السّفرُ إلى بيت العالَمين
أبعاد الحجّ في خطاب
الإمام الخمينيّ قدّس سرّه
* اعتاد أكثرُ الناس أن يحصروا اهتمامهم، عند زيارتهم بيت الله الحرام،
بالمظاهر الخارجيّة للحجّ، غافلين عن الأبعاد الحقيقية المتوخّاة من هذا المؤتمر الإلهيّ
الكبير.
وجاء إمام الأُمّة الراحل الخمينيّ العظيم قدّس سرّه
ليُلفت إلى الأبعاد الكبيرة التي أرادها الله تعالى من «الحجّ الإبراهيميّ
المحمّدي»، فقال في إحدى كلماته: «إنّ على المسلمين الذين يحملون رسالة الله
تعالى أن يستفيدوا من المحتوى السياسي والاجتماعي للحجّ، إضافة إلى محتواه العبادي،
وأن لا يكتفوا بالمظهر الخارجي».
وقد أسهب الإمامُ قدّس سرّه في الكلام عن أبعاد الحجّ
هذه، ليتنبَّه المسلمون إليها، فتكون الاستفادةُ عُظمى من هذا المؤتمر الإلهيّ العظيم.
في ما يلي، مقتطفات من كلمات الإمام الخميني قدّس سرّه
حول أبعاد الحجّ وأسرار مناسكه؛ اخترناها من مجموعة من خطاباته ونداءاته وبياناته
التي ألقاها قبيل موسم الحجّ، على مدى عشر سنوات.
«شعائر»
السّفَر إلى الله
سَفَرُ الحجّ ليس سفراً لكسبٍ دنيويّ، وإنّما هو سفرٌ
إلى الله! فلا بدّ من تأدية كلّ الأمور بشكل إلهيّ. إنّ سفركم - الذي يبدأ من هنا -
هو وفادة إلى الله، والسفر إلى الله، تبارك وتعالى، يجب أن يكون كما كانت أسفار
الأنبياء عليهم السّلام وأولياءِ ديننا... فأنتم الآن كذلك وافدون إلى الله.
وأنتم في الميقات تخاطبون الله بكلمة «لبَّيْك»،
أي: أنت دعوتَ ونحن أجبنا!
حذارِ من أن يقول الله تبارك وتعالى: لا، لن أقبلكم!
حذارِ من أن تجعلوا هذا السفر سفرَ تجارة وتدنّسوه بالدنيا! إنّه سفرٌ إلى الله.
تنزيه الحجّ عن المعاصي
إنّني يحدوني الأمل أن يلتفت الحجّاج الأعزّاء - أيّدهم
الله تعالى - إلى الابتعاد عن المعاصي، وينبّهوا أنفسهم وزملاءهم حتى لا يلوّثوا
هذه العبادة الالهيّة العظيمة بالمعصية. وعندما يقفون في المواقيت الإلهيّة
والمقامات المُقدّسة في جوار بيت الله تعالى المبارك، ينبغي أن يراعوا آداب الحضور
في محضر الله المقدّس، وأن لا تتعلّق قلوبهم بأيّ شيء غير الحقّ، وتتحرّر من كلّ
ما هو غير حبيب، وأن تتنوّر بأنوار التجليّات الالهيّة حتّى تتجمّل هذه الأعمال
ومناسك السير إلى الله بمحتوى الحجّ الإبراهيمي، ومن ثمّ الحجّ المحمّديّ.
قياماً للنّاس
﴿جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ
قِيَامًا لِلنَّاسِ..﴾ المائدة:97.
لقد ذكر اللهُ تعالى في هذه الآية أنّ السرّ في الحجّ،
والدافع له، والغاية من جعل الكعبة البيت الحرام، هو نهضة المسلمين وقيامهم لمصالح
الناس والشعوب المستضعفة في العالم.
على (الحجّاج) أن يقوموا بدراسة مشاكل المسلمين العامّة،
والسعي لإزالتها من خلال المشورة العامّة في هذا الاجتماع الإلهيّ العظيم الذي لا
يمكن لأحدٍ إلا أن يَعُدّه القوّة الأزليّة الالهيّة.
رعاية حقّ القرآن الكريم
أُذَكِّر الزائرين الكرام بالأنس بالقرآن الكريم، تلك
الصحيفة الالهيّة وكتاب الهداية، في كلّ هذه المواقف الشريفة وطيلة مدّة السفر إلى
مكّة المُكَرّمة والمدينة المنوّرة، فكلّ ما ناله المسلمون في القرون السالفة وما
سينالونه في المستقبل، يعود إلى البركات اللامتناهية لهذا الكتاب المُقدّس.
تلازم البُعدين السياسي والعبادي
من أهمّ أبعاد فلسفة الحجّ هو بُعده السياسي الذي تسعى
لتغييبه والقضاء عليه جميع الأيدي المجرمة، التي استطاعت، وللأسف، وسائلُ دعايتها
أن تؤثّر في المسلمين، بحيث بات ينظر أكثر المسلمين إلى الحجّ على أنّه مجرد مراسم
عباديّة جافّة وفارغة لا تُعنى بقضايا المسلمين. في حين أنّ الحجّ ومنذ تشريعه، لا
يقلّ بعده السياسي أهميّة عن بعده العبادي، فالبُعد السياسي، بالإضافة إلى سياسيّته،
هو عبادة بحدّ ذاته...
عندما يُصبح الحجّ صورةً بلا معنى
الحجّ من المسائل التي يَغلُبُ فيها البعدُ السياسي البُعدَ
العبادي. واليوم أنتم مقبلون على التوجّه لأداء هذه الفريضة السياسيّة العباديّة المهمّة،
عليكم أن تلتفتوا إلى أنّ الفكر الاستعماري قد غزا عقول الكثير من المسلمين ورجال
الدين في البلدان الإسلاميّة، ويقع على عاتقكم أنتم مُهمّة إزالة ذلك من أذهانهم.
قولوا لهم في أحاديثكم واجتماعاتكم إنّ الإسلام الحقيقي هو غير ما نحن عليه الآن.
فالحجّ ليس فقط أن نأتي إلى مكّة ونطوف حول الكعبة ونقف في عرَفَة .... من دون أن
نعبأ بما يرتكبه المستكبرون من ظلم بحقّ المسلمين وبحقّ مستضعفي العالم، ومن دون
أن نهتمّ بأمور المسلمين وأوضاعهم.
والمؤسف أن تجد بين رجال الدين المسلمين من يُدينون
التدخّل في هكذا أمور، لا سيّما معمّمي البلاط، الذين أضرّوا بالإسلام أكثر ممّا
أضرّت به أميركا، لأنّ هؤلاء يطعنون الإسلام من الخلف ويعزلونه باسم الإسلام
وبظاهرٍ إسلاميّ. أمّا أميركا، فلا تستطيع ذلك، ولهذا تفرض على أمثال هؤلاء فعل
ذلك.
الحجّ الحقيقي والمقبول هو الحجّ الحيّ، الحجّ الصارخ
بوجه الظلم والظالمين، الحجّ الذي يُدين جرائم السوفيت وجرائم أميركا وكلّ
المستكبرين، ويتبرّأ منهم وممن يواليهم.
وأمّا أن نذهب إلى الحجّ ونقوم بأداء مناسكه من دون أن
نهتمّ بأمور المسلمين - بل على العكس أن نتستّر على الجرائم التي تُرتكب ولا نسمح
لأحدٍ بالتكلّم عمّا يُرتكب بحقّ المسلمين من جرائم على أيدي القوى الكبرى
والحكومات العميلة لها - فإنّ هذا ليس بحجّ، إنّه صورة بلا معنى.
الحجّ الحسيني
[قال الإمام قدّس سرّه مخاطباً الشعب الإيرانيّ أيّام
الحرب المفروضة على الجمهورية الإسلامية]:
على (الحجّاج) الأعزّاء أن يسيروا من أقدس بقاع العشق
والجهاد إلى كعبةٍ أسمى، ويحذوا حذو سيّد الشهداء أبي عبدالله الحسين عليه السلام
الذي أقبلَ من إحرام الحجّ إلى إحرام الحرب، ومن طواف الكعبة والحرم إلى طواف صاحب
البيت، ومن وضوء زمزم إلى غُسل الشهادة والدم؛ فتتحوّل أُمَّتُهم إلى أُمّة لا تُقهر؛
ويصبحون كالبنيان المرصوص والطود الشامخ، ولا تروّعهم قوى الشرق والغرب.
بديهيّ أنّ روح الحجّ ونداءه ليس إلّا أخْذ المسلمين
بجدول أعمال جهاد النفس من جهة، وبرنامج مقارعة الكفر والشرك من جهة أخرى.
الحجّ المهدويّ
إنّ [إبراهيم
الخليل عليه السلام] المحطّم للأصنام، وسليله الكريم محطّم الأصنام (أيضاً)، سيّد
الأنبياء، محمّداً المصطفى صلّى الله عليه وآله، علّما البشريّة جمعاء أنّه لا بدّ
من تحطيم الأصنام أياً كانت. وأن يُطهَّر العالم بأَسْره، انطلاقاً من مكّة، أُمّ
القُرى، حتى آخر نقطةٍ على سطح الأرض، وإلى قيام الساعة، من دنَس هذه الأصنام أيّاً
كانت، أهياكل كانت، أم شموساً، أم أقماراً، أم حيواناتٍ، أم بشراً.
وأيّ صنمٍ أسوأ وأخطر من الطواغيت على مرّ التاريخ، منذ
زمان آدم صفيّ الله، إلى زمان إبراهيم خليل الله، فزمان محمّد المصطفى حبيب الله
صلّى الله عليهم أجمعين، إلى الزمان الذي يقوم فيه محطّم الأصنام الأخير ويعلو نداء
التوحيد من مكّة.
أليس هؤلاء المستكبرون أصناماً كبيرةً تدعو العالم
لإطاعتها وعبادتها، بالترهيب تارةً وبالترغيب والتزوير تارةً أخرى؟
الكعبة المشرّفة هي المركز الوحيد لتحطيم هذه الأصنام.
وقد توالى الأنبياء على تنفيذ هذه المهمّة، منذ آدم، إلى إبراهيم الخليل، إلى
محمّدٍ المصطفى، وإلى أن يقوم سليله المهديّ الموعود، روحي فداه، فَيُحطّم أصنام
زمانه من الطواغيت والظُّلّام، وتشعّ الأرض بنور التوحيد والعدالة الإلهيّة، من
مركز التوحيد، مكّة المُكَرّمة....
والمهديّ المنتظر وعلى لسان جميع الأديان، وباتّفاق جميع
المسلمين سينادي من الكعبة، ويدعو البشريّة جمعاء إلى التوحيد، فجميع نداءات
التوحيد عَلَتْ من الكعبة ومن مكّة، ونحن بدورنا، علينا أن نتابع المسيرة ونرفع
نداءات كلمة التوحيد، وتوحيد الكلمة من هذا المكان المُقدّس، وأن نحطّم أصنام
زماننا بحضورنا الفاعل والنشيط في مكّة المُكَرّمة من خلال عقد الاجتماعات،
والنداءات، ومسيرات البراءة من المشركين والمستكبرين في هذا العالم، وفضح جرائمهم
وإدانتها، وأن نطرد الشياطين ونرميها بالجمار... وعلى رأسها الشيطان الأكبر أميركا.
لنؤدّي بذلك حجّ خليل الله، وحجّ حبيب الله، وحجّ وليّ الله المهديّ المنتظر...
معنى التلبية
.. عندما تقال كلمة «لبّيك» بحقّ، وتكون الهجرة
إلى الله تعالى ببركة إبراهيم ومحمّد (صلوات الله عليهما وآلهما)، فإنّ ذلك بمنزلة
كلمة «لا» لكافة الأوثان والطواغيت والشياطين. وأيّ وثنٍ أكبر من الشيطان
الأكبر المتمثّل بأميركا المستعمرة والاتحاد السوفياتي الملحد والظالم، وأيّ طاغوت
أكبر من طواغيت زماننا؟
عند قولكم «لبّيك» اقصدوا بها قولَ «كلّا» لكافة
الأوثان والطواغيت، وعند طواف بيت الله الحرام - مظهر العشق الحقيقي - أفرِغوا
قلوبكم من كلّ شيء، وطهّروا أرواحكم من خوف غير الباري جلّ وعلا، وإلى جانب العشق
الحقيقي تبرّأوا من الأوثان - كبيرها وصغيرها – ومن الطواغيت وأذنابهم كما تبرّأ
الله ورسوله منهم...
استحضار جوهر الحجّ عند المواقف
* بايعوا الله - عند تناول «الحجر الأسود» بأيديكم
- على أن تكونوا أعداءاً لأعدائه ولأعداء رسوله والصّلحاءِ والأحرار، وألا ترضخوا
لهم أبداً، ولا تهِنوا وتذلّوا، فإنّ أعداء الله، وعلى رأسهم الشيطان الأكبر أذلّاء،
برغم تفوّقهم في آلات القتل والقمع وارتكاب الجرائم.
* وعند السّعي بين «الصفا والمروة»، اسعوا بإخلاص
لإدراك المحبوب، حيث تنقطع بوجوده جميع الموجودات الدنيويّة، وتنهار كلّ الشكوك
والالتباسات، وتزول كلّ ألوان الخوف الحيواني، وتنفصم عُرى كافة العلائق الماديّة،
وتتفتّح الحرّيّات، وتتحطّم أغلال الشيطان والطاغوت التي يأسرون بها عباد الله.
* وتوجّهوا إلى «المشعر الحرام» و«عرفات»
بحالة من الخشوع والعرفان، وازدادوا في كلّ موقف يقيناً بتحقّق الوعد الإلهيّ حول
حكومة المستضعفين، وتفكّروا في آيات الله بسكون ووقار، وفكّروا في إنقاذ المحرومين
والمستضعفين من مخالب الاستكبار العالمي، واطلبوا التوفيق من الله تعالى لمعرفة طُرق
النجاة في تلك المواقف الكريمة.
* ثمّ اذهبوا إلى «مِنى» واحصلوا على آمالكم
المشروعة المتمثّلة بالتضحية بالغالي والنفيس من أجل المحبوب المطلق. واعلموا بأنّكم
لا تبلغون المحبوب المطلق إلّا باجتياز ما تصبو إليه أنفسكم، وتتجسّد ذروة ذلك في
حبّ النفس ثمّ يتلوه حبّ الدنيا، وارجموا الشيطان وأنتم على هذه الحال ليفرّ مُوَلِيّاً
عنكم. وتابعوا رجم الشيطان في الأماكن المختلفة طبقاً للأوامر الإلهيّة كي لا تبقى
له ولأتباعه باقية.
تجنّب الرياء
الأمر المهمّ في كلّ العبادات، الإخلاص في العمل، فلو
قام أحدٌ بالعمل من أجل الرياء والتظاهر أمام الناس والتباهي عليهم بحسن عمله،
فعمله باطل، وعلى الحجّاج المحترمين أن لا يُشركوا رضا غير الله تعالى في أعمالهم،
والجهات المعنويّة في الحجّ كثيرة، فالمهمّ هو أن يعلموا إلى أين يتجهون؟ ودعوة
مَن يُجيبون؟ وضيوف مَن هم؟ وما هي آداب هذه الضيافة؟
وليعلموا أنّ الأنانيّة وحبّ الذات بجميع أشكالهما
ينقضان محبّة الله ويخالفان الهجرة إلى الله، وهي مستوجبة لنقص معنويات الحجّ. ولو
تحقّقت للإنسان هذه الجهة العرفانيّة والمعنويّة، وتحقّقت التلبية الصادقة مقترنة
بنداء الحقّ تعالى فسيفوز وينتصر في كلّ الميادين السياسيّة والاجتماعيّة
والثقافيّة وحتى العسكريّة، ولا معنى للهزيمة لدى مثل هذا الإنسان، نسأل الله
تعالى أن يرزقنا شمّةً من هذا السير المعنوي والهجرة الإلهيّة.
التحرّر من رقّ الاستهلاك
* ممّا يؤسف له هو أنّ مكّة المعظّمة، وجدّة، والمشاهد
المشرّفة في الحجاز، التي هي مراكز الوحي ومهبط جبرائيل وملائكة الله - والتي يجب
بحكم الإسلام أن تُحطَّم أصنام الجناة هناك، وأن يُصرَخ في وجوههم ويُتَبَّر أمنُهم
- صارت تلك الأماكن المقدّسة مملوءة بالبضائع الأجنبيّة وأصبحت سوقاً لأعداء
الإسلام والنبيّ الأكرم صلّى الله عليه وآله وسلّم. وكثيرٌ من حجّاج بيت الله
الحرام الذين يذهبون لأداء فريضة الحجّ يجب عليهم في هذا المكان المقدّس أن ينهضوا
في مقابل مؤامرات الأجانب ويصرخوا في وجوههم: «يا للمسلمين»! لكننا نراهم
غافلين يتردّدون إلى الأسواق بحثاً عن البضائع الأميركيّة والأوروبيّة واليابانيّة
فيوجعون بعملهم هذا قلبَ صاحب الشريعة، حيث إنّهم يتلاعبون بكرامة الحجّ والحجّاج
وشرفهم.
* شراء البضائع
المعروضة للحجّاج في الحجاز والمتعلّقة بأميركا المخالفة للأهداف الإسلاميّة
والإسلام بالذات يُعدّ إعانةً لأعداء الإسلام وترويجاً للباطل، فيجب تجنّب ذلك
والاحتراز عنه. ليس من الإنصاف أن يضحّي فتياننا الأعزّاء بأرواحهم في جبهات
القتال وأنتم تساعدون مجرمي الحرب بشرائكم هذه البضائع، وتوجّهون صفعةً للإسلام وللجمهوريّة
الإسلاميّة وشعبكم المظلوم بهذه الأعمال. يُمكنكم شراء بعض المستلزمات لكم
ولأصدقائكم من إيران نفسها لئلّا تحصل إعانة للأعداء بذلك.