السياسة النفطية السعودية
ركيزة الأمن القومي الأميركي
كيف تهبط أسعار
البترول؟
ــــــــــــــــــــــ د.
عبد الحي زلّوم* ــــــــــــــــــــــــــ
سألني الكثير من الأصدقاء
أن أعلّق على تدهور أسعار النفط، لا سيّما أنّني قضيت أكثر من نصف قرن في عالمها
العربي والدولي مستشاراً. كان سبب تردّدي هو تشعُّب الموضوع وصعوبة اختزاله في
مقال جريدة، لكنّني أخيراً قررتُ أن أحاول وأختصر.
فلنبدأ أولاً بمَن الذي يقرّر أسعار النفط؟
بعض الهواة أو المُغرضين أو الجهلة
يذهبون شرقاً وغرباً في تفسيراتهم، والجواب بسيط: إنّها الولايات المتّحدة
الأميركية فقط لا غير!
حتّى سنة 1970م كانت الولايات المتّحدة
مُصدّرةً للنفط، وأصبح إنتاجها يساوي استهلاكها فقط في تلك السنة. كانت تحافظ على
فائض في مقدرة إنتاجها بحدود ثلاثة ملايين برميل يومياً، تزيد الإنتاج متى أرادت
تخفيض السعر، وتخفّض الإنتاج عندما كانت تريد رفع السعر.
فقدت هذه الميزة عندما أصبحت مستوردة
للنفط، من العام 1970م إلى يومنا هذا. وأُعطي هذا الدور المرجِّح - كما يُسمّى -
إلى السعودية. (تُنسِّق) الولايات المتّحدة مع السعودية للسيطرة على أسعار النفط.
وعن هذا الدور، قال أحمد زكي اليماني وزير النفط السعودي الأسبق مفتخراً: «لتدمير
دول أوبك الأخرى، يكفي أن نرفع إنتاجنا إلى أقصى طاقته، ولتدمير الدول المستهلكة
يكفي أن نخفّض معدّلات إنتاجنا»!
ولكن يا ترى من يملك القرار الحقيقي
لاستعمال «قوة التدمير» هذه؟
الجواب واضح كما جاء في دراسة مادة (الحالة 096-383-9) في «كلية الدراسات العليا
للإدارة» في «جامعة هارفارد» التي تقول: «السيطرة على سعر النفط وكمّية إنتاجه هما
من ركائز الأمن القومي الأميركي».
إذاً، كمّية الإنتاج والسعر من ركائز
الأمن القومي الأميركي، ومن البديهي أنّ الولايات المتّحدة لا تجيّره إلى أحد، وأنّ
قرارَي السعر، وكمّية الانتاج، هما أميركيان 100%.
للدلالة على أنّ الولايات المتّحدة
تخطّط سرّاً لخفض الأسعار لتحفيز اقتصادها نورد المثال التالي:
في دراسة «سرّية جدّاً» لوزارة الطاقة
الأميركية وجّهتها إلى وزارة الخارجية في 24/10/1984م جاء فيها: «سياستنا يجب أن تنحو
نحو هبوط أسعار النفط 30% إلى 40%، وذلك لمعافاة الاقتصاد الأميركي».
وفي برقيّة عاجلة من
وزارة الخارجية إلى سفارتها في لندن مشفّرَة سرّي جداً، جاء فيها: « إنّ وزير
الخارجية مهتم جداً بدراسة سريعة عن تأثير هبوط كبير في أسعار البترول». كان ذلك
في البرقية رقم 081715 المرسلة في شهر آذار 1985م.
هبطت الأسعار من معدّل 26 دولاراً
للبرميل في شتاء 1985م إلى أقلّ من 10 دولارات للبرميل في 1986م. تماماً كاليوم،
كان هذا التخفيض لتحفيز الاقتصاد الأميركي ولإنهاك الاتحاد السوفياتي، الذي كان
يحارب في أفغانستان.
ولكن لماذا تقوم هذه الدولة أو تلك المصدّرة للنفط – مثل السعودية -
بفعلٍ يتنافى مع مصالحها؟
سأل أحد طلبة «كلية
البترول السعودية» في الظهران، وزير بترول المملكة العربية السعودية أحمد زكي
اليماني في كانون الثاني 1981م السؤال التالي: «المواطن السعودي الذي ينظر إلى
السياسة النفطية الحالية، سيجد بأنّ المملكة تنتج أكثر ممّا يحتاجه اقتصادها،
وتبيع نفطها بأسعار أقل من المعدلات الجارية، بل أقل من الأسعار التي تبيع بها دول
الخليج الأخرى. ومع ذلك فإنّ هذه التضحية تقابل بهجمات معادية من قبل الصحافة
ووسائل الإعلام، بل وحتى من مسؤولين حكوميّين كبار في الدول الغربية. ألا تعتقد
بأنّه حان الوقت لأن نتوقف عن التضحية بأنفسنا في سبيل إرضاء مستهلكي النفط؟».
الجواب الذي لم يسمعه
السائل هو: السبب وراء ذلك هو أنّ هذه الدول تريد الحفاظ على أنظمتها. فالولايات المتّحدة
تجلس فوق حقول النفط! فالقرار - إذاً - ليس قرار هذه الدول، لأنّها لو خفّضت الإنتاج
اليوم إلى ثلاثة ملايين برميل فقط بدل عشرة ملايين، لارتفع السعر إلى 120 دولاراً،
ولكان الدخل يعادل ما تحصل عليه اليوم بإنتاج عشرة ملايين برميل.
مَن الرابح ومَن الخاسر في هذه
المعمعة؟
الرابح الأكبر هي الولايات المتحدة،
والخاسر الأكبر هي الدول المنتجة للنفط، خصوصاً الدول العربية في الخليج. ولندع
الأرقام تتكلّم:
تمثل إيرادات النفط 90% من صادرات
السعودية، %80 من دخل ميزانيتها، وهي الأكثر تأثّراً من الدول الأخرى. اعتماد
نيجيريا من دخلها على النفط 75%، روسيا 50%، إيران 47%، فنزويلا 40%.
هبوط السعر من 120 إلى 30 دولاراً
يعني هبوط 90 دولاراً من سعر البرميل. تستورد الولايات المتحدة حوالي سبعة ملايين
برميل يومياً، أي توفّر 630 مليون دولار باليوم، أو حوالي 230 مليار دولار بالسنة.
أضف إلى ذلك تحفيز الاقتصاد الأميركي بفرق السعر للإنتاج المحلي حوالي 360 مليار
دولار بالسنة. وهذا التوفير يذهب إلى جيب الشعب الأميركي؛
فقد هبطت أسعار البنزين والوقود والكهرباء في نفس الوقت الذي ارتفعت هذه الأسعار
في الدول النفطية المنتجة!!!
لو كان إنتاج دول مجلس
التعاون سبعة عشر مليون برميل في اليوم، فالخسارة اليومية هي حوالي 1.53 مليار
يومياً!!!
زلزلة الاقتصاد العالمي
إنّ الهبوط المفاجئ،
وبالطريقة التي حصلت، هي زلزال اقتصادي وسياسي من العيار الثقيل، والذي سيكون له
عواقب عالميّة، خصوصاً في البلدان المنتجة للنفط.
حتى حزيران 2014م، كان
النفط يباع بــ 115$ للبرميل. كان الافتراض السائد أنّ السعر سيبقى أعلى من 100
دولار ويزداد ببطء في المستقبل. بناءً على هذا الافتراض، صرفت شركات الطاقة مئات
ملايين الدولارات في عمليات الاستكشاف والحفر في أعالي البحار، واستخراج الزيت
الرملي في كندا، والزيت الصخري في الولايات المتحدة، والزيت الثقيل في فنزويلا، علماً
أنّ أكثر هذا النوع من الإنتاج كلفته لا تقلّ عن 50$ للبرميل.
واليوم هبط السعر عن 30$ للبرميل،
أي اليوم السعر قد هبط حوالي 75% عن سعر حزيران 2014م، ما يجعل ما يسمّى بالإنتاج
غير التقليدي المذكور أعلاه، بدون جدوى اقتصادية، كما سيتمّ توقيف الإنتاج بواسطة
البرامج المساعدة للإنتاج، ممّا يسمّى الطرق الثانوية والثلاثية.
هناك سببان أساسيّان دفعا بالولايات
المتحدة إلى زلزلة الاقتصاد العالمي عبر التلاعب بأسعار النفط، وهما:
1– هبوط الأسعار بهذا الشكل الدراماتيكي
يهدف إلى «زلزلة» اقتصاد أعداء الولايات المتحدة، وهم روسيا وفنزويلا وإيران، لكنّ
البلد المستهدف أساساً هو الاقتصاد الروسي، وبالتالي ما ينتج عنه من زلزال سياسي.
2– الاقتصاد العالمي والأميركي لم يُشْفَ
لتاريخه من الأزمة المالية لسنة 2008م ونتائجها، وهناك تباطؤ اقتصادي في أوروبا
وحتّى في الصين، وهبوط الأسعار يساعد على تحفيز تلك الاقتصادات، والخاسر الأكبر
هنا هي الدول المنتجة.
كانت نتيجة تدهور الأسعار أن خسر حزب
شافيز الانتخابات في 6/12/2015م، ووصل إلى السلطة معارضوه الذين صرّحوا بنيّتهم
شطب إصلاحات شافيز.
كان التقدير أن يُحدث زلزال السعر
الشيءَ نفسه في روسيا. تمّ اختيار سعر 50$ في البداية باعتبار
أنّ أكثر انواع الإنتاج غير التقليدي (زيت صخري، زيت رملي، زيت ثقيل، أعالي
البحار) يمكن له البقاء والاستمرار على ذلك السعر.
المفاجأة كانت بصمود الاقتصاد الروسي
وتكيّفه مع ذلك الزلزال بعد انهيار
الروبل. وما زاد الطين بلّة العقوبات المفروضة على روسيا بعد أزمة أوكرانيا، التي أوقفت
إمكانية اللجوء المؤقّت للشبكة المالية العالمية. تمّ اختيار توقيت ضربة عملة
الروبل الروسية في كانون الأول 2014م، حيث كان على روسيا دَيْنٌ خارجي ذلك الشهر
70 مليار$، وحوالي 40 مليار$ في الشهر الذي يليه. تصرّف «البنك المركزي الروسي»
بشكلٍ استوعب الضربة التي كان يتوقّع أن تكون الضربة القاضية، وتكيّف الاقتصاد
الروسي إلى حدٍّ كبير وبأقلّ الخسائر الممكنة.
المحافظون الجدد الذين يديرون العالم
عبر أذرع الولايات المتحدة العسكرية والمخابراتية، أصيبوا بصدمة صمود روسيا وكان
عليهم استئناف حربهم تلك. قامت المؤسّسات الأميركية الحكومية والخاصّة بدراسة
الخطوة اللازمة لتركيع روسيا، في دراسة أجرتها (مؤسسة Bloomberg) كانت النتيجة أنّ خمسة عشر خبيراً من أصل 27 تمّ سؤالهم عن سعر النفط
الذي سيزلزل الاقتصاد الروسي، فكانت إجابتهم أنّ سعر «الزلزال» هو 30$ للبرميل،
وأنّ روسيا غير مستعدّة ولا مؤهّلة لاحتمال هذه الصدمة الثانية! اعتقد هؤلاء أنّ
هذا السعر سوف يهزّ النظام المالي والمصرفي، وسوف يعرّض الروبل إلى هبوطٍ حادّ
آخر. وهكذا قرّرت أميركا هبوط الأسعار إلى 30 دولاراً.
صرّح وزير المالية الروسي
في 25/11/2015م، أنّ روسيا تأقلمت مع هبوط الأسعار، وأنّ هبوطاً حتى 40$ لن يؤثّر
كثيراً على روسيا. وقام
«البنك المركزي الروسي» بدراسة نتائج سعر أقلّ من 40$ للبرميل، فخرج بنتيجة أنّ
الاقتصاد الروسي سوف يتقلّص بمقدار 3% وأنّ أسعار السلع ستزيد حوالي 7%.
مثلما تمّ تدمير الإتحاد
السوفيتي بهبوط أسعار النفط إلى أقل من عشرة دولارات، وحرب ثقيلة في أفغانستان، يأمل
القابضون على السلطة في العالم الرأسمالي إعادة التاريخ مرّة ثانية لسقوط نظام بوتين
عن طريق ضرب الاقتصاد الروسي، وحروب استنزاف أينما أمكن.
قبل أن أبدي وجهة نظري، أنقل
ما تنبّأته وكالة الطاقة الدولية (IEA) بخصوص سعر برميل النفط،
وأنه سيتراوح ما بين 50$ إلى 60 $ من الآن وحتّى سنة 2020م، ويصل الى 85$ بحلول
سنة 2040م. أعتقد أنّ هذه النبوءة مُسيّسَة.
من الناحية الفنية فقط
سأورد استقرائي لموضوع الأسعار، علماً أنّ الموضوع تتداخله السياسة بقوة. فلو تمّ
تغيير سياسة الولايات المتحدة والدول العربية المنتجة للنفط لخفض الإنتاج، فسترتفع
الأسعار بأسرع ممّا أذكر من الناحية الفنية فقط.
كان إنتاج الولايات
المتحدة من النفط في شهر كانون الثاني 2010م هو 5.5 مليون برميل باليوم، وأصبح 9.6
مليون برميل باليوم في تموز 2015م، وكلّ هذه الزيادة جاءت من الزيت الصخري الذي لا
يمكن إنتاجه على أسعار 30$. فإذا خرج من السوق حوالي 4 مليون برميل أميركي باليوم،
ومليون آخر من الآبار المنتجة بالمساعدة الثانوية والثلاثية، سيرجع الإنتاج الأميركي
إلى أقلّ ممّا كان عليه سنة 2010م، وهذا سيرفع الأسعار رغم أنف الولايات المتحدة،
خصوصاً لو أضفنا إلى ذلك هبوط إنتاج نفط الزيت الرملي من كندا، أضف إلى ذلك هبوط
الآبار المنتجة بما يسمّى (depletion rate) بحدود 3%، أي هبوط إنتاج بــثلاثة
ملايين برميل. الاحتمال الأكبر أنّ مجموع هذه الانخفاضات ستمسح الفائض في المخزون
العالمي خلال سنة، لترتفع الأسعار إلى 50-60 دولار. أصحاب قطاع إنتاج النفط غير
التقليدي الأميركي يألمون، وكذلك اقتصاد روسيا بأكمله في لعبة عضّ الأصابع، ومَن سيصرخ
أولاً.
ما يجري الآن هو حرب عالمية بكلّ معنى
الكلمة بين الولايات المتحدة ووكلائها وأتباعها، وبين روسيا ودول البركس عموماً.
والرأسمالية المتوحّشة التي لم تجد حرجاً لشنّ حرب عالمية ثانية كان حصادها مقتل خمسين
مليون إنسان وتدمير بلدان بأكملها، ها هي اليوم تدير حرباً عالمية أخرى – حرب طحن
عظام – ليخرج منها العالم بشكلٍ مختلف عن الشكل الذي بدا به. الشعب العربي يدفع
فواتير هذه الحروب من بترودولارات ومن بشر ومن حجر، ونحن مسرح رئيسي من مسارح هذه
الحرب.
* باحث فلسطيني ومستشار دولي لشؤون
البترول، والمقال منقول عن الموقع الإلكتروني «ساحة التحرير»