تَدليسُ
النفس على القلب
____
المجلسي الأوّل ____
من كتاب (روضة المتّقين) للمجلسي الأول، العلامة الشيخ
محمّد تقي (ت: 1070 هـ)، اخترنا هذا النصّ الأخلاقي المتميّز في أهمية صيانة القلب
من الأكدار والمعاصي، والحذر من تسويلات النفس الأمّارة والشيطان الرجيم.
القلبُ
أمير البدن، فلو داوم الإنسان على إصلاحه وتحصيل كمالاته، لأفاض الله تعالى عليه
ما لا عينٌ رأت، ولا أُذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر. ولو اشتغل الإنسانُ بإصلاح
نفسه لكفى به شغلاً عن العالمين.
ولكنّ
الغالب على الناس الاشتغالُ بالدنيا الفانية؛ إمّا بالمال أو بالجاه، ومتى حصل ذلك
لا ينفعهم الإصلاح، فحالهم كما قال الله تعالى: ﴿قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ
أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ
أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا﴾ الكهف:103-104.
ثمّ
إنّ النفس والشيطان يوسوسان للإنسان بأنّ هذه الآية نزلت في شأن الكفّار، وأنت من
المؤمنين، فينبغي حينئذٍ أن يشاور قلبه في قولهما هذا، فإنّه يقول له: إذا كان
الكفّار مَلومين بذلك، فمَلامة المؤمنين به أظهرُ وهم أجدر باللّوم.
لكنّ
أكثر القلوب طُبع عليها بملازمة المعاصي، فيجب على السالك أن يزيل طبْعه ورَيْنه
وغشاوته بالرياضات والمجاهدات في العبادات والطاعات، مع الدعوات والتضرّعات، حتّى
يتبيّن له أنّه كان من الضالّين، وجعله الله تعالى بفضله من المُهتدين، وبصّره
عيوبَ الدنيا، وأخرجه منها سالماً إلى دار السلام، فصار من المُخلصين، كما قال
تعالى: ﴿إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ
مِنَ الْغاوِينَ﴾ الحجر:42.
وقال
صلّى الله عليه وآله: «جَاهِدْ هَواكَ كَما تُجاهِدُ عَدُوَّكَ» فإنّه أعدى
الأعادي، وقال تعالى: ﴿وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى﴾ النازعات:40.
ومن
أكاذيبه [أي من أكاذيب الإنسان على نفسه نتيجة
تسويلات الشيطان والنفس] أنّه إذا سمع ما ينافي
أفعاله، يقول:
أوّلاً:
إنّه حديث مرسَل لا يجب عليّ العمل به، ولا يتفكّر في أنّ القرآن الكريم نَصّ على
مثله، وأنّ الأخبار مشحونة بنظائره.
ثانياً:
إنّ المجاهدة تكمنُ في ترك المعاصي وفعل الواجبات.
يقول
هذا، ولا يتفكّر في تسويلات النفس والشيطان في كثير من الموارد التي أورداه فيها
بأمثال هذه التسويلات. والحقّ أنّه يجب عليه مجاهدتهما وإن كان في الطاعات؛ لأنّهما
لا يأمران بالطاعة إلّا أن تكون سبباً لمعاصي كثيرة.
مثلاً:
إذا دعاه فاسق إلى ضيافة، فمع أنّه يعلم أنّ أمواله حرام وفيها ظلم، فإنهما، أي
النّفس والشّيطان، يسوّلان له أنّه مؤمن، وكيف تعلم أنّ هذا المال حرام وأفعالُ
المسلمين محمولة على الصحة، ومن الحقوق الواجبة إجابة الدعوة، وبعد أن قبل قولهما
وذهب إليها، رأى أنّ المدار على الغِيبة فيشاركهم في إيذاء المؤمنين لئلّا يقولوا
إنّه مجنون أو زاهد يابس أو مُراءٍ.
فلو
قال قلبه أو المَلَك إنّ إجابتك الدعوة كانت محض الفسق وظننتَ أنّها طاعة، فَتُب
إلى الله تعالى من ذلك ولا تَعُد لمثلها أبداً، فلو قبل قوله وتاب، فلم يخرج من
هذه الدار حتّى طلبه فاسق آخر - لأنّ ضيافاتهم دوريّة - فيقبل ويجيب بتسويلهما أنّه
لم يقع منك في هذا المجلس نَهيٌ عن المنكر، لكن أنهاهم في مجلس آخر لئلّا يكون
مجيئي حراماً، ولا يتفكّر في أنّ النفس والشيطان قريناه ويصير المجلس الآخر أقبح.
فإنّ
المرة الأولى كان يمكنه الاعتذار ولم يعتذر، وأكل الطعام الحرام وفعل الأفعال
المحرّمة، وحينئذٍ يصير استيلاؤهما عليه أكثر، وهكذا دأبه معهما، والعمر يضيع إلى
أن يجيء الموت ولا تنفع التوبة حينها. أعاذنا الله، تعالى، وسائر المؤمنين، منهما
بفضله وكرمه.
(بتصرّف)