الاجتماعُ
الإسلاميّ
صيانتُه بمكارم الأخلاق، والأمر بالمعروف،
والتدبُّر في المعارف
_____ العلّامة
السيد محمّد حسين الطباطبائي رحمه الله _____
للعلّامة
الطباطبائي في الجزء الرابع من (تفسير الميزان) بحثٌ مطوّل عن الاجتماع الإسلامي،
يبدأه بالاستدلال على أنّ الإنسان اجتماعيٌّ بالطبع، وأنّ هذه الخاصّية قابلة فيه
للنموّ والتطوّر، مبيّناً أنّ الإسلام هو الدين الوحيد الذي أسّس بنيانه على
الاجتماع من خلال إحاطة أحكامه بكل الشؤون الإنسانية، مقلّباً لها في قالب
الاجتماع لغايةٍ هي توحيد الله، عزَّ وجلَّ.
ويعرض
العلامة الطباطبائي في فصولٍ من بحثه معنى الحرية في الإسلام، ويفنّد مقولة أن
شريعة الإسلام لا تكفي لإسعاد الحياة الحاضرة.
في
ما يلي قسمٌ من هذا البحث القيّم الذي جاء بعنوان: «الإسلام اجتماعيٌّ في جميع
شؤونه».
صفة الاجتماع مرعيّة
مأخوذة في الإسلام في جميع ما يمكن أن يؤدّى بصفة الاجتماع من أنواع النواميس والأحكام،
بحسب ما يليق بكلٍّ منها من نوع الاجتماع، وبحسب ما يمكن فيه من الأمر والحثّ
الموصِل إلى الغرض، فينبغي للباحث أن يعتبر الجهتين معاً في بحثه.
فالجهة الأولى:
ما نرى أنّ الشارع شرّع الاجتماع مستقيماً [بشكل
مباشر] في الجهاد، إلى حدٍّ يكفي لنجاح الدفاع،
فهذا نوعٌ. وشرّع وجوب الصوم والحجّ، مثلاً، للمستطيع غير المعذور، ولازمُه اجتماع
الناس للصيام والحجّ، وتمّم ذلك بالعيدَين: الفِطر والأضحى والصلاة المشروعة فيهما.
وشرّع وجوب الصلوات اليومية
عينياً لكلّ مكلّف من غير أن يوجب فيها جماعة، وتدارك ذلك بوجوب الجماعة في صلاة
الجمعة في كلّ أسبوع مرّة؛ صلاة جماعة واحدة في كلّ أربعة فراسخ، وهذا نوع آخر.
والجهة الثانية:
ما نرى أنّ الشارع شرّع وجوب الاجتماع في أشياء بلا واسطة كما عرفت، وألزم على
الاجتماع في أمور أخرى غير واجبة، لم يوجب الاجتماع فيها مستقيماً، كصلاة الفريضة
مع الجماعة، فإنّها مسنونة مستحبّة، غير أنّ السنّة جرت على أدائها جماعة، وعلى
الناس أن يُقيموا السنّة، وقد قال رسول الله صلّى الله عليه وآله في قومٍ من
المسلمين تركوا الحضور في الجماعة: « لَيُوشِكُ
قَوْمٌ يَدَعُونَ الصَّلاةَ فِي الْمَسْجِدِ أَنْ نَأْمُرَ بِحَطَبٍ فَيُوضَعَ عَلَى
أَبْوَابِهِمْ، فَتُوقَدَ عَلَيْهِمْ نارٌ فَتُحْرِقَ عَلَيْهِمْ بُيوتَهُمْ».
وهذا هو السبيل في جميع ما سنّه رسول الله صلّى الله عليه وآله، فيجب حفظ سنّته
على المسلمين بأيّ وسيلة أمكنت لهم، وبأيّ قيمة حصلت.
وهذه أمورٌ سبيل البحث
فيها هو الاستنباطُ الفقهيّ من الكتاب والسنّة، والمتصدّي لبيانها هو الفقه الإسلاميّ.
الإسلام اجتماعيٌّ في
معارفه
وأهمّ ما يجب ههنا هو
عطف عنان البحث إلى جهة أخرى، وهي اجتماعية الإسلام في معارفه الأساسية، بعد
الوقوف على أنّه يراعي الاجتماع في جميع ما يدعو الناس إليه من قوانين الأعمال
العبادية والمعاملية والسياسية، ومن الأخلاق الكريمة، ومن المعارف الأصلية.
نرى الإسلام يدعو الناس
إلى دين الفطرة بدعوى أنّه الحقّ الصريح الذي لا مرية فيه، والآيات القرآنية الناطقة
بذلك كثيرة مستغنية عن الإيراد، وهذا أول التألّف والتأنّس مع مختلف الأفهام، فإنّ
الأفهام على اختلافها وتعلّقها بقيود الأخلاق والغرائز لا تختلف في أنّ الحقّ يجب
اتّباعه.
ثمّ نراه يعذر مَن لم
تقم عليه البيّنة ولم تتّضح له المحجّة، وإن قرعت سمْعَه الحجّة، قال تعالى: ﴿..لِيَهْلِكَ
مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ..﴾ الأنفال:42.
وقال تعالى: ﴿إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ
مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ
سَبِيلًا * فَأُولَئِكَ عَسَى اللهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا
غَفُورًا﴾ النساء:99-98.
انظر إلى إطلاق الآية
ومكان قوله: ﴿..لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا﴾، وهذا يُعطي
الحريّة التامّة لكلّ متفكّر يرى نفسه صالحة للتفكّر، مستعدّة للبحث والتنقير [التفتيش]،
أن يتفكّر في ما يتعلّق بمعارف الدين، ويتعمّق في تفهّمها والنظر فيها، على أنّ
الآيات القرآنية مشحونة بالحثّ والترغيب في التفكّر والتعقّل والتذكّر.
ومن المعلوم أنّ
اختلاف العوامل الذهنية والخارجية مؤثّرة في اختلاف الأفهام من حيث تصوّرها وتصديقها
ونيلها وقضائها، وهذا يؤدّي إلى الاختلاف في الأصول التي بُني على أساسها المجتمع
الإسلامي.
إلّا أنّ الاختلاف بين
إنسانَين في الفهم على ما يقضي به فنّ معرفة النفس، وفنّ الأخلاق، وفنّ الاجتماع،
يرجع إلى أحد أمور:
1- إمّا إلى اختلاف
الأخلاق النفسانية والصفات الباطنة من الملَكات الفاضلة والرديّة، فإنّ لها تأثيراً
وافراً في العلوم والمعارف الإنسانية من حيث الاستعدادات المختلفة التي تودعها في
الذهن، فما إدراك الانسان المنصف وقضاؤه الذهني كإدراك الشَّموس المُتعسّف، ولا
نيل المعتدل الوقور للمعارف كَنَيْلِ العجول والمتعصّب وصاحب الهوى والهمجيّ الذي
يتبع كلّ ناعق، والغويّ الذي لا يدري أين يريد ولا أنّى يراد به.
والتربية الدينية تكفي
مؤونة هذا الاختلاف، فإنها موضوعة على نحوٍ يلائم الأصول الدينية من المعارف
والعلوم، وتستولد من الأخلاق ما يناسب تلك الأصول وهى مكارم الأخلاق، قال تعالى: ﴿..كِتَابًا
أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ
وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ الأحقاف:30.
وقال تعالى: ﴿يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ
مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾
المائدة:16.
2- وإمّا أن يرجع اختلافُ
الأفهام إلى
اختلاف الأفعال، فإنّ الفعل المخالف للحقّ؛ كالمعاصي وأقسام التهوّسات الإنسانية
[التهوّسات هي الأفكار والخواطر التي تُودي بالإنسان إلى الإنحراف]
- ومن هذا القبيل أقسام الإغواء والوساوس - يلقّن الإنسانَ، وخاصة العاميّ الساذج،
الأفكارَ الفاسدة، ويُعدّ ذهنه لدبيب الشبُهات وتسرّب الآراء الباطلة فيه، وتختلف
إذ ذاك الأفهام وتتخلّف عن اتّباع الحقّ، وقد كفى مؤونةَ هذا أيضاً الإسلامُ، حيث
أمر المجتمع بإقامة الدعوة الدينية دائماً أوّلًا، وكلّف المجتمع بالأمر بالمعروف والنهي
عن المنكر ثانياً، وأمر بهجرة أرباب الزَّيغ والشبهات ثالثاً، قال تعالى: ﴿وَلْتَكُنْ
مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ
عَنِ الْمُنْكَرِ..﴾ آل عمران:104.
فالدعوة إلى الخير تُثبِّتُ
الاعتقادَ الحقّ وتقرّهُ في القلوب بالتلقين والتذكير، والأمرُ بالمعروف والنهي عن
المنكر يمنعان من ظهور الموانع من رسوخ الاعتقادات الحقّة في النفوس.
3- وإمّا أن يكون
الاختلاف في الفهم من جهة العوامل الخارجية، كبُعد الدار، وعدم بلوغ المعارف
الدينية إلّا يسيرة أو محرّفة، أو قصور فهم الإنسان عن تعقّل الحقائق الدينية تعقّلاً
صحيحاً، (كالحماقة) والبلادة المستندتَين
إلى خصوصية المِزاج. وعلاجُه، تعميم التبليغ، والإرفاق في الدعوة والتربية، وهذان
من خصائص السلوك التبليغيّ في الإسلام، قال تعالى: ﴿ قُلْ
هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي..﴾
يوسف:108، ومن المعلوم
أنّ البصير بالأمر يعرف مبلغ وقوعه في القلوب، وأنحاءَ تأثيراته المختلفة باختلاف المتلقّين
والمستمعين، فلا يبذل لإحدٍ إلا مقدارَ ما يعيه منه، وقد قال رسول الله صلّى الله
عليه وآله، على ما رواه الفريقان: «إِنّا مَعاشِرَ الأَنْبِياءِ نُكَلِّمُ النّاسَ
عَلى قَدْرِ عُقولِهِمْ» .
صورةُ التفكّر
الاجتماعيّ
وقد قرّر الإسلام
لمجتمعه دستوراً اجتماعياً فوق ذلك، يقيه من دبيب الاختلاف المؤدّي إلى الفساد
والانحلال، فقد قال تعالى: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا
تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ
لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ الأنعام:153.
فبيّن أنّ اجتماعهم
على اتّباع الصراط المستقيم، وحَذَرَهم عن اتّباع سائر السبل، يحفظهم عن التفرّق
ويحفظ لهم الاتحاد والاتفاق. ثمّ قال: ﴿ يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا
وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا..﴾
آل عمران:102-103،
وقد مرّ أنّ المراد بحبل الله هو القرآن المبيّن لحقائق معارف الدين، أو هو
والرسول صلّى الله عليه وآله، على ما يظهر من قوله تعالى قبله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آَمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ
بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ * وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ
آَيَاتُ اللهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى
صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ آل عمران:100-101.
تدلّ الآيات على لزوم
أن يجتمع المؤمنون على معارف الدين، ويربطوا أفكارهم بعضها ببعض، ويمتزجوا في
التعليم والتعلّم، فيستريحوا في كلّ حادث فكريّ أو شُبهة ملقاة إلى الآيات المتلوّة
عليهم، والتدبّر فيها لحسم مادّة الاختلاف، وقد قال تعالى: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ
الْقُرْآَنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا﴾
النساء:82.
وقال: ﴿وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ
نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ﴾ العنكبوت:43.
وقال: ﴿..فَاسْأَلُوا أَهْلَ
الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ النحل:43،
فأفاد أنّ التدبّر في القرآن أو الرجوعَ إلى من يتدبّر فيه يرفع الاختلاف من البَين.
وتدلّ الآيات المتقدّمة
على أنّ الإرجاع إلى الرسول - وهو الحامل لثقل الدِّين - يرفع من بينهم الاختلاف، ويبيّن
لهم الحقّ الذي يجب عليهم أن يتّبعوه، قال تعالى: ﴿..وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ
لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾
النحل:44.
وقريبٌ منه قوله تعالى:
﴿..وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ
الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ..﴾ النساء:83.
وقوله: ﴿ يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ
مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ
كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا﴾
النساء:59، فهذه صورة التفكّر الاجتماعي في الإسلام.