عاشوراء في أمر
اليوم
الدلالة
السياسية لقطع الرؤوس
_____ العلامة الشيخ
محمد مهدي شمس الدين* رحمه الله_____
تؤدّي هذه المقالة
المقتطفة من كتاب (أنصار الحسين عليه السلام) للعلامة الشيخ محمد مهدي شمس الدين رحمه الله مهمّة معرفية شديدة العمق في الكشف عن دلالة قطع الرؤوس في
موقعة كربلاء، فهي تشير إلى نقطة محورية في الثقافة الأموية، وهي ممارسة أعلى
درجات البطش والتوحّش لاستكمال الانقلاب الأسود على رسالة الوحي النبوي وأهل بيته
الأطهار عليهم السلام.
قَطْعُ رأس الميّت، قتيلاً كان
أو ميتاً حتف أنفه، من المُثلة. ومن الثابت في الشريعة الإسلاميّة النهي عن
التمثيل بالمسلم، وتحريمه، لا نعرف مخالفاً في ذلك على الاطلاق. بل إنّ من الثابت
النهي عن المُثلة حتّى بالنسبة إلى الكافر، وقد ثبت عن رسول الله صلّى الله عليه
وآله النهي عن ذلك. ولم يحدث في حياته صلّى الله عليه وآله، على كثرة ما خاض من
حروب ضدّ المشركين، أنّه أذن أو رضي بشيءٍ من ذلك، ولم يعرف عن الخلفاء من بعده أنّه
حدث في عهودهم شيء من ذلك على كثرة ما خاض المسلمون من حروب ضدّ الفرس وضدّ الروم،
إلّا ما كان في عهد أبي بكر حين عدا خالد بن الوليد على مالك بن نويرة وقومه
فقتلهم بزعم أنّهم مرتدّون، فقد قطعت رؤوس القتلى. وقد أثار تصرّف
خالد بن الوليد استنكاراً واسع النطاق في صفوف المسلمين. ولم يحدث بالنسبة إلى الإمام
عليّ بن أبي طالب عليه السلام في حروبه كلّها أن حُمل إليه رأس أو أمر بقطع رأس
أحد، أو رضي فعل ذلك.
ثقافة القطع الأموية
يظهر ممّا تقدّم أنّ الإسلام لا
يشجّع على قطع رأس العدوّ الكافر المحارب، فضلاً عن قطع رأس المسلم ونقله من بلدٍ
إلى بلد. وقد انتهك الأمويّون هذا الحكم الشرعي الواضح، ولا نعرف من أين اقتبس الأمويّون
هذا الأسلوب في معاملة قتلاهم، فلعلّه من آثار عقليّتهم الجاهليّة التي لم تزايلهم
في يومٍ من الأيام، أو لعلّهم اقتبسوه من الأمم الأجنبيّة، وخاصّة الروم الذين قلّدوهم
في طريقة حياتهم. وأول انتهاك نعرفه مارسه عامل معاوية بن أبي سفيان على الموصل،
وهو عبد الرحمن بن عبد الله بن عثمان الثقفي، الذي ألقى القبض على عمرو بن الحمق
الخزاعي - بعد
مطاردة طويلة - وقتله، وقطع رأسه، وبعث به إلى معاوية فكان رأسه أوّل رأسٍ حُمل في
الإسلام، وسنرى أن هذه الأوّليّة ستُذكر صفة لرأس الحسين عليه السلام أيضاً، ما
يدلّ على أنّ خبر قطع رأس عمرو وقتله لم ينتشر بين المسلمين على نطاقٍ واسع.
وفي ثورة الحسين عليه السلام ارتكب
الأمويّون وأعوانهم جريمة قطع الرؤوس ونقلها على نطاق واسع. فقد أمر عبيد الله بن
زياد بقطع رأس مسلم بن عقيل ورأس هاني بن عروة بعد قتلهما، وبعث بهما إلى يزيد بن
معاوية في الشام، وكتب إليه: «..وأمكن الله منهما، فقدّمتهما فضربت أعناقهما، وقد
بعثت إليك برؤوسهما».
وكان ابن زياد قد قتل في الكوفة
من رجال الثورة: قيس بن مسهر الصيداوي، وعبد
الله بن بقطر، وعبد الأعلى الكلبي، وعمارة بن صلخب الأزدي، فلم يبعث إلى يزيد بن
معاوية من بين مَن قتلهم إلّا رأسَي هاني بن عروة ومسلم بن عقيل.
بعد القضاء على الثائرين في
كربلاء قُطعت رؤوس عدد كبير من الشهداء، وحُملت إلى الكوفة إلى عبيد الله بن زياد،
ثمّ أرسلها إلى الشام إلى يزيد بن معاوية، وكان نقلها يتمّ بصورة استعراضيّة لتتاح
مشاهدتها لأكبر عددٍ من الناس في الطرق والمدن التي يمرّ بها حَمَلة الرؤوس.
وهنا نتساءل: لماذا قُطعت الرؤوس؟
وهل تمّ ذلك بمبادرة من عمر بن
سعد وضبّاطه، أو أنّه تمّ بناءً على أوامر من ابن زياد؟
وما المبدأ الذي اتُّبع في قطعها؟
ولماذا لم تقطع جميع الرؤوس، فلم
يُقطع إلّا رأسا مسلم بن عقيل وهاني بن عروة في الكوفة، ولم يقطع إلّا سبعون رأساً
أو ما يزيد قليلاً على هذا العدد من رؤوس الشهداء في كربلاء؟
هل قطع الرؤوس إجراء انتقامي محض،
أو أنّه عمل سياسي ذو صفة انتقاميّة؟
يمكن أن يكون عمر بن سعد قد أقدم
على اتّخاذ هذا القرار بقطع رؤوس الشهداء من عند نفسه، رجاء أن يزيد حظوة عند عبيد
الله بن زياد بعد أن فهم بوضوح الرغبة الشريرة عند عبيد الله بالمضيّ في الانتقام
إلى آخر ما يمكن تصوّره من إجراءات، ولكنّنا نرجّح - استناداً إلى ما نعرفه من
شخصيّة عمر بن سعد الذليلة الحقيرة المهتزّة - أنّ هذا الإجراء لم يتمّ بمبادرة
منه، ونرجّح أنّه قد تلقّى أمراً بذلك من عبيد الله بن زياد. ويعزّز هذا الرأي أنّ
قطع رؤوس القتلى من المسلمين كان في ذلك الحين عنصراً جديداً تماماً في الثقافة الإسلاميّة،
ولم يمارس قبل كربلاء إلّا من قِبل والي معاوية بن أبي سفيان على الموصل حين قطع
رأس عمرو بن الحمق الخزاعي كما قدّمنا آنفاً. وممّا يشعر بجدّة هذا العنصر في
الثقافة الإسلاميّة في ذلك الحين ما ورد في أحد نصوص الطبري، عن زرّ بن حبيش: «أوّل
رأس رُفع على خشبة رأس الحسين رضي الله عنه وصلّى الله على روحه». ما تقدّم يرجّح أن عمر بن سعد نفّذ أمراً تلقّاه،
ولم يقطع الرؤوس بمبادرة منه، وإن كنّا لا نجد في نصوص الموضوع نصّاً بهذا الشأن.
فالكتاب الذي وجّهه عبيد الله بن
زياد إلى عمر بن سعد مع شمر بن ذي الجوشن يتضمّن أمره لعمر بأن يدعو الحسين
وأصحابه إلى الاستسلام، فإن أبوا: «فازحف إليهم حتّى تقتلهم، وتمثِّل بهم، فإنّهم
لذلك مستحقّون، فإنْ قُتل الحسين فأوطئ الخيل صدره وظهره... وليس دهري في هذا أن
يضرّ بعد الموت شيئاً، ولكن عليّ قول: لو قد قتلته فعلت به هذا».
فالكتاب يتضمّن الأمر بالتمثيل،
ويتضمّن الأمر برضّ صدر الحسين وظهره بحوافر الخيل.
وقد نفِّذ الأمر الثاني بدقّة
بناءً على أوامر مباشرة وصريحة من عمر بن سعد، وقام بالمهمّة البشعة عشرة رجال، سمّى
الطبري منهم رجلين حضرميّين.
وأمّا التمثيل بالقتلى، فهل
المقصود به قطع الرؤوس؟ إذا كان ذلك فقد نفِّذ أيضاً، ولكنّه لم ينفَّذ بدقّة، فلم
تقطع رؤوس الجميع، إلّا أنّنا نشكّ في أنّ المراد بالتمثيل قطع الرؤوس، ونرجّح أنّ
هذا الإجراء قد نُفِّذ استناداً إلى أمر لم تصل إلينا صورة عنه. هل هو إجراء انتقامي؟
لا نشكّ في أنّه إجراء انتقامي بعث عليه الحقد
كما هو الشأن في رضّ الأجساد بحوافر الخيل والتمثيل بها، ولكنّنا نرجِّح أنّه ليس انتقاميّاً
فقط لا غاية له إلّا الانتقام وإرواء غليل الحقد، إنّه فيما نرى إجراء انتقامي له
غاية سياسيّة أيضاً.
ترسيخ الاستبداد بالتوحّش
فإنّ رجال النظام الأموي، وعلى
رأسهم يزيد بن معاوية، كانوا يرون أنّ ثورة الحسين عليه السلام يمكن أن تقوِّض
النظام كلّه، وكانوا يقدّرون أنّ ما نسمّيه الآن (الحالة الثوريّة)، حالة منتشرة
في مجتمع العراق بصورة خطيرة، وإن كانت بحاجة إلى تحريض لتتحرّك وتعبّر عن نفسها
في حركات ومواقف، ولذا فإنّ أيّ تحرّك تقوم به قوّة ذات نفوذٍ إسلامي يمكن أن يجمع
الطاقات الثوريّة، ويعطيها قوّة الحركة نحو إنجازٍ ثوريٍّ كبير الحجم، ولذا فإنّ
ثورة الحسين، ولقائدها، مركز معنوي كبير جداً في المجتمع الإسلامي، تشكّل بالنسبة
إلى النظام الأموي خطراً بما يمكن أن تؤدّي إليه من تفاعلات ينشأ منها تصعيد الروح
الثوريّة، وإعطاء جماعات الثوريّين في المجتمع الإسلامي أملاً كبيراً في الانتصار
بوجود قيادة ذات رصيد معنوي كبير لدى المسلمين.
كما أنّنا نقدّر أنّ رجال النظام
الأموي قد علموا أنّ الجماعة الثائرة مع الحسين تمثّل في غالبيّتها رجالاً قياديّين
يتبوّأون مراكز زعامة في المجموعات القبليّة الجنوبيّة والشماليّة، وأنّ لهؤلاء
أتباعاً يتأثّرون بمواقفهم، لهذا أراد رجال النظام أن يقضوا على كلّ أمل عند
الجماهير بنجاح أيّ محاولة ثوريّة، وذلك بجعل أبطال هذه المحاولة عِبرة للآخرين.
فحشدوا للقضاء على القوّة الصغيرة في كربلاء أضخم قوّة عسكريّة استطاعوا توفيرها
في هذا الزمن القصير... وذلك من أجل أن تضع الثائرين في حصارٍ محكَم، يحول دون
إفلات أيّ واحد منهم، ويحول دون وصول أيّ أحد إليهم، ويضمن القضاء عليهم في وقت
قصير جداً، لئلا يتأثّر الجيش الأموي نفسه إذا طال الوقت، ثمّ بتنفيذ إجراءات انتقاميّة
فيها إهانة للشهداء ونسائهم، مثل رضّ الأجساد بحوافر الخيل، والتمثيل بها، وحمل النساء
سبايا يستعرضهنّ الناس في الأمصار.
وهدف النظام الأموي من هذا كلّه
تبديد الهالة القدسيّة التي تحيط بالحسين وأهل البيت عليهم السلام، وإفهام
الثائرين الذين لم يتح لهم أن يشاركوا في ثورة كربلاء، أنّ إجراءات السلطة في
حماية نفسها لا تتوقّف عند حدّ، ولا تحترم أيّة قداسة وأيّ مقدَّس وأيّ عرف ديني
أو اجتماعي.
ويأتي قطع الرؤوس، وحملها من بلدٍ
إلى بلد، والطواف بها في المدن - وخاصّة الكوفة - جزءاً من هذه الخطّة العامّة،
ولتبديد إمكانات الثورة وتحطيم المناعة النفسيّة لدى المعارضة، وإفهامها بأنّ
الثورة قد انتهت بالقضاء عليها، ولقطع الطريق على الشائعات بالأدلّة الماديّة الملموسة
وهي رؤوس الثائرين، وفي مقدّمتها رأس الحسين عليه السلام.
وإذاً فقد كان ثمّة هدف سياسي
لقطع الرؤوس بالإضافة إلى كونه عملاً انتقاميّاً، وهذا يفسّر لنا لماذا لم تُقطع
جميع الرؤوس في الكوفة وكربلاء.
ففي الكوفة قَطع ابن زياد رأسَي
مسلم بن عقيل، وهاني بن عروة فقط من بين مَن قتلهم في الكوفة من الثوّار، وفي
كربلاء كانت الرؤوس التي قُطعت وأُرسلت إلى الكوفة والشام على النصف تقريباً من
عدد الشهداء.
لقد خضع قطع الرؤوس لعمليّة انتقاء، فقُطعت رؤوس الشخصيّات
البارزة التي تحظى بولاءٍ شعبيٍّ في نطاق قبائلها أو مدنها، والتي يحطّم قتلها
قاعدتها الشعبيّة، ويشتّت جمهورها، ويفقده فاعليّته.
إنّ هاني بن عروة ومسلم بن عقيل
هما أقوى شخصيّتين في التحرّك الذي حدث في الكوفة، فلذا قطع ابن زياد رأسيهما
وأرسلهما إلى يزيد بن معاوية برهاناً ماديّاً على قمع الثورة. أمّا الباقون، وهم
رجال عاديّون، فإنّ رؤوسهم لا تعني شيئاً، لأنّ قتلهم مع وجود القادة، لا يؤثّر
على الثورة، ولذا فلم يكن ابن زياد بحاجة إلى قطع أكثر من رأسَين.
وكذلك الحال في رؤوس شهداء
كربلاء، فإنّ المَوالي والرجال العاديّين لم تكن رؤوسهم تعني شيئاً بالنسبة إلى
الناقمين على الحكم الأموي. إنّ الذي يشلّ القدرة الثوريّة ويسبِّب الهزيمة النفسيّة
لدى الجماهير هو أن ترى زعماءها وقادتها قد قُتلوا، ورُفع الدليل المادّي على
قتلهم، وهو رؤوسهم، على أطراف الرماح. من هنا نفهم لماذا طِيف برأس الحسين في أزقّة
الكوفة: (..ثم أنّ عبيد الله بن زياد نصب رأس الحسين بالكوفة، فجعل يدار به في
الكوفة).
ونحن نرجّح - وإن لم نملك نصّاً
- أنّ القبائل التي توزّعت الرؤوس لم تتوزّعها بصورة عشوائيّة، وإنّما أخذت كلّ
قبيلة رؤوس الرجال البارزين من أبنائها، وذلك لتعزيز مركزها السياسي عند السلطة،
وليزداد مركز زعيمها الموالي للسلطة قوّةً ومناعة.
_____________________
*
مختصر عن كتاب (أنصار الحسين)