الثقافة الأصيلة حصنُ المجتمع
_____ الشهيد السيد محمد باقر
الحكيم*_____
تأتي «الثقافة» في المرتبة الثالثة من حيث الأهمّية
– بعد الجانبَين العقائديّ والأخلاقي - في بناء الكتلة الصالحة في المجتمع
الإسلامي؛ فالثقافة هي الحصن الحصين الذي يُمكنه أن يحفظ للأمة والجماعة عقائدها وأخلاقها
من جانب، ويمدّها بالروح المعنوية العالية من جانب آخر، ويُمسك جميع أطرافها ويوحّدها
في مسارها ومواقفها وأهدافها من جانب ثالث.
ومن هنا نجد هذا الامتياز الخاصّ لمدرسة أهل البيت
عليهم السلام في الجانب الثقافي، وإعطائه الأهمّية الخاصّة في وجودهم وحركتهم، وكذلك
في بناء الكتلة الصالحة والجماعة المؤمنة.
ولا شكّ في أنّ القرآن الكريم أغنى مصدر للثقافة
الإسلامية لدى أهل البيت عليهم السلام؛ ولذا كان موضعَ اهتمامٍ من قبلهم، فبادر أمير
المؤمنين الإمام عليّ عليه السلام إلى جَمْعه تنزيلاً وتأويلاً، كما أنه كان أوّل من
بادر إلى جمع السُّنّة النبويّة المصدر الثاني للثقافة الإسلامية، وكذلك تدوينها وحِفْظها،
فكانت «الصحيفة الجامعة»، ثم تداول ذلك أئمّة أهل البيت عليهم السلام.
مضافاً إلى ذلك، نجد أنّ الإمام عليّاً عليه السلام
- الذي هو أعلمُ الناس بعد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وأقضاهم، وأعرفُهم
بالحلال والحرام وبتفسير القرآن - كان على مستوى الممارسة أكثر الناس عطاءً في الجانب
الثقافي والتربوي، وأول من بادر إلى وضع المناهج وابتكار العلوم ذات البُعد الثقافي،
وهو صلوات الله عليه المؤسّس لجملة منها: كعلم الفقه، والحديث، والتفسير، والنحو، وغيرها.
وعلى هذه السيرة سار أئمة أهل البيت عليهم السلام
وأتباعهم وشيعتهم، وكانوا المبادرين لتأسيس علوم الإسلام، تبعاً لأئمتهم أو أخذاً عنهم.
وقد عمل الأئمّة على مستوى الاهتمام بالجانب الثقافي
لبناء الكتلة الصالحة والجماعة المؤمنة على تشخيص
وبناء
مشروعين مهمّين:
المشروع الأول: المناهج الثقافية والتعليمية: لا شك في
أنّ للمنهج الثقافي دوراً مهماً في ترسيخ الجانب الثقافي ونجاحه في الجماعة، بحيث يكون
قادراً على الوفاء بمتطلّباتها وملء الفراغ في حاجاتها الثقافية. وقد اعتمد أهل البيت
سلام الله عليهم في بناء الكتلة الصالحة والجماعة المؤمنة ثقافياً أربعة خطوط من المناهج
الثقافية يُكمل بعضها بعضاً:
1) حرية الفكر والاجتهاد، وهو يرتبط بالإطار العام
للمناهج والقاعدة التي ترتكز عليها المناهج الثقافية، وكانت إحدى المميّزات الأساسية
التي امتاز بها الفقه الإماميّ الإثنا عشريّ عن فقه المذاهب الأخرى.
2) الحثّ على طلب العلم وخصوصاً علم الشريعة، بحيث
أصبح واجباً شرعيّاً في مذهب أهل البيت، يتحمّل الإنسان مسؤولية الإخلال به.
3) التنوّع في أساليب التثقيف والتعليم، حيث نجد
مضافاً إلى أساليب الخطابة والسماع والشعر المعروفة في الصدر الأول للإسلام، أنّ الأئمة
عليهم السلام اهتمّوا بأساليب أخرى لم تكن معروفة على مستوى التثقيف العام، كـ«الدعاء»،
و«الوصيّة»، والرسائل والبيانات، مضافاً إلى أسلوب «الزيارة» و«المجالس» و«الاجتماعات»،
ومنها المجالس الحسينية.
4) الثقافة المتنوّعة والتخصّص العلمي، حيث اهتمّ
أهل البيت عليهم السلام في مجال المناهج الثقافية والتعليمية بتنوّع الثقافة والتخصّص
العلمي في مختلف المجالات الإنسانية والطبيعية، وحثّوا أتباعهم على فكرة الاختصاص بحيث
يتمكّنون من الوصول إلى المستوى العالي في مختلف القضايا الثقافية.
المشروع الثاني: المؤسسات الثقافية والعلمية: لقد اهتمّ
أئمة أهل البيت عليهم السلام - بعد أن شخّصوا مصادر الثقافة الإسلامية والمناهج العامة
لضبطها وتعليمها - ببناء المؤسسات الثقافية والعلمية والتشجيع على إيجادها وتأسيسها
وتنشيطها، سواء المؤسّسات الثقافية التي كانت معروفة ومتداولة بين المسلمين، مثل «المسجد»،
أو المؤسسات الثقافية التي لم تكن معروفة بين المسلمين مثل المجالس الخاصّة التي أسّسها
أهل البيت لتبليغ تعاليمهم والمعلومات الخاصّة بالجماعة المؤمنة التي كانوا يعملون
لبنائها، ومن ضِمنها ما يُعرف الآن ب «المجالس الحسينية».
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* من كتابه (دور أهل البيت عليهم السلام
في بناء الجماعة الصالحة)