في
عصر الاضطراب الفكري والسياسي
الإمام الصادق عليه السلام يُشهر سيف العلم*
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
يوسف فخر الدين ــــــــــــــــــــــــــــــــ
الإمام جعفر بن محمّد
الصادق عليه السلام، عَلَمٌ من أعلام الهدى، قاد «سفينة النجاة» في بحر الفِتن رغم
تلاطم أمواج الظلم والاستبداد والانحراف عند الحكّام، والضياع عند الأمّة المسلمة.
وقف صادحاً بالحقّ من
على منبر جدّه صلّى الله عليه وآله، مُلقياً الحجّة التامّة، ليكون شاهداً على
الأمّة والحكام، ومن ثمّ شهيداً - بسُمٍّ دسّه إليه المنصور الدوانيقي - في محراب
صيانة التوحيد، وشريعة سيّد المرسلين صلّى الله عليه وآله.
في الخامس والعشرين من
شهر شوال سنة 148 هجرية، كانت شهادة الإمام الصادق، بعد أن وفى بالعهد الذي عاهد
به أباه الباقر عليهما السلام: «.. واللهِ لأَدَعَنَّهُم والرّجلُ منهم يكونُ
في المِصْرِ فلا يسألُ أحداً».
عاش الإمام جعفر بن محمّد
بن عليّ بن الحسين سيّد الشهداء عليهم السلام في مرحلة تعتبر من أدقّ المراحل
التاريخية الإسلامية في نواحيها السياسية والفكرية والاجتماعية.. فقد عاش من
الناحية السياسية والاجتماعية مرحلةً مخضرمة تختصر في طياتها كل الظروف والأساليب
في تشابهها واختلافها لدولتين لعبتا دوراً حسّاساً وخطيراً في التاريخ الإسلامي،
هما دولة بني أمية، ثمّ دولة بني العباس.
ورغم الاختلاف في سنة
ولادته بين سنة ثمانين أو ثلاث وثمانين للهجرة، فقد عاصر الإمام الصادق عليه السلام
الدولتين في هذه المدة الطويلة: «مع جدّه وأبيه اثنتي عشرة سنة، ومع أبيه بعد جدّه
تسع عشرة سنة، وبعد أبيه أيام إمامته أربعاً وثلاثين سنة، وكان في أيام إمامته
بقية مُلك هشام بن عبد الملك، ومُلك الوليد بن يزيد بن عبد الملك، وملك يزيد بن
الوليد الناقص، وملك إبراهيم بن الوليد، وملك مروان بن محمّد الحمار، ثم صارت
المسوّدة (لاتّخاذهم شعار السواد) مع أبي مسلم سنة اثنتين وثلاثين ومئة، فملك أبو
العباس الملقّب بالسفّاح، ثم ملك أخوه أبو جعفر الملقّب بالمنصور، وتوفّي الصادق
بعد عشر سنين من ملكه». [العلامة
المجلسي، بحار الأنوار]
ومهما يكن من أمرٍ، فلا بدّ
من التوقف عند الحالة السياسية والاجتماعية لتلك المرحلة التي عايشها صادق أهل
البيت عليهم السلام، قبل الانتقال لمعرفة الحالة الفكرية ودوره عليه السلام.
الحالة
السياسية العامة
لقد آلت الخلافة الأموية
إلى مُلْكٍ عضوض بعيدٍ عن الإسلام وأحكامه منذ العهد المبكر لمعاوية بن أبي سفيان.
ولقد بلغ - وكما هو معروف - من أمر حكّام تلك الدولة أن حوّلوا «الخلافة» من موقعٍ
يقود الأمّة الإسلامية إلى الله تعالى، إلى موقعٍ يقود الأمّة إلى خدمة أهوائهم
ومصالحهم وسلطانهم...
فآخر عهد بني أمية وبني
مروان كان عهدَ فتن واضطرابات وثورات، تضاف إلى حالة تهتّك سياسي وخُلُقي بلغ حداً
من الاستهتار والسقوط تخجل منه صفحات التاريخ الإسلامي نفسها، حتى بلغ الأمر
بالطبري في (تاريخه) إلى أن يقول: «تركتُ الأخبار الواردة عنه (الوليد) بذلك كراهة
إطالة الكتاب بذكرها»، وعبّر أخوه عنه بعد قتله: «بُعداً له! أشهد أنّه كان شروباً
للخمر، ماجناً فاسقاً..».
ولم تكن بداية دولة بني
العباس إلّا مرحلة أخرى من الحروب والاضطرابات والثورات والعمليات العسكرية
المتنقلة للقضاء على آخر ذيول الحكم البائد، وتثبيت المواقع السياسية والعسكرية
للعهد الجديد. ويلازم ذلك بالطبع - مع عدم قداسة الغاية - البطش بكلّ مكامن الخطر
ورموزه المُحتمَلين على الدولة الفتية في المدَيَين القريب والبعيد. وهو هنا الخطر
الشيعي العلوي على الدولة التي قامت وانتصرت في ظل شعارٍ دغدغ مشاعر الناس، خصوصاً
الخراسانيين، «الدعوة للرضا من أهل البيت»...
وممّا لا شك فيه أنّ
الوضع السياسي والعسكري المضطرب والمتردّي يترك أثره الخطير على الجوانب
الاجتماعية والاقتصادية والفكرية والدينية أيضاً، فعدم انسجام الناس الكلي مع
حكامهم إلا بالترهيب والترغيب، وكثرة الفتوحات الإسلامية في هذا القرن الهجري
الأول، أدّيا معاً إلى اضطراب وتداخل فكري خطير تناول الجوانب الفقهية والعقلية
والروائية والتفسيرية والمفهومية الإسلامية وغيرها.
الحالة
الفكرية والعلمية
لقد بقي الحكّام غير
منسجمين ولا مهتمّين أصلاً بالقضايا الفكرية والعلمية والأدبية إلّا بما يخدم
سلطانهم ويثبّت زعامتهم، ولذا خلا العهد الأموي في غالبه من نموٍّ وتطوّرٍ للفكر
والعلم الديني وغيره، إلا أنّ الفتوحات الإسلامية التي أدخلت عناصر جديدة غير
عربية وغير مسلمة إلى الإسلام، أحوجت المسلمين الجدد والمترجمين إلى البدء بأعمال
التدريس والتعليم، وبدأت حركة الترجمة عن اليونانية والفارسية وغيرهما.. فانصرف
الناس عن الحكّام وانشغل الحكّام الأمويّون بأنفسهم وبسلطانهم في آخر عهدهم - كما
أشرنا - فبرزت بوادر نهضة فكرية وعلمية وحركة فلسفية خطيرة، ولذا فإنّ: «الحركة
العلمية، والمذاهب الدينية، والنظم الاجتماعية في آخر الدولة الأموية أرقى من
أولها...». [أحمد
أمين، ضحى الإسلام]
ولقد تلخصت خطوات الحركة
الفكرية عامة في تلك الحقبة الزمنية بالأمور التالية:
1) بدء حركة الترجمات المختلفة، وإدخالها
مواضيع جديدة وخطيرة على المجتمع الإسلامي.
2) إقبال المسلمين الجدد إلى التعرف على
الإسلام والقرآن وتعلّمه ومعرفة أسراره ومعانيه، وبالتالي استدعاء ذلك لوجود علماء
وقرّاء.
3) البدء بمرحلة تدوين الحديث، بعدما داخله
التشويه والدسّ خصوصاً في العصر الأموي.
4) كثرة المحدّثين والرواة حيث امتدت الحركة
العلمية لتشمل سائر الحواضر الإسلامية.
5) انتشار الفلسفة بمفاهيمها ومصطلحاتها
الجديدة.
دور
الإمام الصادق عليه السلام
أمام هاتين الحالتين
الخطيرتين للأمّة الإسلامية في تلك المرحلة، اتخذ الإمام الصادق عليه السلام مواقف
واضحة وحاسمة وحازمة على الصعيدين الفكري والعملي.
* أولاً، موقفه من
السلطة: أكّد الإمام الصادق عليه السلام في
مناسبات عديدة أنّ الظروف السياسية والعسكرية والاجتماعية المحيطة به غير مؤاتية
للقيام بأي ثورة أو انتفاضة عسكرية أو سياسية، وهو صلوات الله عليه كان يُشير إلى
ما جرى مع عمّه زيد بن عليّ عليه السلام، حيث أيّده المحبّون لأهل البيت ثم خذلوه
كما خذلوا أجداده، وأكّد الإمام أيضاً أنّ الثورة، في تلك الظروف، لا تنتهي بمقتل صاحبها
فقط، وإنّما بضياع الخط والرسالة والمذهب أيضاً، ولذا فقد كان يعلم، وهو وريث
الأوصياء، بفشل حركة ابن عمه محمّد بن عبد الله المحض، وأكّد كذلك أنّ المرحلة
تقتضي منه، كما اقتضت من أبيه الباقر عليه السلام، شقّ طريق العلم وسبر أغواره
وتبيان خفاياه ورَسْم معالمه....
* ثانياً، من مواقفه
الشجاعة: قبل الحديث عن الجهاد العلمي والفكري
للإمام الصادق عليه السلام، لا بدّ من الإشارة والتوقّف عند شجاعة وجرأة الإمام
الصادق عليه السلام في مواقف شهد له التاريخ بها.. نشير لبعضها حتّى لا تذهبنّ
المذاهب والأهواء بأفكار أحد، فمن ذلك:
أ) حكمة بسيطة واجه بها
المنصور العباسي عندما تسلّط عليه الذباب بشكل متكرّر فتضايق المنصور وسأل الصادق:
لأيّ شيءٍ خلق الله الذباب؟ فكانت وبشكلٍ غير مباشر كلمة حقّ في وجه سلطان جائر: «ليذلّ
به الجبّارين».
ب) موقفه من والي
المنصور على المدينة شيبة بن غفال، الذي مدح الحاكم العباسي وأهل بيته، وشتم عليّاً
وأهل بيته عليهم السلام، من على منبر مسجد النبيّ صلّى الله عليه وآله، فكان ممّا
قاله الصادق عليه السلام: «أمّا ما قلتَ من خيرٍ فنحن أهله، وما قلتَ من سوءٍ
فأنت وصاحبُك (المنصور) به أَولى، فاختبرْ يا مَن ركبَ غير راحلته وأكل غير زاده،
ارجع مأزوراً».
ج ) كلامه للمنصور في
مجلسه بعد أن قصد إحراجه بكلمات، فكان الردّ الحاسم من الإمام الصادق عليه السلام:
«أنا فرعٌ من فُروع الزيتونة، وقنديل من قناديل بيت النبوّة، وأديب السَّفَرة،
وربيب الكرام البَرَرة، ومصباح من مصابيح المشكاة التي فيها نورُ النّور، وصفوة
الكلمة الباقية في عقب المصطفَين إلى يوم الحشر».
وكان من جواب المنصور:
«..هذا الشَّجى المعترض في حلوق الخلفاء..»!
د) أكد الصادق عليه السلام
لأصحابه فكرة رفض الارتباط بالسلطان الظالم بأيّ نوع من أنواع الارتباط...وكان
يقول لهم: «إنّ أعوانَ الظَّلَمة يوم القيامة في سُرادقٍ من نار حتّى يحكمَ
اللهُ بين العباد..».
وردّ على المنصور مرّة
بقوله: «..مَن أرادَ الدُّنيا لا يَنصَحك، ومَن أراد الآخرة لا يَصحبُكَ.. ».
هـ) إنّ علاقة الصادق
عليه السلام بالحكّام - العباسيين بالخصوص - كانت علاقة الندّ للندّ، فلم يُؤْثَر
عنه مبايعته لأحدٍ منهم، بل ظلّت العلاقة سلبية خصوصاً من جانبهم خوفاً من دوره
وخطره عليهم، ومعرفتهم بحقّه وفضله ودوره بين الناس، ولذا لم يتجرّأوا على قتله
علناً، بل دسّ له المنصور السمّ سراً حتّى استُشهد. ولقد همّ المنصور بقتله غير
مرة، فكان إذا بعث إليه ودعاه ليقتله نظر إليه وهابه ولم يقتله....
وقال عليه السلام مرة
للمنصور: «إنّه لم يَنل أحدٌ منّا أهل البيت دماً إلّا سَلَبه الله مُلكه»،
فغضب لذلك واستشاط...وهناك مواقف أخرى كثيرة لا يسع المقام ذكرها.
* ثالثاً، الدور العلمي
الأساسي للصادق عليه السلام: قبل التطرّق إلى
الجوانب الأساسية في دور الإمام الصادق عليه السلام الفكري نقتطف بعض الأقوال
والشواهد على أهمية دوره وموقعه ونشاطه العلمي آنذاك.
1) لقد كان الإمام الصادق عليه السلام «يمثل
العقيدة الدينية التي يُقاس بفضائلها عملُ الحكّام في الإسلام. وهو بوجهٍ خاصّ حجرُ
الزاوية من صرح (أهل البيت)، وهو مقيمٌ في المدينة، يتحلّق فيها المتفقّهة، حول
علماء الإسلام في مسجد الرسول..». [عبد الحليم الجندي، الإمام جعفر الصادق]
2) «يُنقل عن الصادق عليه
السلام من العلوم ما لا يُنقل عن أحد، وقد جمع أصحاب الحديث أسماء الرواة من
الثقاة (الذين حدّثوا عنه) على اختلافهم في الآراء والمقالات، وكانوا أربعة آلاف
رجل». [العلامة
المجلسي، بحار الأنوار]
3) «لا يفوتنا أن نشير إلى أنّ الذي تزعّم تلك
الحركة هو المسمّى بالإمام الصادق، وهو رجلٌ رحبُ أفقِ الفكر، بعيدُ أغوارِ العقل،
ملمٌّ كلّ الإلمام بعلوم عصره، ويُعتبر في الواقع أول من أسّس المدارس الفقهية
المشهورة في الإسلام، ولم يكن يحضر حلقته العلمية أولئك الذين أصبحوا مؤسّسي
المذاهب الفقهية فحسب، بل كان يحضرها طلاب الفلسفة والمتفلسفون من الأنحاء
القاصية».
[السيد مير علي الهندي، مختصر تاريخ العرب]
4) نُقل عن ابن خلدون قوله: «ولو صحّ السند
إلى جعفر الصادق لكان نِعْمَ المستند من نفسه أو من رجال قومه، فهم أهل الكرامات،
وقد صحّ أنه كان يحذّر بعض قرابته بوقائع تكون لهم فتصبح كما يقول». [عبد الحليم الجندي، الإمام
جعفر الصادق]
5) وُنقل عن تلامذة
الصادق عليه السلام: «كان تلاميذ الصادق مدوّنين كباراً.. ومن بعد وفاة الصادق في
عام 148 للهجرة، دوّن أربعة آلاف من التلاميذ في كلّ علومه، ومن جملتها ما يسمّى
بالأصول الأربعمائة.. وتلاميذ الصادق المشهورون من كبار أهل السنة أشياخ للفقهاء
في جميع المذاهب وشُرّفوا بالرواية عنه، ووقفت المذاهب الأربعة موقف الإجلال
له..». [المصدر
السابق]
6) وعن زمان الإمام الصادق عليه السلام
يُنقل: «وقد ظهرت فجأة حركة علمية غير عادية، والأرض تهيّأت لأن يعرض كلّ إنسان ما
يملك من أفكار، وظهرت بوادر معركة عقائدية حامية، وشُرع في البحوث حول تفسير
القرآن وقراءة آياته، وظهرت طبقات منتشرة باسم الفقهاء، وكل هؤلاء قد واجَهَهم
الإمام عليه السلام: جعفر بن محمد الذي ملأ الدنيا علمُه وفقهه». [الشهيد مطهري، سيرة
الأئمة الأطهار]
نكتفي بما نقلنا عن
مصادر مختلفة لنكتشف أهمية الدور الفكري والعلمي الريادي للصادق عليه السلام... ويمكننا،
ممّا تقدّم، استنتاج النقاط التالية حول دور الإمام الصادق عليه السلام:
1) شخصية الصادق عليه السلام مرموقة عند كلّ
المسلمين من دون استثناء.
2) ما كان الصادق عليه السلام ليؤدي هذا
الدور لكونه شخصية عادية ولا لكونه صاحب مذهب نُسب إليه، وإنما هو حلقة في سلسلة
الأئمّة الاثني عشر المعصومين عليهم السلام. ولو نُسب إليه المذهب الجعفريّ فإن
النسبة مجازية لأنه أكمل دور آبائه وأجداده عليهم السلام.
3) إنّ الصادق عليه السلام بحرٌ من العلوم
بمختلف أنواعها، ولذا كانت الروايات المستفيضة عن تعليمه ومناظراته ورسائله في
مختلف المجالات.
4) لم يقتصر دور الصادق عليه السلام العلمي
على تلامذته وخواصّه، وإنمّا كان غايته إيصال الفكر الرسالي إلى الأمّة جمعاء.
5) إنّ فضله العلمي البارز لواضحٌ من حاجة
الكلّ إليه واستغنائه عن الكلّ، فلم يتتلمذ الصادق عند أحدٍ من علماء عصره سوى ما
أخذه عن أبيه الباقر وجدّه زين العابدين عليهم السلام.
6) إن روايته كانت عن رسول الله صلّى الله
عليه وآله، مباشرةً، من دون أن يحتاج لأن يُسأل عن السند، لأنّ سنده في الروايات -
إن احتاج إلى سند - هم آباؤه المعصومون؛ أبوه محمّد عن جدّه زين العابدين عن
الحسين عن عليٍّ أو الزهراء عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم.
7) إنّ الصادق عليه السلام قد أمر بتدوين
الحديث، فكان بحقّ أوّل مَن أمر بالتدوين.
8) لقد أعاد الصادق عليه السلام بدوره العلمي
والفكري - وإكمالاً لنهج أبيه الباقر - الاعتبار لموقعية أئمّة أهل البيت عليهم السلام،
ودورهم الطبيعي في الحياة الإسلامية العامّة، بعد فترة من الظلم والاضطهاد
والإجحاف والإبعاد والإلغاء امتدت طيلة العهد الأمويّ، كما تجدّدت محاولات أخرى
قام بها العباسيون في الفترات اللاحقة لإلغاء هذا الدور الإلهي النبويّ التوحيديّ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* نقلاً عن الموقع
الإلكتروني «مركز مطالعات شيعه»