﴿وَأَنزَلْنَا
إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾
كيف نفهم
القرآن الكريم
ـــــــــــــــــــــــــــــ العلامة الشيخ محمّد تقي مصباح
اليزدي ـــــــــــــــــــــــــــــ
لا
شكّ في أنّ الفهم الإجمالي لكتاب الله تبارك وتعالى لا يختصّ بفئة معينة، فقد أُنزل
القرآن الكريم ليستفيد منه الجميع، وهو ما أكّدته آيات كثيرة، كما أكّدت دائماً أنّ
القرآن كتاب هداية للمتّقين، فهو نورٌ ومنوِّر، مُبِين ومُبَيِّن للحقائق والوظائف،
فلقد كان المسلمون يتعرّفون إلى تكاليفهم الشرعية من خلال الأحكام والأوامر الجهادية
التي كانت تنزل على النبيّ صلّى الله عليه وآله على صورة آيات قرآنية يبلّغها لهم ويتلوها
عليهم.
وفي
التاريخ قصص عديدة تحدّثت عن أفراد كانوا كافرين بالإسلام ويعارضونه، ولكنهم بعد أن
استمعوا لآياتٍ من القرآن الكريم، وأدركوا معانيها تعلّقوا بالإسلام تعلّقاً شديداً
واستهدوا بهداه.
المقالة
التالية هي قسم من محاضرة قيّمة لآية الله الشيخ محمّد تقي المصباح اليزدي حفظه
الله بعنوان «منطق فهم القرآن»، اعتمدنا منها ما يتعلّق بشروط فهم الكتاب العزيز.
«شعائر»
بعد أن سلّمنا بحقنّا
في الرجوع إلى القرآن الكريم وفهمه وفق الضوابط العقلية وأصول المحاورة عند
العقلاء، نأتي للحديث عمّا يجب مراعاته من شروط لتحقيق هذا الفهم:
الشرط الأوّل:
بما أنّ القرآن هو: ﴿..لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ﴾ (النحل:103)
فإنّ الأصول العقلية تستوجب على كلّ من يريد فهم النصّ القرآني بصورة صحيحة معرفة
اللغة العربية وآدابها بصورة جيدة؛ وعلى هذا فعليه أن يعرف جيّداً معاني الكلمات،
وقواعد الصرف والنحو والبيان والتشبيه والاستعارة والكناية وأقسامها وأنواعها،
وإذا لم يكن يعرف كلّ هذا فهو لا يستطيع الوثوق بأنّ إدراكه للقرآن إدراك صحيح أم
لا، لا سيّما أنّ بعض الكلمات تكون معانيها دقيقة جداً، وإذا لم يكن يعرف جذر
الكلمة بصورة صحيحة فسيكون لديه لَبس في فهم معنى تلك الكلمة.
الشرط الثاني:
هو أنّه في كلّ اللغات تقريباً قد استُخدمت صناعات مختلفة في الكلام وتكون في بعض
الحالات سبباً للتشابه، وتحوي عدّة معاني لا نعرف أيّها حقيقيّ وأيّها مجازيّ؛
ولذا يجب الاستفادة من القرائن المتعلّقة بهذه الكلمات نفسها، والرجوع إلى صدر تلك
الآية وذيلها، والآية السابقة لها والآية اللاحقة، تلك المجموعة التي يُمكن أن نسمّيها
«سياق الكلام»، وبلا شكّ فإنّ السياق يتّخذ أحياناً معنًى خاصّاً، مفاده: أنّ
مجموع مقطع من النصّ يتكوّن من عدّة أجزاء أصغر ويُطلق عليه السياق أيضاً، ولكن
إذا وسّعنا هذا المعنى وأخذنا صدر الآية وذيلها فإنّنا نستطيع فهم كلام المتكلّم
جلّ وعلا، ولكنّنا لو أخذنا جملة قصيرة من إحدى الآيات ولم ندقّق في صدرها وذيلها
وما قبلها وما بعدها فإنّنا لن نستطيع أن نتأكّد أنّنا فهمنا الآية بصورة صحيحة،
وقد وصل إلينا كثيرٌ من هذه المغالطات؛ وذلك عندما يؤخذ قسم من الآية ويُستند عليه
من دون العناية بصدرها وذيلها فيؤدي ذلك إلى انحرافٍ في الأذهان.
الشرط الثالث:
يشبه الشرط الثاني، وهو كون القرائن اللفظية منفصلة عن الآية، فالنظر إلى أنّ قائل
كلّ آيات القرآن حكيم لا يتطرّق إليه السّهو والنسيان والغفلة.. إلخ، يجعل
بالإمكان وضع الكلمات المختلفة في آيات أخرى قرينة لفهم آية ما؛ أي إنّنا لو أردنا
أن نعرف أنّنا حصلنا على فهم صحيح لآية ما، وأنّ هذا الفهم هو نفسه وليس غيره يجب
أن نراجع الآيات المختلفة المشابهة للآية المطلوب تفسيرها أو الآيات التي يُحتمل
أن تكون مفسِّرة وموضحة لهذه الآية بصورة من الصور، أي أن نأخذ في اعتبارنا كلّ
القرآن من أجل تفسير آية واحدة، وطبعاً إنّ القول بوجوب مراجعة القرآن كلّه لفهم
آية واحدة فيه مبالغة، ولكن على الأقل نأخذ نُصب أعيننا الآيات المماثلة لتلك
الآية والتي تُعيننا في فهم تلك الآية المقصودة، وهو الأمر الذي ذكره أمير المؤمنين
عليّ عليه السلام عندما قال: «إنَّ القُرآنَ يُفَسِّرُ بَعْضُهُ بَعْضَاً».
الشرط الرابع:
الاستفادة من القرائن التاريخية: يُعتبر هذا الأمر مهمّاً؛ لأنّه جزء من الجوانب
العقلية لا التعبّدية، فإنّ كلّ متكلّم عندما يتحدّث مع مخاطَبه فإنّ لديهما اتّفاقاً
مشتركاً، بمعنى أنّهما التزما بفرض أنّ اللفظ الفلاني يُفيد المعنى الفلاني،
ويدركان أيّ موضوعٍ يعنيه هذا الحديث، وما هي الخصوصيّات التي جاء بها المتكلّم
لتوضيح ذلك الموضوع.
إنّ الجملة التي تُقال
في جوّ خاصّ يُفهم منها شيء قد لا يُفهم من هذه الجملة نفسها في جوّ آخر، ففي قصّة
سليمان عليه السلام وبلقيس مثلاً وردت بعض الخصوصيات في ما يخصّ مُلك بلقيس، منها
قوله تعالى: ﴿..وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ..﴾ (النمل:23)،
فلو أنّنا أخذنا هذه الجملة فقط في اعتبارنا لاستوعبت دائرة واسعة من الجوانب
المادّية وغير المادّية أيضاً، وأنّ كلّ ذلك يندرج ضمن عبارة ﴿كُلِّ شَيْءٍ﴾، ولكن
هل كانت بلقيس فعلاً تملك كلّ ذلك؟
كثيرة هي الأشياء التي
لم ترَها بلقيس ولم تسمع بها أبداً، ناهيك عن استخدامها لها، ولكن عندما نأخذ جوّ
الحديث بنظر الاعتبار نفهم أنّ لديها إمكانات المُلك والحُكم، وأنّ جوّ الخطاب يؤشّر
أنّ معنى ﴿وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ﴾ ليس المعنى العامّ الذي يُلقيه اللفظ في
الذهن، ولكن كيف نعرف ذلك الآن في الوقت الذي ليس هناك جملة سابقة ولا جملة لاحقة
تُقدّم لنا أيّ خصوصية في فهم المعنى؟
إنّ جوّ الحديث يُفهمنا
أنّه عندما نقول عن مَلِك بأنّ مُلكه لا نقصان فيه؛ فإنّ ذلك يعني أن لا نقص لديه
في كلّ ما يحتاج إليه من أجل أدائه سلطته ومُلكه، وأنّه لا يملك – بالطبع - كلّ إمكانات
هذه الدنيا. وعلى
هذا فإنّ إحدى اتّجاهات الفهم الأدقّ هي العناية بجوّ التخاطب أو سبب النزول
والظروف التاريخية التي صدر كلامه عزّ وجلّ حولها.
الرجوع
إلى الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم
لقد بيّن القرآن
الكريم أنّ مهمّة الرسول صلّى الله عليه وآله تندرج في عدّة أمور، هي: تلاوة
القرآن، وتعليم الآيات، وأمر آخر هو التزكية، ﴿.. يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ
وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ..﴾ (آل
عمران:164)، ومن هنا نُدرك أنّ التعليم هو من
واجبات الرسول صلّى الله عليه وآله، وأنّ هناك أموراً يجب أن يُوضحها الرسول لنا،
ولا نستطيع إدراكها لو اكتفينا بفهمنا لها فقط، فالملاحظ هنا حاجتنا لمن يعلّمنا،
والآيات المجرّدة لا تكفي وحدها فقط، ولو كانت مهمّة الرسول صلّى الله عليه وآله
هي فقط تلاوة القرآن لحُدّدت في ﴿يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ﴾ فقط، غير أنّه
توجد آية أكثر صراحة من هذه الآية، وهي: ﴿..وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ
لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ..﴾ (النحل:44)،
وهذه الآية دليلٌ قاطع على أنّ الرسول هو مفسِّرٌ للقرآن الكريم، وتدلّ على أنّ
القرآن بحاجة إلى من يفسّره ذلك التفسير الذي يجب أن يتكفّل به الرسول صلّى الله
عليه وآله بنفسه.
إذاً، وبصورة عامّة
فإنّنا لا نستطيع أن نفهم كلّ آيات القرآن الكريم فهماً كاملاً من دون العودة إلى
الرسول أو على الأقل في بعض المواضيع التي يجب فيها وبصورة قطعية العودة إلى كلام
الرسول صلّى الله عليه وآله والاستعانة به.
إنّ أكثر الموارد وأوضحها
في هذا المجال هو تفصيل المجملات، أي أنّ هناك في القرآن بعض المواضيع التي طُرحت
بصورة إجمالية كليّة، ولكن هذا البيان الإجمالي لا يُرشد إلى الطريق ولا يبيّن
الهدف والقصد النهائي بصورة جليّة، ويجب الاستعانة بالتوضيح والتفصيل لأجل فهمه.
فهناك مثلاً آيات كثيرة حول الصلاة، غير أنّ أيّاً من هذه الآيات لا تتناول كيفية
الصلاة وعدد ركعاتها، وهذا هو الأمر الذي أشار اليه الأئمّة الأطهار في الرواية
التي فيها [بالمضمون]: إنّ أحد أصحاب الإمام الصادق عليه السلام قد سأله عن السبب
في عدم وجود أسماء الأئمّة الاثني عشر في القرآن الكريم، ولم يُذكر في القرآن
الكريم أنّ الإمام عليّاً عليه السلام هو الخليفة من بعد الرسول صلّى الله عليه
وآله؟
فردّ عليه الإمام
الصادق عليه السلام بأنّ الله قد قال في كتابه: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ..﴾ (البقرة:43)
فهل ذكَر عدد ركعات صلاة الصبح؟
فقال السائل: كلّا.
فقال الإمام عليه
السلام: إذاً، فممّ عرف الناس كيف يُقيمون صلاتهم؟ لقد عرفوا ذلك من الرسول صلّى
الله عليه وآله.
ثمّ سأل الإمام محدّثه:
لقد ذكر القرآن الكريم: ﴿..وَآَتُوا الزَّكَاةَ..﴾ (البقرة:43)،
فهل وضّح عن أيّ شيء وما هو مقداره، وكيف يُحسب مقداره؟
قال: كلّا.
فقال الإمام عليه
السلام: فكيف عرف الناس بمَ تتعلّق وما حدّ نصابها؟
ثمّ قال عليه السلام: ﴿..أَطِيعُوا
اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ..﴾ (النساء:59)
مثل ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾، فإنّ على الناس
واجباً وهو أن يذهبوا إلى الرسول صلّى الله عليه وآله ويسألوه، ولقد ذهبوا وسألوه
صلوات الله عليه وآله، وبيّن لهم أنّ أُولي الأمر هم الأئمّة الأطهار عليهم السلام،
وكان من جملة مَن سأل الرسولَ جابرُ بن عبد الله الأنصاريّ، الذي سأله عن تفسير «أُولي
الأمر»، ومَن هم؟ ومَن الذي تجب علينا طاعته؟ فعرّفه الرسول صلّى الله عليه
وآله بالأئمّة الاثني عشر عليهم السلام.
إذاً، فالقاعدة الأخرى
التي يمكن التزامها لفهم القرآن الكريم هي: أنّ حديث الرسول صلّى الله عليه وآله وحديث
الأئمة الأطهار عليهم السلام هو حجّةٌ في توضيح مجملات القرآن، وتفسير كلّ ما
يحتاج إلى تفسير، ولن نستطيع التأكّد من صحة ما نسبناه إلى القرآن الكريم من دون
الرجوع إلى أحاديثهم صلوات الله عليهم أجمعين.