الخشية من عدم المناعة الأخلاقيّة
حوار مستعاد مع العلامة
الراحل الشيخ الوائلي رحمه الله
ـــــــــــــــــــــــــــ إعداد: «شعائر» ـــــــــــــــــــــــــــ
هذا
الحوار عبارة عن مختارات من مقابلة قديمة نشرها موقع «السراج» الإلكتروني مع خطيب
المنبر الحسيني الشيخ أحمد الوائلي، رحمة الله تعالى عليه، تناول فيها جملة من القضايا والتحدّيات المعاصرة.
ولد
الشيخ الوائلي سنة 1928م في النجف الأشرف في أُسرة امتازت بالثقل العلمي والمكانة الاجتماعية،
وتابع دراسته عند كبار أساتذة الحوزة العلمية في النجف الأشرف. كما نال شهادة
الدكتوراه من «جامعة القاهرة».
توفّي
رحمه الله في الثالث عشر من شهر تموز سنة 2003م، بعد أشهر من سقوط النظام البائد،
ودُفن في الكوفة مخلّفاً مجموعة قيّمة من المحاضرات والمؤلّفات منها: (تجاربي مع
المنبر الحسيني)، و(أحكام السجون بين الشريعة والقانون)، فضلاً عن دواوينه
الشعرية.
* هل ترون أنّ
هناك خوفاً على أجيالنا الناشئة من
التأثيرات السلبية لوسائل الاتصال ونقل المعلومات الحديثة؟
ما يدخل إلى الذهن والوعي من
غذاء، مثله مثل ما يدخل إلى الجسم من غذاء، فإذا كان في الجسم مناعة لا يتأثّر بما
هو ضارّ، وكذلك جهاز التلقّي الذهني يحتاج إلى مناعة تَقِيه من المؤثّرات السلبية.
والعملُ على تكوين جهاز المناعة عند المسلم يبتدئ، في ما نعتقد، من الأُسرة، فالمدرسة،
فالمجتمع. وأهمّ هذه الوجوه هو الأُسرة. ولا يعني ذلك عدم أهميّة الوجوه الأخرى.
ولا شكّ في أنّ المسؤول عن التربية الدينيّة في الأُسرة هو المؤسّسات الدينيّة،
التي ينبغي قيامها بهذا الدور واستخدامها الوسائل التي أتاحها العلم، وتوفير
الكفاءات والمناهج العلميّة قدر الاستطاعة، وانتقاء الغذاء التربوي الجيّد الذي هو
متوفّر، والحمد لله، في ثقافتنا الإسلامية. إنّ ذلك يضع الأسرة في أجوائها
الإسلاميّة، خصوصاً إذا أخذنا بعين الاعتبار أنّ كلّ أسرة مسلمة عندها خميرة من
النزوع إلى جذورها وثقافتها والاعتزاز بأولوياتها.
* هناك خوف من أن توظَّف الفضائيّات والإنترنت
وسواها من وسائل الاتّصال ضدّ الأديان، خصوصاً الإسلام، كيف يمكن مواجهة ذلك؟
الذي يتمّم ما سبق ذكرُه هو (حُسنُ
استخدام) الأدوات المؤدّية إلى الهدف، كالقناة الفضائية المسلمة، والمادّة الإسلامية
التي نغذّي بها قنوات الاتّصال، والمعلّم المسلم الرسالي الذي ينبغي أن يُوكَل
إليه تدريس الدين واللغة. إنّ الأسرة والمجتمع آخذٌ ومعطٍ، فروافد المجتمع هي
الأسرة والمدرسة، فإذا تمّ التركيز عليهما، فذلك كفيل بنتائج طيّبة. يضاف إلى ذلك أنّه
ينبغي فتح أعيُن الأجيال على إفلاس الحضارات الأخرى، وعجزها عن ملء الفراغ الذهنيّ
عند الإنسان، وعدم قدرتها على أن تشدّه إلى قضيّة محوريّة يعيش من أجلها وتستهويه،
وتدفعه لمضاعفة جهده في ذلك.
* ذكرتم أنّ التربية الدينيّة
تؤسّس جهاز مناعة عند المسلم، يحفظه من سلبيّات تفاعله مع أجواء غريبة، وذلك يستدعي أن تكون في الإسلام
إجابات كاملة على معالجة ما يجدّ من أمور متنوّعة، فهل الأمر كذلك؟
أوّلاً، إنّ طرح مثل هذا
السؤال يدلّ على عدم معرفة الكثير منّا بالمحتوى الحضاري الغزير في الإسلام.
وثانياً، إنّ كل مَن له إلمام بالشريعة الإسلامية يعرف أنّها تحمل الإجابات على ما هو موجود وما قد يوجد من الأمور التي
يُبتلى بها الإنسان، وذلك بداهةَ أنّ الله عزّ وجلّ، لا يكلّف إنساناً حتى يعرّفه
السبيل إلى الاستجابة، هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى، إنّ الله،
عزّ وجلّ، لم يتعبّدنا بشريعة ناقصة يمكن أن تعجز عن تغطية حاجاتنا، بل أكمل لنا
الدين وأعلمنا ذلك بقوله تعالى: ﴿..الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ..﴾ المائدة:3،
ولذا فإنّ كلّ من له صِلة بالشريعة يعلم أنّها وافية بكلّ الحاجات. غاية ما في
الأمر أنّ بعض المذاهب الإسلامية ترى أنّ هناك مصادر للتشريع جاءت مكمّلة لمحدودية
النصوص، وتكثّر الوقائع مثل القياس والاستحسان والمصالح المرسلة وغيرها، بينما
يذهب البعض الآخر، ومنهم الإمامية، إلى أنّ نصوص الكتاب والسنّة وما تفرّع منهما،
وافية لتغطية كلّ ما يجدّ، والأخبار الصحيحة والمصادر ذكرت ذلك بالتفصيل. وكمثَلٍ
لذلك ما جدّ من معاملات في حقل المصارف والاقتصاد بعامّة، وما جدّ في حقل الصحّة
كنقل الأعضاء من إنسان إلى إنسان، ونقل الدم، وترقيع الأجسام، وما جدّ في عالم
الاستنساخ، والأرحام، والمتاجر، والتلقيح الصناعي، وما جدّ من الانتفاع بوسائل تكنولوجية
جديدة، وأمثال ذلك غطّاها فقهاء المسلمين تغطية كاملة اعتماداً على الرصيد غير
القليل في الشريعة.
العَولَمَة
* في العالم اليوم ما يُعرف
باسم «العولمة» إثر ما يُسمَّى بثورة المعلومات، وهناك خوف فعليّ من أن يقود
النظام العالميّ الجديد إلى توحيد للأديان، لكن ليس وفقاً لما يريده الله تعالى،
وإنّما لِما يفرضه الأقوياء حمايةً لمصالحهم، فهل هذا الخوف مبرّر؟
لا يمكن لكلٍّ من العولمة
وثورة المعلومات أن تؤدّي إلى صهر الأفكار والمعتقدات في فكرٍ واحد، وذلك لأنّ
العولمة تحاول رفع الحدود المادّيّة،
وثورة المعلومات تطرح أفكاراً جديدة، وكلّ منهما موجود بالفعل يمشي عبر الحدود ولا
يردّه حاجز، ومع ذلك ما تزال الأديان متعدّدة والمعتقدات متنوّعة، وإنّما كلّ الذي
نخشاه هو عدم خلق مناعة علميّة وخُلُقيّة في الساحة الإسلامية تمنع تأثير الأمور
الوافدة، وهذا الأمر يضاعف مسؤولية المؤسّسات الدينية، سواء الرسمية منها وغير
الرسمية، ويحمّلها التبعة لتضاعف نشاطها في بناء الشخص المسلم، بناءً يوازي حجم
المستجدّات ويُرضي التطلّعات، خصوصاً ونحن على ثقة بأنّ محتوى الشريعة فيه ذخيرة
لا تنفد لتغذية الأجيال، فلم يبقَ إلّا البحث في كنوز الشريعة وإعداد كوادر علميّة
مؤهّلة ومنتجة لسدّ الحاجة، وأن تكون مؤسّساتنا الدينية مراكز بحث وتطوير وإعداد
كفاءات.
* المسلمون اليوم في وضع لا يُحسَدون عليه، متفرّقون مشتّتون، مختلفون في
مصالحهم ومواقفهم، فهل هناك خوف على الإسلام بسبب ضعف المسلمين؟
الإسلام فكر، والفكر لا خوف
عليه، إنّما الخوف على المسلمين الذين يتعرّضون إلى مخطّطات لإبعادهم عن الإسلام
بوسائل شتّى، أو تركهم لا يعرفون من الإسلام إلّا مظاهر جوفاء، أمّا مضمون الإسلام
فيفرّغ من محتواه الحقيقي، وهذا الأمر – للأسف الشديد - يعيش على الساحة عند جميع
المذاهب الإسلامية، ما جعلنا نرى «المسلم الشكليّات» لا «المسلم الموقف والرجولة
والعطاء وصدق العقيدة»، وغير ذلك ممّا هو من مقوّمات الإسلام الصحيح.
الحوار بشروطه
* ألم يحِن الوقت لحوار
حقيقي بين الأديان؟
لعلّ الإسلام يعتبر سبّاقاً للدعوة
والحوار بين الأديان، وذلك لأنّ الإسلام يقف على قاعدة صلبة لما فيه من أُسُس
متينة ومتطوّرة، ومستوعبة لحاجات كلّ العصور: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً
لِلنَّاسِ..﴾ سبأ:28،
ولأنّه يرى ويعلم أنّ الأديان - وأقصد بها الأديان السماوية كما هي في أصلها - كلّها
روافد من السماء، ولكلّ دين دورُه وعهده في أداء رسالته، وقد خُتمت بالإسلام حيث
ما هو من الثوابت قد جمعه الإسلام، وما هو من المتطوّرات قد حمله ونبّه الأذهان له:
﴿..اسْتَجِيبُوا للهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ..﴾ الأنفال:24.
ومن هنا، انطلق الإسلام يدعو
إلى الحوار: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا..﴾
آل عمران:64،
ولم ينطلق من فرض أنّه الوحيد وغيره مرفوض، بل فتح الأبواب لصراع الأفكار وفق
الأصول حتّى تنتهي إلى ما هو الحقّ: ﴿..وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ
فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ سبأ:24.
وبناء على ذلك، فلا خشية من أن يُخذل الإسلام أو ينهزم في أيّ حوار، شرط أن يكون
المحاورون موضوعيّين ومؤهّلين للحوار؛ بمعنى وجود أرضيّة علمية عندهم، وإذا استُكمل
الحوار بشروطه الموضوعية فلا شكّ في جدواه.
إنّ الإنسانية قد تعبت في
بحثها عن الأفضل، وعلينا أن نبحث عمّا في دفائن ديننا من الكنوز لنقدّمه زاداً
للإنسانيّة: ﴿وَقُلِ اعْمَلُوا..﴾ التوبة:105.
* ما هي فُرص قيام دولة إسلاميّة كُبرى في العالم (في زمن الغَيبة)؟
فُرَصُ قيام دولة إسلاميّة
عامّة ليس بمستحيل عقلاً، ولا ممتنع ذاتاً، ولكن له شروط لا بدّ من توفّرها، وهي
تحتاج عادةً إلى زمنٍ طويل، لأنّ عنصر الزمن دخيل في تكوين الأشياء بحسبها،
والدولة الإسلامية مرّة تكون إسلاميّة عقيدةً وأحكاماً لا بدّ من تطبيقها، والناس
فيها من المواطنين المسلمين الملتزمين بالعقيدة والأحكام، وأخرى قد تكون محكومة من
قِبَل المسلمين، وأهلها ليسوا كذلك بل من الأديان (الأخرى) كالمسيحيّين، واليهود،
والمجوس، وحتّى الصابئة، أي مَن لهم كتاب وشبه كتاب، ولكلٍّ منهما تفاصيل استوفاها
الفقه الإسلاميّ - غالباً في باب الجهاد من كُتب الفقه - وكما ذكرت إنّ قيامها
يبقى مفتقراً إلى شروط لا بدّ من تحقّقها. ودعني أضرب لك مثلاً واحداً: هو اللغة العالميّة «الإسبرنتو»
Esperanto التي أُريدَ لها أن تختصر الحواجز
وتجمع الناس على وسيلة موحّدة للتفاهم، وإلى الآن والفكرة في مكانها لم تتحرّك، مع
أنّها محبوبة للنفوس ولا تشكّل ضرراً للأمم أو الأفراد، اللَّهمّ إلّا ما يرتبط باعتزاز
كلّ أمّة بلغتها، فكيف يكون الأمر بالنسبة إلى العقائد والشرائع؟
حُرمَة المؤمن
* ما موقف الإسلام من قضية
حقوق الإنسان التي باتت مسألة حيوية، تقيّم الشعوب والأمم والأديان على مدى
التزامها بها؟
موقف الإسلام من حقوق
الإنسان واضح، فلا أعتقد أنّ هناك شريعة كفلت حقوق الإنسان كالشريعة الإسلامية،
فالإنسان، كلّ إنسان، موضع تكريم الله عزّ وجلّ: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ..﴾
إسراء:70،
يقولها القرآن الكريم، ويقول الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله في خطبته في حجّة
الوداع: وقد سأل الصحابة: أيّ يومٍ هذا؟ قالوا: أعظم الأيام. وأيّ شهرٍ
هذا؟ قالوا أعظم الشهور. وأيّ بلدٍ هذا؟ قالوا أعظم البلدان. وأيّ
بيتٍ هذا؟ قالوا: أعظم البيوت، قال: «إنّ حُرمةَ المؤمنِ أعظمُ عند الله من
بيتِكم هذا، في بلدِكم هذا، في شهرِكم هذا..».
ولقد قال النبيّ صلّى الله
عليه وآله: «الإنسانُ أَخُو الإنسان أَحَبَّ أَمْ كَرِهَ». ويقول الإمام
عليّ عليه السلام، في عهده لمالك الأشتر: «الناسُ صِنْفَانِ: إِمَّا أَخٌ لَكَ فِي
الدِّينِ، وإِمَّا نَظِيرٌ لَكَ فِي الْخَلْقِ». فالناسُ سَواسية كأسنان المِشط،
وقد أفاضت كتب التاريخ والسيرة في تفصيل تطبيقات ذلك بما لا يسعه هذا المختصر.
وأرجو أن نفرّق بين الإسلام وبين بعض المسلمين، الذين ينبغي أن لا تُحسب تصرّفاتهم
على الإسلام، بل لا بدّ من الاقتصار على ما رسمته السنّة النبويّة، ورسمه أوصياء
النبيّ صلّى الله عليه وآله.
* الأمر الآخر المثير للجدل
هو الفهم الخاطئ من قبل البعض لموقف الإسلام من حقوق المرأة، فما هي الحقيقة في
هذا المجال؟
لا سبيل إلى الإفاضة في أمرٍ
مثل هذا، لأنّ الإسلام أكرم المرأة بما أراده الله لها وليس وفقاً لمُشتهى البشر،
ولكن ما ينبغي الإشارة إليه، هو أنّ كلّ الحقوق التي كفلها الإسلام للفصيلَين
الذكور والإناث إنّما هي متّصلة ومربوطة بفطرة كلٍّ منهما، فالمسألة إذاً مسألة
تصنيف لا مسألة تفضيل. إنّ بين الرجل والمرأة عشرات من الفروق النفسية والجسدية
والاجتماعية، ولكلٍّ منها حسابه الخاصّ، أمّا
من حيث المنشأ والخلقة فكلٌّ منهما عمَدٌ من أعمدة التكوين، يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا
النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى..﴾ الحجرات:13، ويقول
تعالى: ﴿..الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا..﴾
الأعراف:189،
ويقول النبيّ صلّى الله عليه وآله: «النِّساءُ شَقَائِقُ الرِّجال».
فالأمور التي تنعدم فيها الفروق بين الصنفّين، هما فيها سواء؛ كحقّ التعليم،
والنفقة المالية، وحقّ التكريم.. إلخ.
أمّا الحقوق التي لا يمكن
المساواة فيها، كحقّ التعدّد للرجل الذي شرّعه الإسلام، أو الأمور التي ترتبط
بغزارة الجانب العاطفي عند المرأة، وتكليف الذكر ببعض الأمور التي ترتبط بتكوينه
العضليّ، فالإسلام يفرّق بينهما. وبالجملة، كلّ حقّ مشروع ينسجم مع الخُلق الكريم
والفطرة السليمة أعطاه الإسلام للمرأة، ومنعها ممّا يفسد فطرتها ويُهين أنوثتها،
وصدق الله العليّ العظيم: ﴿..أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ
ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى..﴾ آل عمران:195.
إنّ الإسلام كفِل المرأة في
كلّ حالاتها - كأُمّ وزوجة وبنت - وكرّم مقامها وجعل الجنّة تحت أقدامها، وأعطاها
أجر الشهيد إذا ماتت أثناء الولادة، وأعطاها ما لا يتّسع ذكره هنا.