من محاضرة للعلّامة المحقّق الشيخ عبد الحسين الأميني
مقام الحبّ والبغض في سيرة الرسول الأعظم
_____ أعدّها للنشر: محمّد صالح _____
في هذه المقالة
للعلّامة المحقّق الشيخ عبد الحسين الأميني إطلالة على واحدة من أبرز القضايا
العقيديّة والأخلاقيّة، وهي المتعلّقة بالحبّ والبغض وصلتها بعقيدة التوحيد. فيها
نقرأ تأصيلاً لهذه القضيّة استناداً إلى الآيات الشريفة من كتاب الله، والسنّة
النبويّة والأحاديث المرويّة عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام.
نشير إلى أنّ هذا
النص هو جزء من محاضرة ألقاها العلّأمة في الستينيّات، وصدرت في كتاب تحت عنوان
(سيرتنا وسنّتنا).
«شعائر»
لله تعالى الأوّلية والأولوية في الحبّ،
والذي يوجد لدى غيره من دواعي الحبّ وأسبابه؛ فمن رشحة فضله، وغيث جوده، ونفحة
عطفه ولطفه، وإليه تنتهي حلقات الوجود، وإلى عوارف رحمته تمتدّ سلاسل الحياة، ومنه
جلّ وعلا سوابغ النعم، وصفو المنائح والمنن، ﴿وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ..﴾
النحل:53، فمن قدّم غيره تعالى عليه في الحبّ
فقد شذّ عن حكم العقل، وقدّم الممكن على الواجب، وآثر المعلول على العلّة، وعلى
الله أن يؤاخذه بذلك ويعاقبه كما جاء في قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنْ كَانَ آَبَاؤُكُمْ
وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا
وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ
اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ
بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾ التوبة:24.
ولمّا لم تك تحدّ تلكم الصفات - صفات
الواجب تعالى - ولا تقف دون حدٍّ موصوف، فالحبّ الذي تستتبعه هي - وهو وليدها، وينبعث
هو منها - لا بدّ من أن يكون غير محدود، ولا يتصوَّر فيه قطّ غلوّ، وإنْ بلغ ما
بلغ، إذ الغلوّ إنّما هو التجاوز عن الحدّ، والخروج عن القياس المعيّن المعروف
بحدوده ومقاديره، فما لا حدّ له لا غلوّ فيه.
وإنّما يختلف الناس في مراتب الحبّ
لله على عدد رؤوسهم لاختلافهم في العلم ببواعثه، وذلك أنّ الحب المنتزع من بواعثه وموجباته
يستتبعه العلم بها، وينشأ ويقدّر بقدر الاطلاع عليها، وليس جميع أفراد الفئة
المسلمة في معرفة الله وصفاته على حدٍّ سواء، بل: لكلّ امرئٍ منهم نصيب يخصّ به،
وحظّ لا يشاركه فيه غيره، ومبلغ من العلم بذلك لا يدانيه أحد. ولكلّ فرد شأن
يغنيه.
والحبّ لله، جلّ وعلا، إنّما يثمر
وينتج للعبد عندما يتحقّق التحابب من الطرفين، ولا يتأتّى ذلك إلا بعدما يوجد لدى
العبد أيضاً بواعث ودواعي يحبّه الله بها، وإليها يومىء قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ
تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ..﴾ آل
عمران:31. ومن أجلى أفراد تلك الفئة الصالحة
عباد الله المخلصين، مولانا أمير المؤمنين عليه السلام، وقد عرّفه بذلك رسول الله صلّى
الله عليه وآله في حديث الراية الصحيح الثابت المتواتر المتّفق عليه بقوله: «لأُعْطِيَنَّ
الرّايَةَ غَداً رَجًلاً يُحِبُّ اللهَ وَرَسولَهُ، وَيُحبُّهُ اللهُ وَرَسولُهُ».
وإذا تمّ التحابب، وحصلت الصلة من
الطرفين، يترتّب عندئذٍ على الحبّ كلّ فضيلة، ويستأهل العبد بذلك كلّ عناية من
الله تعالى وكرامة، وتحصل له القربى والزلفى لديه حتى يكون عنده مشرّفاً بما جاء
في (صحيح البخاري) من الحديث القدسي: «ما يَزالُ عَبْدي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوافِلِ
حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُه كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وبَصَرَهُ
الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، ويَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الّتي يَمْشي
بِها، وَإِنْ سَأَلَني لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعاذَني لَأُعيذَنَّهُ»
الحديث.
وهذا الوسيط في الحبّ الذي هو رمز
الصلة بين الله وبين مَن آمن به، ووسيلة العباد إليه، وباتّباعه تدرَك سعادة الدارَين،
وبه يفوز المؤمنون في النشأتين، وتنزل لهم البركات في العاجل والآجل، له الأوّلية
والأولوية في الحبّ... وله السبق في ذلك إلى كافة الموجودات، وإلى جميع ما صوّرته
يد القدرة في عالم الوجود، وإلى هذا يوعز ما جاء في الصحيح من قوله صلّى الله عليه
وآله: «أَحِبُّوا اللهَ لِما يَغْذُوكم بِهِ، وَأَحِبّوني بِحُبِّ اللهِ، وَأَحِبّوا
أَهْلَ بَيْتي لِحُبّي»، وهذه هي قاعدة الاعتبار في النسب والإضافات التي
سيوافيك تفصيلها.
هذه ناحية واحدة من بواعث حبّ رسول
الله صلّى الله عليه وآله، وهناك نواحٍ شتّى لا تعدّ ولا تستقصى، نظراً إلى صلته
الوثيقة بالله، وانتسابه الأكيد إلى المولى سبحانه تارة، وإلى ما جعل الله له من
مناقب وفضائل، وإلى شخصيّته الفذّة العظيمة وما يحمله بين جوانحه من محاسن ومحامد،
وملكات ونفسيّات، يستدعي كلّ منها حبه والتعشّق به قبل كلّ شيء بعد الله تبارك
وتعالى.
فهو صلّى الله عليه وآله مع قطع النظر
عن فضائل طينته وعنصره ومحتده، وما في خَلقه وخُلقه، ومولده ونشأته، ومكارم أخلاقه
ونفسياته الكريمة، وكراماته ومقاماته، ونعوته وصفاته المتكثّرة التي تخصّ به، لو
لم يك فيه إلّا كونه غايةً للوجود، ولولا هو صلّى الله عليه وآله لم يكن الإنسان
شيئاً مذكوراً، وما وهدت له الأرض، ولم ترفع سماء، وإنّه صلّى الله عليه وآله أَولى
بالبريّة من أنفسهم بولايته العامّة الكبرى التي قورنت بولاية الله تعالى في
كتابه، لكان أجدر وأحرى وأولى وأحقّ بأن يكون أحبّ لكلّ امرئ آمن به وصدّقه، من
نفسه وما تحواه، ومن ذاته وممّن يمتّ به من أهله وولده ووالده وذويه وصاحبته وأخيه
وفصيلته التي تؤويه والناس أجمعين.
وليست الأمّة المؤمنة في ذلك شرعاً
سواء، بل هم فيه على اختلاف درجات عرفانهم به كاختلافهم في حبّ الله تعالى، قال
الإمام القرطبي: «كلّ مَن آمن بالنبي صلّى الله عليه [وآله] إيماناً صحيحاً، لا
يخلو عن وجدان شيءٍ من تلك المحبّة الراجحة، غير أنّهم متفاوتون: فمنهم مَن أخذ من
تلك المرتبة بالحظّ الأوفى، ومنهم من أخذ منها بالحظّ الأدنى، كمن كان مستغرقاً في
الشهوات، محجوباً في الفضلات في أكثر الأوقات، لكنّ الكثير منهم إذا ذُكر النبيّ
صلّى الله عليه [وآله] اشتاق إلى رؤيته بحيث يُؤثرها على أهله وولده وماله ووالده،
ويبذل نفسه في الأمور الخطيرة، ويجد مَخبر ذلك من نفسه وجداناً لا تردّد فيه، وقد
شوهد من هذا الجنس من يؤْثر زيارة قبره ورؤية مواضع آثاره على جميع ما ذكر، لما
وقر في قلوبهم من محبّته، غير أنّ ذلك سريع الزوال بتوالي الغفلات، والله المستعان».
وعلى هذا الأصل المتسالم عليه قد جاء
في (الصحيح) مرفوعاً من طريق أنس بن مالك:
* «فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لاَ يُؤْمِنُ
أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ وَالنّاسِ
أَجْمَعينَ».
* «فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لاَ
يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ».
* «لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى
أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَلَدِهِ وَوالِدِهِ وَالنّاسِ أَجْمَعينَ».
* وفي حديث آخر: «ثَلاَثٌ مَنْ كُنَّ
فِيهِ وَجَدَ حَلاَوَةَ الإِيمَانِ: أَنْ يَكُونَ اللهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ
مِمَّا سِوَاهُمَا. وفي لفظ: مِمَّنْ سِواهُما».
* وفي لفظ للبخاري: «حتّى يكون
الله ورسوله أحبَّ إليه ممّا سواهما».
* وأخرج النصيبي في (فوائده) من طريق
أبي ليلى الأنصاري: « لاَ يُؤْمِنُ عَبْدٌ حَتّى أَكونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ
نَفْسِهِ، وَتكونَ عِتْرَتي أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ عِتْرَتِهِ، وَيَكونَ أَهْلي أَحَبَّ
إِلَيْهِ مِنْ أَهْلِهِ».
* قال الإمام الفخر الرازي في (تفسيره):
«إنّ الدعاء للآل منصبٌ عظيم، ولذلك جُعل هذا الدعاء خاتمةَ التشهّد في الصلاة، وقوله:
اللّهمّ صلّ على محمّد وعلى آل محمّد، وارحم محمّداً وآله، وهذا التعظيم لم
يوجَد في حقّ غير الآل، فكلّ ذلك يدلّ على أنّ حبّ آل محمّد واجبٌ». إلى أن
قال: «أهل بيته صلّى الله عليه [وآله] وسلّم ساووه في خمسة أشياء: في الصلاة عليه
وعليهم في التشهّد، وفي السلام، وفي الطهارة، وفي تحريم الصدقة، وفي المحبّة».
وقد جاءت هذه الكلمة عن أمّة كبيرة من
رجال المذاهب وأئمة الفقه والتفسير والحديث ذكرنا منها جملة كبيرة في مجلّدات
كتابنا (الغدير).
فيتلو حبُّ رسول الله صلّى الله عليه
وآله [حبَّ الله تعالى] في الرتبة، ويرادفه حبّ أهل بيته الطاهر بحكم الكتاب والسنّة
والعقل والمنطق والاعتبار، ولا يفارق حبّهم وولاؤهم حبّ رسول الله صلّى الله عليه وآله
وولاءه، كما لا ينفكّ حبّه وولاؤه صلّى الله عليه وآله عن حبّ الله وولائه، وقد
تضافرت السنّة في ذلك وتواترت.