من
تاريخ المجالس الحسينية
محطّات مشرقة في حياة الأُمّة
فائــق
محمّد حسيــن*
يذكر
التاريخ أنّ أوّل مأتم أقيم بعد واقعة الطفّ مباشرةً تكوّن من السيّدات العلويّات،
وهنّ زوجات وأخوات وبنات الإمام الحسين عليه السلام والهاشميين الذين استشهدوا معه،
وقد عُقد ذلك المأتم في العراء فوق ساحة المعركة، وتحت بقايا شمس اليوم العاشر من
المحرّم، إذ كانت القلوب مثقلة بالأشجان، والصدور ملأى باللوعة والأحزان، تعالت
فيها صرخات نساء بني هاشم في كلّ ركن من أركان الطفّ.
كما
أقيمت مآتم أُخَرُ في وسط الطريق عندما سيقت النساء أسارى إلى الشام، فعلى طول
الطريق كانت النساء يندبن قتلاهنّ وينشرن مظلومية أهل البيت، عليهم السلام،
والمبادئ التي قتل من أجلها الإمام الحسين وأصحابه. ولقد شاء الله تعالى أن يفضح
جريمة بني أميّة في عقر دارهم، إذ أقامت العقيلة زينب عليها السلام وبقية
الهاشميات بيتاً للعزاء على الإمام الحسين الشهيد في دمشق بالذات، فلم تبق هاشمية
ولا قرشية إلّا ولبست السواد حزناً على الإمام الحسين عليه السلام وندبته.
وانتقلت
المآتم الحسينية إلى المدينة المنوّرة، «وكانت أوّل صارخة فيها على الحسين، عليه
السلام، عندما قتل بكربلاء أمّ سلمة زوج النبي، صلّى الله عليه وآله، وذلك أنّ
رسول الله دفع إليها قارورة فيها تربة من كربلاء، وقال لها: إِنَّ جَبْرَئيلَ أَعْلَمَني
أَنَّ أُمَّتي تَقْتُلُ الحُسَيْنَ، وَأَعْطاني هَذِهِ التُّرْبَةَ، فَإِذا صارَتْ
دَماً عَبيطاً فَاعْلَمي أَنَّ الحُسَيْنَ قَدْ قُتِلَ ".." صارَتِ
القارورَةُ عِنْدَها، فَلَمّا حَضَرَ ذَلِكَ الوَقْتُ جَعَلَتْ تَنْظُرُ إِلى
القارورَةِ في كُلِّ ساعَةٍ، وَفي يَوْمِ الطَّفِّ رَأَتْها صارَتْ دَماً عَبيطاً!
فَصاحَتْ: واحُسَيْناهُ! يا ابْنَ رَسولِ اللهِ!..
فَتَصارَخَتِ النِّساءُ في المَدينَةِ حَتّى سُمِعَ في المَدينَةِ
رَجَّةٌ ما سُمِعَ مِثْلُها قَط».
ومن
أجل استمرار ثورة الإمام الحسين عليه السلام، وتثبيت مفاهيمها الأساسية في وجدان
الشعب، واستيعاب معانيها، وبيان ظلم الطاغية يزيد، كان لا بدّ من استنهاض الهمم
وبثّ روح الكفاح والجهاد، فاقتضت الضرورة انبثاق المنبر الحسيني، وكانت وظيفته
يومذاك وستبقى وظيفة بالغة الأهمية، إذ تميّزت بخصوصية غير عادية وقدّمت لوحة
ناطقة ببشاعة ما أقدم عليه بنو أُميّة.
بدايات
العزاء الحسيني
تروي
كتب التاريخ أنّ أوّل زائر لقبر الإمام الحسين عليه السلام هو عبد الله بن الحرّ
الجعفي لقرب موضعه منه، فقد قصد – بعد أن كان تخلّف عن نصرة سيّد الشهداء عليه
السلام - الطفّ ووقف على الأجداث ونظر إلى مصارع القوم فاستعبر باكياً.
وجاء
في (بحار الأنوار) للعلّامة المجلسي أنّ أوّل من قرأ الشعر على مصيبة سيد الشهداء
الإمام الحسين عليه السلام هو الشاعر عقبة بن عمرو السهمي، من قبيلة بني سهم:
إذا العَيْنُ قَرَّتْ في الحياةِ وَأَنْتُمْ
|
تَخافونَ في الدُّنْيا فَأَظْلَمَ نورُها
|
مَرَرْتُ عَلى قَبْرِ الحُسَيْنِ بِكَرْبَلا
|
فَفاضَ عَلَيْهِ مِنْ دُموعي غَزيرُها
|
فَما زِلْتُ أَرْثيهِ وَأَبْكي لِشَجْوِهِ
|
وَيَسْعَدُ عَيْني دَمْعُها وَزَفيرُها
|
لقد
أثّرت هذه الزيارات وأبيات الشعر تأثيراً فاعلاً في نفوس القائمين بها والمحيطين
بهم.. لا سيّما وأن مدينة كربلاء أضحت قبلة للزوّار، وعلى مدى الأشهر القليلة
استقطبت الكثير منهم، والذين بادروا إلى نقل مشاهداتهم ورواياتهم عن تلك الواقعة
المرعبة إلى ذويهم وأبناء قراهم ومدنهم، ما ساعد على تأجيج الحماس وإذكاء نيران
الحقد ضد الطاغية يزيد.
ولم
يقتصر الأمر على هؤلاء، بل كان لتدخّل كبار الشعراء وعتابهم المرير على المتقاعسين
عن نصرة الإمام الحسين، الأثر الكبير في تأجيج النيران ضدّ بني أمية وفي تحريك
الثوار..
وبعد
هذا كلّه وغيره نشطت، وبصورة ملحوظة، دعوات الثأر للحسين، عليه السلام وصحبه،
وكثرت المجالس التأبينية والمآتم.. ففي ربيع الأول من عام 65 للهجرة، وفي عهد عبد
الملك بن مروان، قصد كربلاء جماعة من «التوابين» من أهل الكوفة يقارب عددهم
الأربعة آلاف نسمة بقيادة سليمان بن صرد الخزاعي يطالبون بثارات الإمام الحسين
عليه السلام، فازدحموا حول القبر كازدحام الناس عند لثم الحجر الأسود في الكعبة،
ولم يكن إذ ذاك ما يظلّل القبر فكان ظاهراً معروفاً، ومكثوا في كربلاء يوماً
وليلة، يبكون ويتفجّعون، ثمّ رحلوا إلى «عين الوردة» فقاتلوا الأمويين فيها، وقُتل
رأسهم سليمان بن صرد الخزاعي فتشتّت شملهم. ولهم في رثاء الإمام الحسين خطب وقصائد
ورد ذكرها في (تاريخ الطبري) وغيره.
استمرت
حركة الدعوة لإحياء ثورة الإمام الحسين دون توقّف، وغدت أكثر تنظيماً وفعالية
بمرور الأيام، وأصبح الكميت بن زيد الأسدي أبرز الدعاة، وكان خطيباً وشاعراً
وعالماً بمختلف علوم عصره، وقد وظّف قدراته بإخلاصٍ وتفان في سبيل نصرة حركة
الثورة على الأمويين، فأنتج أدبَ دعوةٍ جديداً، يعدّه الباحثون المحرّض الأول على
التجديد الشعري الثوري، الذي عرف فيما بعد باسم «الشعراء المحدثين».
ذلك
الأمر شجّع أنصار الإمام الحسين على المضيّ قدماً في تقديم أوضح الصور عن مأساة
الطف، «وكان أول من مثّل واقعة كربلاء وأشاع التمثيل فيها هو العلّامة المجلسي
الذي كان أكثر العلماء اطلاعاً على الأخبار وكلمات الفقهاء، وكلّ من جاء بعده من
علماء البلاد أمضى فعله ولم يُنكر عليه».
وكان
الإمام الصادق عليه السلام قد حدّد الطريق إلى إقامة مراسم العزاء الحسيني، فقال
للفضيل: «بَلَغَني أَنَّ قَوْماً يَأْتونَ قَبْرَ جَدّي الحُسَيْن، عَلَيْهِ
السَّلامُ، مِنْ نَواحي الكوفَةِ، وَناساً مِنْ غَيْرِهِمْ، وَنِساءً يَنْدُبْنَهُ،
وَذَلِكَ في النِّصْفِ مِنْ شَعْبانَ، فَمِنْ بَيْن قارِئٍ يَقْرَأُ، وَقاصٍّ يَقُصُّ،
وَنادِبٍ يَنْدُبُ، وَقائِلٍ يَقولُ المَراثي. فقلت: نعم جُعلت فداك، قد شهدتُ
بعض ما تصف. فقال: الحَمْدُ للهِ الّذي جَعَلَ في النّاسِ مَنْ يَفِدُ إِلَيْنا
وَيَمْدَحُنا وَيَرْثي لَنا».
لقد
عدّ بعض الباحثين والمتخصّصين في المنبر الحسيني قول الإمام الصادق عليه السلام بدايات
نشوء المأتم وبروز دور البعض في إدارة ما يشبه مجالس العزاء الحالية.
ومرّت
على المآتم الحسينية فترات ضعف وقوّة تبعاً للظروف، ففي العهد العباسي كانت المآتم
تُمنع تارة ويُسمح بإقامتها تارة أخرى، وإن هذه المجالس كانت تقام علناً أيام
المأمون. غير أن المجالس التي كان يقيمها أهل البيت أصبحت شعائر ثابتة في القرن
الثالث للهجرة حين ظهر اسم النائح الذي يرثي الإمام الحسين عليه السلام بشعر ملحن.
وقد
تطورت النياحة إلى قراءة (مقتل الحسين) لابن نما وابن طاوس وهي أول كُتب المقاتل،
ومن ذلك الحين أطلق على من يقرأ النياحة في عاشوراء اسم «قارئ المقتل» أو «القارئ»،
ثم ألّفت عدّة كتب خاصة كانت بمنزلة المادة التي يلقيها الخطباء.
وبعد
انهيار الدولة العباسية وصعود البويهيين إلى السلطة في القرن العاشر الميلادي، جاء
معزّ الدولة البويهي (936 - 967م) وكان مع وزيره ابن المهلّبي من الموالين. قال
ابن الجوزي في (المنتظم): «جرت في العاشر من محرّم
عام (352 للهجرة/ 963م) ولأوّل مرة في التاريخ احتفالات رسمية وفريدة في يوم
عاشوراء، حيث أغلقت الأسواق...».
وإثر
ذلك تنفس الموالون الصعداء، وأصبح الإعلان عن شعائرهم بذكرى عاشوراء الإمام
الحسين، عليه السلام، أمراً متاحاً. وأخذوا يمارسون شعائرهم بحرّية تامة وبصورة
علنية، وينقل المقريزي أيضاً: «جرت شعائر الحزن والعزاء يوم عاشوراء أيضاً أيام
الإخشيديين في مصر واتّسع نطاقها أيام الفاطميين، حيث توقّف البيع والشراء وتعطّلت
الأسواق وذهب الناس إلى مشاهد أم كلثوم ونفيسة في القاهرة وهم باكون نائحون».
وذهب
الفاطميون إلى إظهار الحزن على الإمام الحسين عليه السلام في عاشوراء بصورة ملحمية
مؤثرة في النفوس «فكانت مصر في دولتهم في اليوم العاشر من المحرم تبطل البيع
والشراء وتعطّل الأسواق ويجتمع أهل النوح والنشيد ويطوفون بالأزقة والأسواق ويأتون
إلى مشهد أم كلثوم ونفيسة وغيرهما وهم نائحون باكون ويمضون إلى الجامع الأزهر أو
إلى دار الخليفة، ولربما حضر الخليفة وهو حافٍ وعليه شعار الحزن، فيُقرأ مقتل
الحسين عليه السلام، ثم ينشد الشعراء ما قالوه في الحسين وأهل البيت عليهم السلام
إلى أن ينتصف النهار ..».
امتداد
المجالس الحسينية
وعلى
أثر مجيء الصفويين إلى الحكم في إيران في بداية القرن السادس عشر الميلادي، «قامت
الاحتفالات بيوم عاشوراء في كل عام، ثم تطورت مراسم العزاء خلال القرن التاسع عشر
وانتشرت في جميع أنحاء إيران».
وبعد
إيران انتشرت مجالس العزاء الحسيني بكثافة، وامتدّت إلى الهند وآذربيجان التركية
والأناضول... لكن ذلك لم يكن أمراً سهلاً وهيناً، إذ واجه المنبر الحسيني عراقيل
وصعاب ليس في البلاد البعيدة فحسب، بل في العراق أيضاً «خلال حكم السلاجقة
والعثمانيين حيث أصدر الولاة في العراق مراسم لمنع أو تحريم مراسم العزاء الحسيني
أو التضييق عليها ما أجبر شيعة بغداد على إقامة مجالس التعزية في بيوتهم ولكن
بصورة سرية، خوفاً من السلطات العثمانية خصوصاً في بغداد والكاظمية».
وبقي
الحال كما هو عليه حتى انعقاد صلح عام (1821م) بين داود باشا والحكومة الإيرانية،
فانتهز البعض هذه المناسبة فأقاموا مجالس العزاء علناً.. وكان الشيخ موسى كاشف
الغطاء أول من أقام مجلس عزاء في داره بالنجف الأشرف. وكان الشيخ محمد نصار النجفي
المتوفي عام (1824م) أول خطباء وشعراء المنبر الحسيني الذي أقام في داره مجلس
العزاء الحسيني وقرأ بنفسه التعزية.
وفي
سنة (1831م) أصبح علي رضا والياً على العراق، وكان غير متعصّب، فمنح أنصار الإمام
الحسين عليه السلام الحرية في إقامة شعائرهم الدينية، وجرّاء ذلك تطورت مراسم
العزاء ونمت بسرعة، وأخذت تقام بصورة علنية ومكثفة «وحضر الوالي شخصياً أحد مجالس
التعزية الذي أقامته إحدى العوائل الشيعية في بغداد يوم عاشوراء».
وفي
عام (1921م) وعند تأسيس الحكومة العراقية الأولى أُعلن يوم عاشوراء عطلة رسمية
لأول مرة حداداً في ذكرى استشهاد الإمام الحسين عليه السلام وسُمح بإقامة مراسيم
العزاء الحسيني..
(مختصَر)
* أديب وباحث في التاريخ
الإسلامي - العراق