(سفينة البحار ومدينة الحِكَم والآثار) للمحدّث
القمّي
موسوعة منهجيّة للعلماء والباحثين
ـــــــــــــــــــــ
إعداد: «شعائر» ـــــــــــــــــــــ
الكتاب:
سفينة البحار ومدينة الحِكَم والآثار
المؤلّف:
المحدِّث الشيخ عبّاس القمّي (1294 - 1359 هـ)
تحقيق:
«مجمع البحوث الإسلاميّة» التابع للعتبة الرضويّة المقدّسة
الناشر:
«العتبة الرضويّة المقدّسة»، مشهد 1416هـ
كتاب (سفينة البحار
ومدينة الحِكم والآثار) الصادر عن «مجمع البحوث الإسلاميّة» في «العتبة الرضويّة
المقدّسة» من تأليف المحدّث الشيخ عباس القمّي، مؤلّف (مفاتيح الجنان)، و(منتهى
الآمال)، وغيرهما من الموسوعات التاريخية والرجالية. نُقل عن المرجع الديني السيد
الخوئي قدّس سرّه أنه قال: لو فُرض عليَّ أن أختار كتاباً واحداً من
مكتبتي لا غير، لاخترت (سفينة البحار). أما المحقّق السيد مرتضى العسكري رحمه الله
فلم يكن يحمل في أسفاره غير كتابين؛ أحدهما (السفينة).
جاء في المقدّمة
التحقيقيّة للطبعة المعتمدة في هذا التعريف:
اختار المؤلّف لكتابه
عنواناً يتّسم بالدقّة والوضوح، وبالجمال أيضاً. و(البحار) في هذا العنوان هو
الموسوعة الإسلاميّة الكبرى التي ألّفها العلاّمة المجلسيّ (المتوفّى سنة 1110 هـجرية)
طيّب الله ثراه،
في أواخر القرن الهجريّ الحادي عشر وأسماها (بحار الأنوار، الجامعة لدُرر أخبار
الأئمّة الأطهار). وقد قسّمها مؤلّفها إلى كُتب وأبواب، على وفاق عناوين الموضوعات
الإسلاميّة في: العقائد، وتواريخ الأنبياء والأئمّة عليهم السلام، والسماء
والعالَم، والآداب والسُّنن، والمواعظ والحِكم، والقرآن، وأبواب الفقه،
والإجازات... إلخ، معتمداً على ما يجاوز ستّمائة مصدر.
و(السفينة) هنا، هي
الوسيلة المأمونة التي اصطنعها المحدِّث القمّي، لتكون قادرة على أن تمخر عباب هذه
البحار المعرفيّة، فتمرّ بها جميعاً مروراً متأنيّاً، وتلتقط طائفةً من أنْفَس
لآلئها وأغلى دُررها.. ثمّ يقدّمها إلى القارئ - بعد أن أضاف إليها إضافاتٍ كثيرةً
استقاها من مصادر أُخَرَ أو مِن عنده - في كتاب واحد أطلق عليه اسم (سفينة البحار
ومدينة الحِكم والآثار). فجاء هذا الكتاب أشبه شيء بموسوعة مختصرة تمتاز بالتنوّع
والتركيز، وكأنّما هو مكتبة غنيّة في كتابٍ واحد صغير.
والحقّ إنّ هذا الكتاب
من أهمّ معالم الحركة العلميّة التأليفيّة التي نشأت حول موسوعة (بحار الأنوار)،
بل إنّه المشروع الأوّل الرائد في هذا السياق، بعد الاستدراكات والاختصارات
والترجمات المدوّنة من قبل، ممّا نَصّ عليه مؤلّف (الذريعة) الشيخ آغا بزرك
الطهرانيّ.
قراءة
باصرة
إنّ القراءة الدقيقة
لكتاب (السفينة) تستكشف فيه سماتٍ خاصّة، استمدّ الكتاب منها قيمته المنهجيّة
والعلميّة، واعتمد عليها في ذيوع اسمه وفي اتّخاذه مصدراً منهجيّاً للعلماء
والباحثين، ولِهُواة المعرفة الموسوعيّة العريضة. ومن أهمّ هذه السِّمات:
1) أنّه رتّب موضوعات
الكتاب ترتيباً هجائيّاً يعتمد المادّة اللغويّة للّفظة - أو ما يُعرف اليوم باسم
«جذر الكلمة» - أساساً للعمل، ثمّ يورد الاشتقاقات التي ورد فيها نصٌّ أو خبر أو
اسم عَلَم أو مصطلح من مصطلحات ميادين المعرفة الإسلاميّة والحضاريّة العامّة.
وهذا يجعل العثور على المادة المطلوبة سهلاً ميسوراً للقارئ، بالرجوع إلى كلّ
مادّة في موضعها من ترتيب حروف الهجاء. هذا وقد بلغت هذه الموادّ اللغويّة التي
عالجها المؤلّف عدداً يربو على (1700) مادّة تتضمّن أضعاف هذا العدد من العناوين.
2) أنّ الكتاب يقوم
على انتقاءٍ واعٍ ودقيق من موسوعة العلاّمة المجلسيّ من أوّلها إلى الختام، ما
يوفّر على القارئ والباحث كثيراً من الجهد والوقت. وقد أورد المؤلّف في هذا
الانتقاء عناوينَ موضوعات (البحار) وشطراً مركّزاً من مادّة كلّ موضوع، مُستنِداً
في هذا الانتقاء والاختيار إلى رؤيته الدقيقة وذوقه العلميّ؛ فهو إذ يكتفي مثلاً
بآية واحدة أو آيتين من بين آيات الباب الواحد من (البحار)، فإنّما يفعل ذلك - وهو
في صدد الإيجاز والاختصار - لأنّه يرى لهذه الآية أو تلك مزيّةً خاصّة في الموضوع.
وكذا شأنه في التعامل مع الأخبار والروايات، وسائر ما تتضمّنه الأبواب. ويمكن
الكشف عن هذه المزيّة في اختياراته عندما نمرّ، مثلاً، بموضوع العِلْم في مادّة (علم)
من (سفينة البحار): تناول في البدء «كتاب العلم» من (البحار)، فوقف على الباب
الأوّل الذي اشتمل على عشرين آية، فاستشهد بأُولى الآيات وأُخراها. وحين انتقل إلى
أحاديث الباب البالغ عددها (122) حديثاً اقتبس من بينها حديثين اثنين، ثمّ جاوز
الباب الأوّل إلى الباب السادس ولم يتخيّر ممّا بينهما شيئاً، واكتفى بآيةٍ واحدة
من الباب. وفي الباب الثامن اقتصر - وقد عَبَر الباب السابع ولم يأخذ منه شيئاً -
على آية واحدة من مجموع ثلاث عشرة آية، وعلى حديث واحد كذلك من بين (92) حديثاً.
ولعلّ من النافع - في
التعرّف إلى منهجه الدقيق في الاختيار المقصود - أن نُورِد نموذجاً دالاًّ على هذه
السِّمة؛ فقد اختار حديثاً واحداً من بين أكثر من مائة حديث في الباب السادس (باب
العلوم التي أُمِر الناسُ بتحصيلها). وهذا هو الحديث:
«دخل رسولُ الله صلّى الله عليه وآله
المسجدَ فإذا جماعةٌ قد أطافوا برجل. فقال: ما هذا؟
فقيل: علاّمة. قال: وما
العلاّمة؟
قالوا: أعلمُ الناس
بأنساب العرب ووقائعها، وأيّامِ الجاهليّة، وبالأشعارِ والعربيّة.
فقال النبيّ صلّى الله
عليه وآله: ذاك علمٌ لا يضرّ مَن جَهِله، ولا ينفعُ مَن عَلِمه..».
ولعلّ القارئ قد أدرك
أنّ هذا الحديث هو مِن أدخِل الأحاديث في الموضوع المقصود ومن أوفرها دلالة على
المراد؛ فهو يتضمّن رسالة مهمّة في تبيين منهج التعرّف والمعرفة للمسلم، ويكشف عن
توجيه نبويّ إلى ما ينبغي وما لا ينبغي من المعارف والعلوم.. وِفقَ مقياس كلّي
دقيق نصَّ عليه ذيل الحديث المذكور بقوله صلّى الله عليه وآله أنّ المعرفة الصالحة
هي: «آيةٌ مُحكمة، أو فريضةٌ عادلة، أو سُنَّةٌ قائمة، وما خَلاهُنّ فهو فَضل».
3) أنّ من أهمّ سمات (السفينة)
وأنفعها أنّ المؤلّف قد نظر - لدى حديثه عن المادّة الواحدة - إلى كلّ ما لَه صِلة
بها ممّا تضمّنه كتاب (البحار).. فجعله مجموعاً مرتَّباً تحت عنوان واحد بعد أن
كان مبثوثاً متناثراً في طوايا (البحار). وتُلاحَظ هذه المسألة من خلال إحالاته
على أجزاء كتاب العلاّمة المجلسيّ؛ ففي مادة «حرث» مثلاً أورد ما يتعلّق بالحارث
الهمداني من سبعة مواضع متفرّقة في أجزاء البحار: 6، 27، 39، 42، 68.. وهكذا.
4) أنّ العنوان الذي
يُورده المؤلّف تحت المادة هو الأشهر الأعرف من بين سائر العناوين الممكنة، كأن
يَذكُر اسم العَلَم، لا لقبه وكنيته، إذا كان الاسم هو الأغلب، أو كأن يَذكُر
اللقب لا الاسم إذا كان اللقبُ هو الأعرف. ولم يغفل المؤلّف، في هذه الحالة، أن
يُحِيل على مادّة أخرى مناسبة للعنوان الآخر. ومن الأمثلة على هذا ما أورده في
مادّة «حرث» أيضاً إذ قال: الحارث بن سعيد، أبو فراس الحمدانيّ.. يأتي في «فرس».
وإنّما صنع المحدّث القمّي هذا لأنّ كنية أبي فراس أشهرُ مِن اسمه.
5) أنّ المؤلّف عُني
باستثمار المادة اللغويّة الواحدة، فيما تولّده من مشتقّات. وكان من ثمرة عمله هذا
أن أضاف موضوعات جديدة لم يوردها مؤلّف (البحار) في ميادينَ شتّى من: التفسير
والتاريخ والرجال والأخلاق... إلى آخرها. هذا إلى جانب نصوص أخرى عَمَد إلى
انتقائها من مؤلِّفِين آخَرِين نثراً في الغالب، وشعراً أحياناً.. حتّى أنّه
استشهد في بعض المواضع بنصوصٍ من الشعر الفارسيّ؛ ففي «كتاب العِلم» من (البحار) اقتبس
في الباب السادس - على سبيل المثال - نصّاً من الراغب الأصفهانيّ، ونصّاً شعريّاً
لسعدي الشيرازيّ، ثمّ جاء بحديث للإمام أمير المؤمنين عليّ عليه السلام له صِلة
بموضوع الشعر المذكور. بعدها أحال القارئَ على مادّةٍ أخرى مرتبطة بالموضوع. وفي
الباب الثامن أدخل أحاديثَ من خارج الباب، مُحيلاً على مادّة لاحقة، لها مناسَبةٌ
بالموضوع، أو مذكّراً القارئ بحديثٍ مَرّ في مادّة سابقة.. وهكذا.
6) أنّ تعقيبات
المؤلّف وتعليقاته في المادّة اللغويّة الواحدة تتّخذ مظاهر عديدة، أبرزها:
أ) الإحالة على مادّة
أخرى. وهذا منحى منهجي متقدّم يتفادى التكرار.
ب) شرحٌ لِما غمض من
الألفاظ والتعابير، على نحو مركّز يُراعي مقدار الحاجة.
ج) إضافات لإضاءة
المادّة، أو لإكمال ما ينبغي إكماله منها.
د) ترجمة الشخصيّات
والأعلام التي يُوردها، للتعريف بها. وهذه الترجمة غالباً ما تمتاز بشيءٍ من
التفصيل.
هـ) تعقيبات يعقّب بها
على الموضوع، أو استعارة نصوص آخرى يتخيّرها من المصادر الأخرى.. تُساهم في إكمال
المعرفة في مفردات المادّة المعيّنة من الكتاب الذي أُريد له أن يتّخذ الصبغة
الموسوعيّة.
و) التطلّع إلى مزيدٍ
من الدقّة والضبط في ذِكْر التواريخ المتّصلة بِسنِيّ وَفيّات الأعلام.. إذ عَمَد
المؤلّف إلى ذِكْر التاريخ بالأرقام، كما هو الشائع المألوف، وزاد على هذا بأن
ثبّت - في أغلب الموارد - ما يقابل هذه الأرقام من الحروف الأبجديّة، على وفق
طريقة (حساب الجُمّل) المعروفة؛ كأنْ يورد تاريخ وفاة الشيخ الكلينيّ على هذا
النحو: «مات أبو جعفر الكلينيّ ببغداد سنة 329 شكط سنَة تناثر النجوم». ومن البيّن
هنا أنّ لفظة «شكط» مساوية لسنة (329) في هذه الطريقة من الحساب.
وهكذا نرى أنّ مشروع (السفينة)
يرتبط أشدَّ الارتباط بكتاب (البحار)؛ إذ جمع بين مزيّتَين أساسيّتَين، هما: مزيّة
الانتقاء والاختيار، ومزيّة الإضافة والتوسّع.. معتمداً طريقة المفاتيح الكاشفة في
كثير من الأحيان.
والملاحظَ،
فيما أنتجه الشيخُ القمّي في هذا الكتاب، أنّه كان يُخضعه لموازينه الدقيقة في
الأخذ والاقتباس، وللاحتياط في الرواية والنقل، ما يُنْبئ عن تضلّع وتبحّر في
المصادر والمرويّات. ولعلّ هذه السمة الموضوعيّة الدقيقة من العوامل التي كانت
تحدو ببعض كبار العلماء أن يُوصوا طلبة العلوم الدينيّة بقراءة كتاب (السفينة)،
باعتباره «دورة تثقيفيّة» واسعة في المعارف والعلوم التي تفتح آفاق الطالب، وتمدّه
بذخيرة جيّدة من التبصّر والاطّلاع.
وأخيراً
لا بدّ من
الاعتراف بأنّ كتاب (سفينة البحار) قد جاء على طرازٍ بديع، وأُسلوبٍ مُبتكَر، أوضحَ
ويَسَّر، بل وزاد على الأصل ونفع بما استدركه من الأحاديث والحِكَم، وبما أضافه
إلى (البحار) من فوائد: علميّة، وأخلاقيّة، وتاريخيّة، ورجاليّة..