زيارة الأربعين، مَظهر
حبّ الله تعالى
بقلم: الشيخ حسين كوراني
يشترك في تظهير أبعاد
العظَمة والجلال في الشعائر الحسينيّة، عوامل مركزيّة، أبرزها:
1) البُعد العقائديّ.
حركة العقل والبرهان للاعتقاد بالرسول والمرسِل.
2) البُعد العاطفيّ
الوجدانيّ. حبّ القلب، ثمرة البرهان والتفاعل معها.
***
في البُعد العقائديّ:
الشعائر الحسينيّة محمّديّة. سِرُّها والجوهر، هذا الاتّصال بسِبط سيّد النبيّين. قال
صلّى الله عليه وآله: «حُسَينٌ مِنِّي وَأَنَا مِنْ حُسَين».
الاتّصال بالرسول،
وصولٌ إلى المرسِل. تقلّب الوجه في الساجدين في ميادين ﴿..وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ
فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا..﴾.
الشعائر الحسينيّة المحمّديّة
إلهيّة.
فعلٌ استراتيجيّ، يهدف
إلى توحيد القلوب في سياق عولَمة توحيد الله: ﴿.. لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ
كُلِّهِ..﴾.
***
في البُعد الوجدانيّ:
لا ينفكّ البُعد العقائديّ عن حركة القلب في خطّ العقل. هذه الحركة المُعَقْلَنَة
هي العقيدة. هذه الحركة هي الحبّ. خِلافها «وَهْمُ الحبّ».
قال الإمام الباقر
عليه السلام: «وهَلِ الدِّينُ إِلَّا الْحُبُّ؟ قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿..
حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ..﴾، وقَالَ: ﴿..إِنْ
كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ..﴾، وقَالَ: ﴿..يُحِبُّونَ
مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ..﴾».
يتجلّى هذا البُعدان -
العقائديّ والوجدانيّ - في الشعائر الحسينيّة بالتنقُّل من الذِّكر والفِكر،
والحرارة في القلب، والمعرفة المكتومة إلى اللَّهَج ، والدّمعة، والنَّشيج والنَّحيب،
والجَزَع بلا حدود، والتوثُّب في ساحات «يَا لَيْتَنَا كُنَّا مَعَكَ»،
وصولاً إلى لقاء الله بتاج الشهادة، وأوسمة السعادة.
العقلُ يَعْقِلُ.
القلبُ يُحِبّ.
بالعقل
يتبيّنُ الخيطُ الأبيض من الخيط الأسود من فجر الحبّ. يمتازُ الصادقُ منه عن
الكاذب.
***
في
الحبَّين – الصّادقِ والكاذب - هوى نفس: ما أمضاه العقلُ فهو الصادق. ما أَنكَره العقلُ
هو الكاذب.
معياريّة
العقل هي المائزُ بين الحبّ ووَهْمِ الحبّ. بين الهوى المشروع والإنسانيّ، وبين
الهوى العبثيّ الغرائزيّ الأعمى.
تَحجب
الشهوات الفرق بين «الهدى» و«الهوى». يَضيع الحدّ الفاصل بين الحبّ ووَهْمِه
السَّراب. قد يُحبّ الجاهلُ هلاكَه وهو لا يدري. لو عرف لَما أحبّ. «قَدْ يَدْعُو
المَرْءُ بِقَطْعِ وَتِينِهِ».
***
العقيدة
المنفصلة عن التفاعل والودّ وعَصْفِ الحبّ، وتلاطُمِ بحار العشق والوَلَه، وهْمُ
عقيدة. لا عقد فيها و﴿..لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ..﴾.
يُحكم
العقلُ قواعدَ العقيدة، ويُتقن تَشييدها. يتلقّاها القلبُ بفَيض الحبّ، فتنتظمُ
الجوانحُ والجوارحُ في مسار الحبّ العاقل: ﴿.. يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ..﴾.
الدِّين
هو الإنسانيّة. ﴿..فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا..﴾.
الإنسانيّة
عقلٌ وقلب. قناعةٌ وإحساس. التزامُ القلب حدودَ العقل يضبطُ إيقاعَ الإحساس.
أدنى
تخلُّفٍ عن هذا الالتزام، تأسيسٌ للإحساس الغرائزيّ المتفلِّت من منظومة الحقوق
والقِيَم.
يعادل
هذا التخلّف – بِحَسَبه والنّسبة - غلبةَ هوى النفس للعقل. يعادل جموحَ الغرائز،
واستشراء الحيوانيّة. وصولاً إلى ﴿..بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا﴾.
﴿..أَفَكُلَّمَا
جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ
وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ﴾.
﴿..كُلَّمَا
جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ﴾.
﴿..إِنْ
يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ
الْهُدَى﴾.
***
على
قاعدة الحبِّ العاقلِ أرسى القرآنُ قواعدَ اليقين، وشِرْعةَ الاستقامةِ والصلاح،
ومنهاجَ الإصلاح:
1) ﴿وَمِنَ النَّاسِ
مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَالَّذِينَ
آَمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا للهِ ..﴾.
2) ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ
تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ
وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾.
3) ﴿قُلْ إِنْ كَانَ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ
وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ
تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ
وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ
وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾.
***
الاعتقادُ
بالله واجب. حبُّ اللهِ أوجب. الوصالُ في هذا الحبّ الأوجب رهن أصلَين:
1) حبُّ الرسول والعِترة.
قال رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم: «لَا يُؤْمِنُ عَبْدٌ حَتّى أَكُونَ
أَحَبَّ إِلَيهِ مِنْ نَفْسِهِ، وَتَكُونَ عِتْرَتِي أَحَبَّ إِلَيهِ مِنْ عِتْرَتِهِ،
وَذَاتِي أَحَبَّ إِلَيهِ مِنْ ذَاتِهِ، وَيَكُونَ أَهْلِي أَحَبَّ إِلَيهِ مِنْ أَهْلِهِ».
(البيْهقيّ: شُعب الإيمان، 2/189).
2) لا يجتمعُ حبُّ
الله مع شَوْب الأغيار. يتضمّنُ هذا الأصل قاعدتَين:
أ) أنّ القلب حَرَمُ
اللهِ فَلا تُسْكِنْ حَرَمَ اللهِ غَيْرَ اللهِ.
ب) أنّ حبّ الرسول
والعِترة فرعُ حبِّ الله، لا حبَّ على نحو الأصالة والاستقلال غير حبِّ الله: لَا
إِلَهَ إِلّا اللهُ. لا وَلَهَ إلّا إليه. ولا يُعْبَدُ سِواه. الحُبُّ المُتَمَكِّنُ
وَلَهٌ وعبادة.
***
على
هذا التأسيس القرآنيّ للدِّين الحبّ، دارت القرون، وتعاقبت الأجيال. كانت
شجرةُ حُبِّ الله تُؤتي أُكُلَها بإذن ربّها في كلّ قلبٍ تعاهدها بالوفاء
بالميثاق، والاستقامة، لتُثمر لينَ القلب والحنان والحنين، وتزهر توسُّلاً،
والتماسَ شفاعة.
لم
ينكر حصريّة حبّ النبيّ والعِترة في بلوغ الرشد في حبّ الله، والوصال. لم ينكر
الحنين إلى المعصوم، والتوسّل والشفاعة، إلّا ﴿..وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ
فِي الْقُرْآَنِ..﴾. بنو أميّة ومتفرّعاتهم من ابن تيميّين، ووهّابيّين، وآل
سعود ودواعشهم.
مَن
يدافع عن يزيد ويتحامل على الحسين السِّبط، لا يُمكنه أن يحبّ رسول الله. مَن لا يحبّ
الرسول، محالٌ أن يهتدي إلى المرسِل فضلاً عن أن يحبّه أكثر من كلّ حبّ.
مَن
لم يَعمر الحبُّ قلبَه، قسا قلبُه وتحجّر: ﴿ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ
فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ
مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ
وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا
تَعْمَلُونَ﴾.
***
هل عرفتَ السبب في كلّ
هذا التوحّش، من شقّ صدر الحمزة عمّ النبيّ، إلى آخر نقطة دمٍ سُفكت بأيدي التحالف
الصّهيو- ديّ، في ليبيا، أو كلّ بقاع الأرض؟
هل عرفتَ سرّ ضراوة القصف
السعوديّ في اليمن؟ إنّها قلوبٌ تنكّرت لإجماع الشيعة والسُّنّة على أنّ الدّين هو
الحبّ. لم تَذُق حلاوةَ حبِّ الله. لم يُليّنها حبُّ النبيّ والعِترة. لم تروّضها
الشعائر الحسينيّة، فتوحّشت، وهي تفتخر بـ«إدارة التوحُّش».
***
تراقب
البشريّة في عصر الإنترنت والفضائيات، مشهدَين:
1) مشهد تجليّات حبّ
الله تعالى في اللّهَف إلى سيّد النبيّين، والترنُّم بمدائحه والطَّرب في تعداد مناقبه،
وحبّ كلّ ما أمر صلّى الله عليه وآله
بحبّه، وبذل الجهد والمُهجة في دروبه، وبالخصوص مجالس
الحسين، وزياراته عليه السلام، وأهمّها تظاهرات زيارة الأربعين العالميّة الحاشدة،
والظاهرة.
2) تعابير الحقد
الأرعن، والبطش والتنكيل، وقطع الرؤوس بالفؤوس، وشقّ الصدور على وقع التغنّي بأبي
سفيان وآله والدفاع عنهم، وتكفير جميع المسلمين، والتحامل على الحسين وأخيه وجدّه
وأمّه وأبيه.
هل
سيطولُ انتظارُ النتائج؟ كلُّ الدلائل ترجِّحُ اقترابَ الوعد الحقّ.
ألخسفُ
يأتي بغتةً. ﴿فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ..﴾ (القصص:81).
﴿..بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ (هود:44).