منطقٌ
أقوى من مائة ألف سيف
مناظرة هشام بن الحكم مع الخوارج والمعتزلة
ـــــــــــــــــــــــ
رواية الشيخ الصدوق* ـــــــــــــــــــــــ
كان
ليحيى بن خالد البرمكي، وزيرِ هارون العباسي، مجلسٌ في داره يحضره المتكلّمون من
كلّ فِرقة وملّة. فبلغ ذلك هارون، فقال ليحيى بن خالد: ما هذا المجلس الذي بلغني
في منزلك يحضره المتكلّمون؟
قال:
إنه يحضره كلّ قومٍ مع اختلاف مذاهبهم، فيحتجّ بعضهم على بعض، ويُعرف المحقّ منهم،
ويتبيّن لنا فساد كلّ مذهبٍ من مذاهبهم.
فقال
له هارون: أحبّ أن أحضر هذا المجلس واسمع كلامهم على
أن لا يعلموا بحضوري فيحتشموني، ولا يُظهروا مذاهبهم.
وبلغ
المعتزلةَ خبرُ حضور هارون خفيةً، فتشاوروا بينهم وعزموا على أن لا يُكلِّموا
هشاماً بن الحكم إلاّ في الإمامة؛ لعلمهم بمذهب هارون وإنكاره على مَن قال
بالإمامة.
***
فحضروا،
وحضر هشام، وحضر عبد الله بن يزيد الأباضي (الأباضية فرقة من الخوارج)...
فقال
يحيى بن خالد لعبد الله بن يزيد: يا عبد الله، كلِّم
هشاماً في ما اختلفتم فيه من الإمامة.
فقال
هشام: أيها الوزير، ليس لهم علينا جوابٌ ولا
مسألة، إن هؤلاء – يقصد الخوارج - قومٌ كانوا مجتمعين معنا على إمامة رجل، ثم
فارقونا بلا علمٍ ولا معرفة، فلا حين كانوا معنا عرفوا الحقّ، ولا حين فارقونا
علموا على ما فارقونا، فليس لهم علينا مسألةٌ ولا جواب.
فقال
بيان - وكان من الحَرورية، وهي الأخرى فرقة من
الخوارج: أنا أسألك يا هشام، أخبِرني عن أصحاب عليٍّ يومَ حكّموا الحَكمَين،
أكانوا مؤمنين أم كافرين؟
قال
هشام: كانوا ثلاثة أصناف: صنفٌ مؤمنون، وصنفٌ
مشركون، وصنفٌ ضلّال.
فأما المؤمنون:
فمَن قال مثل قولي: إن عليّاً عليه السّلام إمامٌ من عند الله عزّ وجلّ، ومعاوية
لا يصلحُ لها، فآمنوا بما قال الله عزّ وجلّ في عليٍّ عليه السلام وأقرّوا به.
وأما المشركون:
فقومٌ قالوا: عليٌّ إمام، ومعاوية يصلح لها، فأشركوا إذ أدخلوا معاوية مع عليٍّ
عليه السّلام.
وأما الضُّلّال:
فقومٌ خرجوا على الحَمِيّة والعصبية للقبائل والعشائر فلم يعرفوا شيئاً من هذا،
وهم جهّال.
قال
بيان – أو بنان: فأصحابُ معاوية، ما كانوا؟
قال
هشام: كانوا ثلاثة أصناف: صنفٌ كافرون، وصنفٌ
مشركون، وصنفٌ ضُلّال.
فأما الكافرون:
فالذين قالوا: إن معاوية إمامٌ وعليٌّ لا يصلح لها، فكفروا من جهتين؛ إذ جحدوا
إماماً من الله عزّ وجلّ، ونصبوا إماماً ليس من الله.
وأما المشركون:
فقومٌ قالوا: معاوية إمامٌ وعليٌّ يصلح لها، فأشركوا معاوية مع عليٍّ عليه
السّلام.
وأما الضُّلّال:
فعلى سبيل أولئك، خرجوا للحمية والعصبية
للقبائل والعشائر.
فانقطع
بيان عند ذلك.
***
فقال
ضِرار – وإليه تُنسب الفرقة الضرارية من المعتزلة:
وأنا أسألك يا هشام في هذا.
فقال
هشام: أخطأتَ.
قال:
ولمَ؟
قال
هشام: لأنكم كلّكم مجتمعون على دفع إمامة صاحبي
– أي أمير المؤمنين عليه السلام - وقد سألني هذا عن مسألة، وليس لكم أن تُثَنّوا
بالمسألة عَلَيَّ حتى أسألك يا ضِرار عن مذهبك في هذا الباب؟
قال
ضرار: فَسَلْ.
قال
هشام: أتقول: إن الله عزّ وجلّ عدلٌ لا يجور؟
قال:
نعم، هو عدلٌ لا يجور، تبارك وتعالى.
قال:
فلو كلّفَ اللهُ المُقعَد المشي إلى المساجد والجهادَ في سبيل الله، وكلّف الأعمى
قراءة المصاحف والكتب؛ أتراه كان يكون عادلاً أم جائراً؟
قال
ضرار: ما كان اللهُ ليفعلَ ذلك.
قال
هشام: قد علمتُ أن الله لا يفعل ذلك، ولكن ذلك
على سبيل الجدل والخصومة، أنْ لو فعل ذلك، أليس كان في فعله جائراً – والعياذ
بالله - إذ كلّفه تكليفاً لا يكون له السبيل إلى إقامته وأدائه؟
قال:
لو فعل ذلك، لكان جائراً.
قال:
فأخبِرني عن الله عزّ وجلّ؛ كلّفَ العباد ديناً واحداً لا اختلافَ فيه، لا يقبلُ
منهم إلا أن يأتوا به كما كلّفهم؟
قال
ضرار: بلى.
قال:
فجعلَ لهم دليلاً على وجود ذلك الدين، أو كلّفهم ما لا دليلَ لهم على وجوده، فيكونُ
بمنزلة مَن كلّف الأعمى قراءة الكتب والمُقعدَ المشي إلى المساجد والجهاد؟
فسكت
ضرار ساعةً، ثم قال: لا بدّ من دليل – أي
إمام - وليس بصاحبك!
فتبسّم
هشام، وقال: تَشَيَّعَ شَطْرُك، وصرتَ إلى الحقّ
ضرورة، ولا خلاف بيني وبينك إلا في التسمية.
قال
ضرار: فإني أُرجِعُ القولَ عليك في هذا.
قال:
هات.
قال
ضرار لهشام: كيف تُعقَد الإمامة؟
قال
هشام: كما عقدَ اللهُ عزّ وجلّ النبوّة.
قال:
فهو إذاً نبيّ؟
قال
هشام: لا، لأن النبوّة يعقدُها أهلُ السماء،
والإمامة يعقدها أهلُ الأرض، فعقدُ النبوّة بالملائكة، وعقدُ الإمامة بالنبيّ،
والعقدان جميعاً بأمر الله جلّ جلاله.
قال:
فما الدليل على ذلك؟
قال
هشام: الاضطرار في هذا.
قال
ضرار: وكيف ذلك؟
قال
هشام: لا يخلو الكلام في هذا من أحد ثلاثة
وجوه:
إما
أن يكون الله عزّ وجلّ رفع التكليف عن الخلق بعد الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم
فلم يُكلّفهم ولم يأمرهم ولم يَنههم، فصاروا بمنزلة السباع والبهائم التي لا تكليف
عليها. أفتقول هذا يا ضرار... إن التكليف عن الناس مرفوعٌ بعد الرسول صلّى الله
عليه وآله وسلّم؟
قال:
لا أقول هذا.
قال
هشام: فالوجه الثاني: ينبغي أن يكون الناس المكلّفون
قد استحالوا بعد الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم علماء في مثل حدّ الرسول في
العلم، حتى لا يحتاج أحدٌ إلى أحد، فيكونوا كلهم قد استغنوا بأنفسهم وأصابوا الحق
الذي لا اختلاف فيه، أفتقول هذا.. إن الناس استحالوا علماءَ حتى صاروا في مثل حدّ
الرسول في العلم بالدين، حتى لا يحتاج أحدٌ إلى أحد، مستغنين بأنفسهم عن غيرهم في
إصابة الحق؟
قال:
لا أقول هذا، ولكنهم يحتاجون إلى غيرهم.
قال:
فبقيَ الوجه الثالث، وهو أنه لا بدّ لهم من عالمٍ يُقيمه الرسول لهم، لا يسهو ولا
يغلط ولا يَحيف، معصومٌ من الذنوب مُبَرَّءٌ من الخطايا، يحتاج الناسُ اليه ولا
يحتاج إلى أحد.
قال:
فما الدليل عليه؟
قال
هشام: ثمان دلالات؛ أربعٌ في نَعْتِ نَسَبِه،
وأربعٌ في نَعْتِ نَفْسِه.
* فأما الأربعُ التي في نعْت نَسَبه:
فأنْ
يكون: 1) معروف الجنس. 2) معروفَ القبيلة. 3) معروف البيت. 4) وأن يكون من صاحب
الملّة والدعوة اليه إشارة.
-
فلم يُرَ جِنسٌ من هذا الخلق أشهر من جنس العرب الذين منهم صاحب الملّة والدعوة،
الذي يُنادى باسمه في كلّ يومٍ خمس مرّاتٍ على الصوامع... فتصل دعوته إلى كلّ بَرٍّ
وفاجر، وعالمٍ وجاهل، مُقِرِّ ومُنكر، في شرق الأرض وغربها، ولو جاز أن تكون الحجّةُ
من الله على هذا الخلق في غير هذا الجنس، لأتى على الطالب المرتاد دهرٌ من عصره لا
يَجِدُه، ولجاز أن يطلبه في أجناس من هذا الخلق من العجم وغيرهم، ولكان من حيث
أراد اللهُ عزّ وجلّ أن يكون صلاحٌ يكون فساد، ولا يجوز هذا في حكمة الله جلّ
جلاله وعدله؛ أن يفرض على الناس فريضةً لا توجَد، فلما لم يَجُز ذلك لم يَجُز أن
يكون إلاّ في هذا الجنس لاتّصاله بصاحب الملّة والدعوة.
-
فلم يجز، أيضاً، أن يكون من هذا الجنس إلاّ في هذه القبيلة؛ لقُرب نسبها من صاحب
الملّة وهي قريش.
-
ولما لم يجز أن يكون من هذا الجنس في هذه القبيلة، لم يجُز أن يكون من هذه القبيلة
إلا في هذا البيت؛ لِقُرب نَسَبِه من صاحب الملّة والدعوة.
-
ولما كَثُر أهل هذا البيت – أي بني هاشم - وتشاجروا في الإمامة لعلوّها وشرفها
ادّعاها كلّ واحدٍ منهم، فلم يجُز إلاّ أن يكون من صاحب الملّة والدعوة إشارةٌ إليه
بعينه واسمه ونَسَبِه كيلا يطمع فيها غيره.
* وأما الأربع التي في نعت نفسه:
1)
فأن يكون أعلم الناس كلّهم بفرائض الله وسُننه وأحكامه حتّى لا يخفى عليه منها
دقيقٌ ولا جليل. 2) وأن يكون معصوماً من الذنوب كلّها. 3) وأن يكون أشجعَ الناس. 4)
وأن يكون أسخى الناس.
فقال
عبد الله بن يزيد الأباضي: من أين قلتَ إنه أعلم
الناس؟
قال
هشام: لأنه إنْ لم يكن عالماً بجميع حدود الله
وأحكامه وشرائعه وسُننه لم يُؤمَن عليه أن يقلب الحدود، فمن وجبَ عليه القطعُ حَدَّه،
ومَن وجبَ عليه الحَدُّ قطعَه، فلا يُقيم لله عزّ وجلّ حدّاً على ما أمر به، فيكون
من حيث أراد الله صلاحاً يقع فساداً.
قال:
فمن أين قلتَ إنه معصومٌ من الذنوب؟
قال
هشام: لأنه إنْ لم يكن معصوماً من الذنوب دخل في
الخطأ، فلا يُؤمَن أن يكتم على نفسه ويكتم على حميمه وقريبه، ولا يحتجُّ اللهُ
بمثل هذا على خلقه.
قال
الأباضيّ: فمن أين قلتَ إنه أشجعُ الناس؟
فقال
هشام: لأنه فئةٌ للمسلمين الذي يرجعون إليه في
الحروب، وقال اللهُ عزّ وجلّ: ﴿وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذ دُبُرَهُ إِلاَّ
مُتَحَرِّفاً لِّقِتَال أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَة فَقَدْ بَاء بِغَضَب مِّنَ اللهِ﴾.
فإنْ لم يكن شجاعاً فَرَّ؛ فيبوء بغضبٍ من الله، ولا يجوزُ أن يكونَ مَن يبوءُ
بغضبٍ من الله عزّ وجلّ حجةَ الله على خَلقه.
قال:
فمن أين قلتَ إنه أسخى الناس؟
قال
هشام: لأنه خازنُ المسلمين، فإنْ لم يكن سخيّاً
تاقتْ نفسُه إلى أموالهم، فأخَذَها فكان خائناً، ولا يجوز أن يحتجّ الله على خلقه
بخائن.
فعند
ذلك قال ضِرار: فمن هذا بهذه الصفة في هذا الوقت؟
فقال
هشام: صاحبُ العصرِ (إمامُ) المؤمنين.
وكان
هارون العباسي قد سمع الكلام كلّه، فقال عند ذلك: أعطانا واللهِ من جِراب النُّورَة.
(أي أسمعَنا ما نكره).
ثم
قال هارون: ويحكَ يا جعفر - وكان جعفر بن يحيى
جالساً معه في السّتر - مَن يعني بهذا؟
فقال
جعفر البرمكي: يعني به موسى بن جعفر (الكاظم عليه
السلام).
قال
هارون: ما عنى بها غيرَ أهلها. ثم عضّ على شفتيه،
وقال: مثلُ هذا حيٌّ ويبقى لي مُلكي ساعةٌ واحدة؟! فوَاللهِ لَلِسانُ هذا أبلغُ في
قلوب الناس من مائة ألف سيف.
وعلم
يحيى أن هشاماً قد أُتي... فغمزَ هشاماً، فعلم هشام أنه قد أُتي، فقام يُريهم أنه (يريد)
حاجة؛ فلبس نَعلَيه وانسلّ ومرّ ببيته وأمرَهم بالتواري، وهرب. ومرّ من فوره نحو
الكوفة. فلمّا وافاها اعتلّ علّةً شديدة ومات بعد فترةٍ وجيزة. ولمّا بلغ هارونَ
العباسي خبرُ موته، قال: الحمد لله الذي كفانا أمره!
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*
كمال الدين وتمام النعمة - مختصر