله، صلّى الله عليه وآله، وفيها من اجتماع القلوب على أداء
الرسالة بمودّة القربى، وترادف العزائم على إحياء أمر أهل البيت عليهم السلام ما
ليس في غيرها.
وحسبك في رجحانها ما
يتسنّى بها للحكيم من إلقاء المواعظ والنصائح، وإيقاف المجتمعين على الشؤون
الإسلاميّة، والأمور الإماميّة ولو إجمالاً، وبذلك يكون أمل العامليّ، نفس أمل
إخوانه في العراق وفارس والبحرين والهند وغيرها من بلاد الإسلام.
ولا تنسَ ما يتهيّأ
للمجتمعين فيها من الاطّلاع على شؤونهم، والبحث عن شؤون إخوانهم النائين عنهم، وما
يتيسّر لهم حينئذٍ من تبادل الآراء فيما يعود عليهم بالنفع، ويجعلهم كالبنيان
المرصوص، يشدّ بعضه بعضاً، أو كالجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضوٌ أَنَّتْ له سائر
الأعضاء، وبذلك يكونون مستقيمين في السير على خطّةٍ واحدة، يسعون فيها وراء كلّ ما
يرمون إليه.
*
ومنها: إنّ هذه المآتم دعوة إلى الدين بأحسن
صورة وألطف أسلوب، بل هي أعلى صرخة للإسلام توقظ الغافل من سباته، وتنبِّه الجاهل
من سكراته، بما تُشربه في قلوب المجتمعين، وتَنفثه في آذان المستمعين، وتبثّه في
العالم وتصوّره قالباً لجميع بني آدم، من أعلام الرسالة، وآيات الإسلام، وأدلّة
الدين، وحُجج المسلمين، والسيرة النبويّة، والخصائص العلويّة، ومصائب أهل البيت
عليهم السلام في سبيل الله، وصبرهم على الأذى في إعلاء كلمة الله.
فَأُولو النظر والتحقيق
يعلمون أنّ خطباء المآتم كلّهم دعاة إلى الدين من حيث لم يقصدوا ذلك، بل لا مبشّر
بالإسلام على التحقيق سواهم، وأنت تعلم أنّ الموظفين لهذا العمل الشريف لا يقصرون
في أنحاء البسيطة عن الألوف المؤلّفة، فلو بذل المسلمون شطر أموالهم ليوظّفوا دعاة
إلى دينهم بعد أولئك الخطباء ما تيسّر ذلك لهم، لما تيسّر مَن يستمع الدعوة، على
مرّ الدهور، استماع الناس لما يُتلى في هذه المآتم بكلّ رغبة وإقبال.
*
ومنها:
ما قد أثبته العيان، وشهد به الحسّ والوجدان، من بثّ روح المعارف بسبب هذه المآتم،
ونشر أطرافٍ من العلوم ببركتها، إذ هي - بشرط كونها على أصولها - أرقى مدارس
للعوامّ، يستضيئون فيها بأنوار الحِكَم من جوامع الكَلم، ويلتقطون منها دُرَر السِّيَر،
ويقفون بها على أنواع العِبر، ويتلقّون فيها من الحديث والتفسير والفقه ما يلزمهم
حملُه ولا يسعهم جهله، بل هي المدرسة الوحيدة للعوامّ في جميع بلاد الإسلام.
مكارم الإحياءات وكراماتها
وقد تفنّن خطباؤها في ما
يصدعون به أوّلاً على أعوادها، ثمّ يتخلّصون منه إلى ذكر المصيبة وتلاوة الفاجعة.
فمنهم: مَن يشنف المسامع ويشرّف
الجوامع بالحِكم النبويّة، والمواعظ العلويّة، أو يتلو أوّلاً من كلام أئمّة أهل
البيت عليهم السلام ما يُقرِّب المستمعين إلى الله، ويأخذ بأعناقهم إلى تقواه.
ومنهم: مَن يتلو أوّلاً من
سيرة النبيّ صلّى الله عليه وآله، وتاريخ أوصيائه عليهم السلام، ما يبعث المستمعين
على مودّتهم، ويضطرّهم إلى بذل الجهد في طاعتهم.
ومنهم: مَن ينبّه الأفكار، أوّلاً،
إلى فضل رسول الله صلّى الله عليه وآله، ومقام أوصيائه عليهم السلام، بما يسرده من
الأحاديث الصحيحة، والآيات المحكمة الصريحة.
ومنهم: مَن يتلو أوّلاً
الأحكام الشرعيّة والعقائد الدينيّة ما تعمّ به البلوى المكلّفين، ولا مندوحة من
معرفته لأحدٍ من العالمين.
هذه سيرتهم المستمرّة أيّام
حياتهم، فهل ترى بجدّك للعوامّ مدرسة تقوم مقامها في جسيم فوائدها وعظيم مقاصدها؟
لا وسرّ الحكماء الذين بعثوا شيعتهم عليها وحكمة الأوصياء الذين أرشدوا أولياءهم
إليها.
*
ومنها: الارتقاء في الخطابة، والعروج إلى منتهى
البراعة، كما يشهد به الوجدان، ولا نحتاج فيه إلى برهان.
*
ومنها: العزاءُ عن كلّ مصيبة، والسّلوة لكلّ
فادحة، إذ تهون الفجائع بذكر فجائعهم، وتُنسى القوارع بتلاوة قوارعهم، كما قيل في
رثائهم عليه السلام:
أَنْسَتْ
رَزِيَّتُكُمْ رَزايانا الّتي
|
سَلَفَتْ
وَهوَّنَتِ الرَّزايا الآتية
|
* ومنها: إنعاشُ أهل
الفاقة، وإثلاج أكبادٍ حرّى من أهل المسكَنة على الدوام بما يُنفق في هذه المآتم
من الأموال في سبيل الله، عزّ وجلّ، وما يُبذل فيها لأهل المَسْغَبة وغيرهم...