عاشوراء بين
الخطابين: المناقبي والتربوي
____ الشيخ د. محمد شقير*____
ليس صحيحاً القول إنّ لعاشوراء وثورة الإمام الحسين عليه
السلام خطاباً واحداً، بل يوجد أكثر من خطاب، لكلّ منها منطلقاته وسماته ونتائجه
بل وأهدافه، وعندما يجري التعبير بالخطاب العاشورائي يقصد به القاسم المشترك بين
أكثر من خطاب يتمحور موضوعه حول عاشوراء وثورة الحسين، عليه السلام، ومجمل ما يتصل
بمعارف أهل البيت، عليهم السلام، ومدرستهم، والتي يستفاد من المنبر العاشورائي
لبيانها وتبليغها لعامّة الناس، وخصوصاً شيعة أهل البيت عليهم السلام.
ولكن ما نجده هو أن بعض خطباء المنبر الحسيني يركّزون،
إلى حدّ بعيد، على الخطاب المناقبي، والذي يقصد به التركيز على مناقب أهل البيت
وفضائلهم وصفاتهم..
ولقد كان لهذا الخطاب مبرّراته التي تستدعي التركيز عليه
في التاريخ، حيث كانت الحاجة إلى الدفاع عن مكانة أهل البيت وفضائلهم، في مقابل ما
كانوا يتعرضون له من هجوم يستهدف إنزالهم عن مراتبهم التي رتّبهم الله فيها، والانتقاص
من مقامهم، بغرض إبعاد الناس عنهم "..".
ولا يعني ذلك أنّ تلك المبرّرات التي تعنى بالدفاع عنهم
قد انتفت اليوم، أو أنه لا توجد حاجة دائمة إلى بيان تلك الفضائل، للتدليل على من
يجب التمسّك به واتباع نهجه والاعتصام بحبله، بل ينبغي القول إنّ الخطاب الإسلامي
الذي ينتمي إلى مدرسة أهل البيت عليهم السلام يجب أن يحتوي دائماً على ذلك الجانب
المناقبي، لما له من دلالات ترتبط بأسس مدرسة أهل البيت ومعارفهم، وبيان تلك
المنازل التي أنزلهم الله تعالى فيها. إنما يقع النقاش في مكان آخر، وهو هل من
الصحيح الاقتصار على ذلك الخطاب المناقبي، أو الاستغراق فيه بمعزل عن طبيعة الظروف
والأولويات والحاجات التي قد تتطلّب تناول موضوعات مستقاة من معارف أهل البيت،
ترتبط - على سبيل المثال - بالبعد الأخلاقي والتربوي والروحي، وتعنى بأخلاق
المعاملة لدى مختلف الفئات الاجتماعية، وتنظر إلى ما هو قائم من مشكلات اجتماعية،
فيعمد ذلك الخطاب إلى توعية الناس لكيفية التعامل معها، وإلى تنمية ثقافة العلاقات
الأخويّة، والتواصل البنّاء والأخلاقي لدى جميع أفراد المجتمع وفئاته؟
"..".
يمكن القول، وللأسف، إن هذا الوضع قائم، حيث أنّ بعضاً
من خطباء المنبر الحسيني لا يستثمر، بشكل مدروس، تلك الفرصة التي يوفّرها الموسم
العاشورائي، في تعليم الناس تلك المعارف التي تتّصل بشؤون حياتهم، واهتماماتهم،
وبيان تلك المفاهيم الدينية والأخلاقية التي تعالج أكثر من خَلل موجود في سلوكياتهم
ومعاملاتهم... فكيف يستقيم أن نُهمل مجمل تلك المضامين والمفاهيم المبثوثة في تراث
أهل البيت عليهم السلام، في حين أنّ الناس هم أحوج إلى من ينبّههم – مثلاً - إلى
صدق الحديث، وأداء الأمانة، ويعلّمهم الكلمة الطيبة، وحسن الخُلق، ويذكّرهم بالورع
والتقوى، ويحذّرهم من حب الدنيا والاستغراق فيها، ويبيّن لهم من وجهة نظر دينية
مجمل الحلول لمشاكلهم الأخلاقية والاجتماعية والسلوكية، التي تفسد عليهم حياتهم بل
ودينهم! ".."
لا شك في أنّ هدف الإسلام هو بناء الفرد الصالح، مقدمةً
لبناء المجتمع الصالح. وهذا يعني ضرورة التركيز على تزكية النفس وتربيتها بشكل
صحيح، وتحليتها بالأخلاق الطيبة، وتطهيرها من الأخلاق الفاسدة، وتعليم الكتاب
والحكمة... وهذا يتطلّب بيان مقدّمتين:
الأولى:
تحديد من هو المرجع الصالح لأخذ كل تلك المعارف منه "..".
الثانية:
بيان كل تلك المعارف والمفاهيم الموجودة لدى تلك المدرسة الأسوة والقدوة، من أجل
العمل بها، والاهتداء بهديها، والاستنان بسنّتها "..".
فإذا تمّ بيان هاتين المقدمتين، يمكن الوصول إلى النتيجة
الصحيحة وهي: أنه يجب العمل بهذه الأحكام، والالتزام بهذه المفاهيم، وتطبيق هذه
الرؤى في مختلف مجالات الحياة الاجتماعية، لأنها تصدر عن المرجع الصالح، والقدوة
الصالحة، أي من أمرنا الله تعالى بالرجوع إليهم، والأخذ منهم، والاستنان بسنّتهم،
والسير على نهجهم.
أما إذا حصل خلل في المقدمة الأولى، أي لم تحدّد بشكل
صحيح بمن يجب الاعتصام، وإلى من يجب الرجوع، وبعروة من يجب التمسك؛ فهذا يؤدي إلى
نتائج سلبية كثيرة، عندما نعتصم بمن لا يكون أهلاً للاعتصام به، ونهتدي بمن ليس
أهلاً للاهتداء به، ونرجع إلى من نهانا الله تعالى عن الرجوع إليه، والأخذ منه.
أيضاً إذا حصل خلل في المقدمة الثانية، بمعنى علمنا من
هم الأسوة والقدوة لنا، ولكن لم نعلم كيف نقتدي بهم، وبماذا نتأسّى بهم، وكيف
نستفيد من قدوتهم وأسوتهم؛ فهذا أيضاً يؤدي إلى تعطيل الاستفادة منهم، ويقود إلى حرماننا
من بركات معارفهم، ومنافع هديهم، وكثير الخير الكامن في الاستنان بسنّتهم "..".
ما ينبغي قوله هو إنّ الخطاب المناقبي من شأنه أن يوفي
المقدمة الأولى حقّها، ولكنّه يهمل إلى حد بعيد المقدمة الثانية، ويمارس نوعاً من
الانفصام بين هاتين المقدمتين، ولا يتعامل بشكل هادف وتكاملي بينهما، ولا ينظر إلى
المقدمة الأولى باعتبار كونها مقدمة للمقدمة الثانية، توصلاً إلى النتيجة، وهي
العمل بهدي أهل البيت عليهم السلام وعلومهم ومعارفهم.
ولذلك، ترى أفراداً يتفاعلون أو ينفعلون إلى أبعد الحدود،
عندما يتعلق الأمر بأهل البيت، ولكنّهم في معاملاتهم يجانبون أهل البيت وآدابهم
"..".
عاشوراء كموعظة للتاريخ
لا أريد التوسّع كثيراً في بيان النتائج، التي يمكن أن
تترتب على الاقتصار على الخطاب المناقبي في عاشوراء أو غيرها، وحصر "الخطاب
العاشورائي" في بعده المناقبي؛ لكن، بالإضافة إلى ما ذكرنا من أنه يؤدي إلى
الحرمان من معارف أهل البيت المعنوية والأخلاقية والاجتماعية؛ فإنه يؤدي أيضاً إلى
فهم مدرسة أهل البيت بشكل مشوّه، لأن المستمع قد يتوهم عندها أنّها لا تحوي إلا
تلك الفضائل والمناقب، وأنها تهمل ما يرتبط بتربية الإنسان وأخلاقياته الاجتماعية،
وكل ما يرتبط بمشاكل المجتمع وقضاياه ".."
أو لربما يفهم البعض خطأ، أن حقيقة الارتباط بأهل البيت
هو فقط الارتباط العصبوي ".." أو قد يشتبه البعض أنّه إن كان لأهل البيت
كل تلك المنزلة الرفيعة، فيتوهّم أنه يكفي الانتساب إليهم، دون العمل بعلومهم،
والسير على نهجهم، حتى يصل إلى تلك المنزلة الرفيعة عند الله تعالى
"..".
إنّ ما تقدم يقود إلى أكثر من استنتاج:
1- إن الخطاب العاشورائي يجب أن يتعاظم دوره ليكون أكثر
انسجاماً مع الأهداف الأساس التي تسعى إليها مدرسة أهل البيت عليهم السلام.
2- إن الفرصة التي يوفرها الموسم العاشورائي ينبغي استثمارها
بشكل أفضل، تبعاً للأولويات التي ترتبط بأولويات النصّ من جهة، وبحاجات الواقع من
جهة ثانية "..".
3- إن الخطاب المناقبي يجب أن يتكامل مع خطاب
آخر ذي بُعد تزكوي تربوي أخلاقي اجتماعي، يُعنى بمختلف مجالات الحياة الاجتماعية
والمَدَنية للناس، وعلاقاتها وسلوكياتها المختلفة.
4- إن إهمال الخطاب التربوي والاقتصار على
المناقبي، سيكون له نتائج سلبية عديدة، لا شك أنها ليست مقصودة من خطباء المناقب
والفضائل "..".
5- عندما نؤكّد البعد الهادف والتكاملي في الخطاب
العاشورائي، لا نريد على الإطلاق إقصاء الخطاب المناقبي أو التقليل من أهميته، لأنه
يجب تظهير مناقب أهل البيت وفضائلهم عليهم السلام، لتحقيق أهداف تربوية واجتماعية
وأخلاقية، إذا ما تمّ تقديمها وبيانها ضمن سياق محدّد موصل إلى تلك الأهداف.
6- إن الغنى الموجود في تراث أهل البيت في المعارف
الأخلاقية والاجتماعية.. يفرض على جميع خطباء المنبر الحسيني العناية إلى حد بعيد
بتلك المعارف، أولاً لحاجة أفراد المجتمع إليها، وثانياً لأنها تؤدي إلى النتيجة
التي يريدها الخطاب المناقبي، وهي: إن من يملك هكذا علوم، ومعارف، وأخلاق، وآداب،
وبعد معنوي وروحي إلخ... لا يمكن إلا أن يكون هو الوارث لعلم النبيّين، والأسوة
الصالحة، والقدوة الصادقة، ومَن أمرنا الله تعالى بالرجوع اليهم، والاخذ منهم؛ وهم
محمّد وآل محمّد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
* عالم دين
وأستاذ جامعي – لبنان.