﴿الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ...﴾
بقلم:
الشيخ حسين كَوراني
هذه
الحروب الطاحنة، والمعارك الضروس، والمجازر المتنقّلة، والفِتن العاصفة التي
تتناسل في منطقة «الشرق الأوسط» - كما يقال - هي من حيث المبدأ والأصل، «ثقافيّة»
بامتياز.
طال
ليل استكبار الغرب على الشرق. كانت أعتى الغارات وأشرسها تزييف الاستقلال. الجمع
بين تثبيت الاحتلال عبر زرع «إسرائيل»، وتنصيب الدُّمى، وبين ما عُرف بالجلاء.
ما
استسلم الشرق يوماً، وما أقرّ لحكّامه بالطاعة. الموقف المبدئيّ الثابت المتواصل
من «إسرائيل»، أقوى دليل.
لم
ينقطع مسلسل الفورات الشعبيّة، والثورات القُطريّة، أو المناطقيّة. لم تعدُ كونها
شمعات في عتمة الليل الطويل، وديجور الظلم المقيم.
كان
الشرق بحاجة إلى ثورة تمثّل الشرق كلّه. تحمل فكر النبوّات. تجسّد حنانها. يملأ
الحبّ آفاقها والحنايا. تُبلسم جراح العالمين.
***
تنفّس
الصبحُ في طهران. تعالى نداء الأذان. ألله أكبر. ألله أكبر.
ومن
هو المؤذّن؟ يا لَهول المفارقة، وبالغ الدلالات. هذا المؤذّن المعاصر في الناس
بالحجّ. الشيخ الشرقيّ الطاعن في السنّ «روح الله الموسويّ الخمينيّ» يدوّي
صوته في الخافقَين. تنبعث أصداؤه المجَلجِلة من قلب الغرب. من الضاحية الباريسيّة
«نوفل لو شاتو»!!
الفجر
يبزغ في الشرق. والمؤذّن شرقيّ، ومن الغرب يصدحُ صوتُ الأذان!
من
الدلالات:
1)
أن الثورة الإسلاميّة في إيران، ثورة الحقّ على الباطل أينما كانا.
2)
كما هو الهدف من بعثة الأنبياء «أن يُثيروا دفائنَ العقول». كذلك هو هدف
هذه الثورة النبويّة المنطلقات.
3)
يتركّز التباين بين هذه الثورة، وبين الفراعنة، والمستكبرين، والملأ، والمترفين،
المفسدين في الأرض. تنحصر المشكلة مع الغرب في التباين مع الإدارات وأنظمة الحكم
وامتداداتها. لا للتباين مع الشعوب في دول الغرب.
في
سياق هذه الدلالات كان الخطاب الخمينيّ عالميّاً، يرتكز إلى أولويّة تحرير فلسطين،
كمنطلق إلى تحرير المستضعفين.
***
بعض
الهدير الخمينيّ حول يوم القدس وعالميّته:
* إن يوم القدس يوم عالميّ،
وليس
يوماً مختصّاً
بالقدس
فقط،
بل
هو
يوم
مواجهة
المستضعفين
للمستكبرين.
يوم
مواجهة
الشعوب
التي
رزحت
تحت
ضغط
الظلم
الأمريكيّ
وغير
الأمريكيّ.
يوم
يجب
فيه
أن
يستعدّ
المستضعفون
لمواجهة
المستكبرين
ويمرّغوهم
في
التراب.
* يجب أن نُعلن لجميع القوى الكبرى في يوم القدس أن يرفعوا أيديهم عن المستضعفين.
وفي هذا السياق العالميّ تعملقت مواقف الإمام الخامنئيّ.
لقد حفظ الوصيّة حرفاً حرفاً، ونفَساَ نفساً، فكان النصر المعجزة في حرب تمّوز.
يكفي لتوكيد الآفاق الإنسانيّة الكونيّة لرجال الله في
المقاومة الإسلاميّة، وثبة عالميّة من وثبات شيخ شهداء المقاومة الإسلاميّة، الشيخ
راغب حرب تجلّيها بضع كلمات: سنُبلسم بجراحنا جراحَ أهل الأرض.
***
ما بعد «حرب تمّوز» عصرٌ جديد، وتاريخٌ مختلف.
وما بعد «حلب» مرحلةٌ متقدّمة في هذا العصر النوعيّ
الجديد.
بعض حشرجات الصنم الأميركيّ ما بين النصرَين:
أ) التهويل بغزو إيران.
ب) مسرحيّة «الربيع العربيّ»، ولعبة تحريك الدّمى
واستبدالها.
ت) أمر اليوم الأميركيّ للدواعش آل سعود، لإطلاق دواعشهم
في العراق وسورياً، ولاحقاً، استهداف اليمن.
السؤال المركزيّ:
ما هي أولويّات
المقاومة بعد هذا النصر الثاني، والفتح المبين في حلب؟
***
في البعد الثقافيّ: يحتّم الجواب أنّ حقيقة هذه المقاومة كحقيقة أذان الفجر
الخمينيّ - الخامنئيّ، إسلاميّة، قرآنيّة.
الجواب، إذاً: ﴿الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي
الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ
وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ﴾ (الحج:41).
إقامة
الصلاة، اليقين الثقافيّ: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا
أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ﴾
(البقرة:4).
إقامة
الصلاة، اليقين بأنّ النصر من عند الله: ﴿وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ
وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ (آل عمران:123)
".." ﴿وَمَا جَعَلَهُ اللهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ
قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ الْعَزِيزِ
الْحَكِيمِ﴾ (آل عمران:126).
إقامة
الصلاة، ﴿..تَرَاهُمْ
رُكَّعًا سُجَّدًا..﴾ (الفتح:29)، يعزّز ركوعهم والسجود
تواضع المجاهد في سبيل الله بالجهادَين الأكبر والأصغر، ولا يفارق عينَي
القلب ﴿..وَيَوْمَ
حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا
وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ﴾
(التوبة:25).
إقامة
الصلاة، يقظة وتوثّبٌ ومرابطة على ثغر القلب. توجيه
القلب في خطّ العقل إلى الله الواحد الأحد في عوالم: ﴿إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي
فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾
(الأنعام:79).
إقامة
الصلاة، تثبيت الرؤية التوحيديّة الكونيّة في
غياهب: ﴿وَمَا
يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ﴾ (يوسف:106).
إقامة
الصلاة، إقلال العُرْجَة على الدنيا. العاقل
هو من أسّس بنيانه على الاستحقاقات الفعليّة والمستقبليّة. لم يحمله الحمق والخرق
على التأسيس على حاضرٍ متحرّكٍ زائل. ﴿..عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ..﴾ (التوبة:109).
فبصره من الآن حديد. شغله حسن المآب: ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ
مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ
وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ
مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآَبِ﴾ (آل عمران:14).
إقامة
الصلاة، بناء النفس في صراط المحمديّة البيضاء،
مضمارِ أبناء الآخرة: «فَهُم والجنّة كمَن قد رآها، فَهُم فيها منعَّمون...».
***
بهذه
الحقائق المركزيّة التي تختزنها إقامة الصلاة يستقيم إتيان «إيتاء الزكاة،
والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر» ومفهوم ﴿..وَللهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ﴾،
من أبوابها.
لا
ينفكّ السفر إلى الله تعالى بالصلاة، عن السفر إلى الله في خدمة الخلق. خدمة الخلق
مادّيّة هي الزكاة، ومعنويّة هي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
خدمة
الخلق المادّيّة في قلب الجهادَين. وسيلةُ التمكّن منهما. الخدمة المعنويّة هي
الهدف.
﴿..وَللهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ﴾:
من دلالات ربط مطلع الآية بالختام،
التأصيل في جميع ميادين الجهادين على قاعدة: ﴿..إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ
رَاجِعُونَ﴾ (البقرة:156)
ثقافة
النصر ثقافة «الإيمان بالغيب» ويوم الحساب: ﴿يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا
عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ
بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَاللهُ
رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ﴾ (آل عمران:30).
بمقدار
ضعف حضور الإيمان بالغيب واليقين بيوم العرض الأكبر، في عمليّة البناء الثقافيّ، يضعف
تأثير كلّ الأنشطة الثقافيّة، وتكون الهجانة التي لا يمكن معها تحصين الانتصارات.