رياضة
النَّفْس
قوامها الزهد والعبادة وغايتها العرفان
ــــــــــــــــــــ
ابن ميثم البحراني ــــــــــــــــــــ
كتاب (شرح مائة كلمة
لأمير المؤمنين عليه السلام) للعالم الربّاني الفقيه المتكلّم الشيخ ميثم بن علي
البحراني، المتوفّى سنة 679 هجريّة، وصاحب الشروحات المتعدّدة على (نهج البلاغة)، يتضمّن
– مضافاً إلى شرح مائة حديث لأمير المؤمنين عليه السلام – مباحث مهمّة في المسائل
العرفانية والأخلاقية، ولذلك أطلق عليه بعض العلماء اسم (منهاج العارفين في شرح
كلام أمير المؤمنين عليه السلام).
هذه المقالة، مختصرة
عن الفصل الرابع من الكتاب، ويشرح فيها المؤلّف معاني الزهد والعبادة والعرفان،
والعلائق فيما بينها، ليخلص إلى بيان غاية العارف من عرفانه.
«شعائر»
لمّا كان الكمالُ
الذاتيّ للسالكين إلى الله عزّ وجلّ إنّما هو إشراقُ نور الحقّ تبارك وتعالى في سرائرهم،
لا جَرَم لزِم طالبَ ذلك الكمال في ابتداء أمره أن يُعرض عمّا يشغله عن المطلوب من
متاع الدنيا وطيّباتها، وصاحبُ هذا الإعراض يختصّ باسم «الزاهد».
ثم يلزمه أن يواظبَ
على ما يعتقد أنه مقرّبٌ إلى الحقّ من أفعال مخصوصة هي العبادات؛ كالصيام والقيام،
وبهذا الاعتبار يختصّ باسم «العابد».
فإذا وجد الحقّ؛ فأوّل
درجات وجدانه هو المعرفة، وحينئذٍ يختصّ باسم «العارف».
ثمّ إنّ الزهد
والعبادة من الأمور المتمّمة لأغراض المعنى المسمّى بـ«الرياضة»؛ وهي - في
اللّغة - تمرين البهيمة على الحركات التي يرتضيها الرائض بحسب مقتضى أغراضه، ويستلزم
ذلك منعها عن الحركات التي لا يرتضيها.
ولما كانت النفس
الحيوانية التي هي مبدأ الإدراكات والحركات الحيوانية قد لا تكون مطيعةً للنفس
العاقلة بأصل جِبِلّتها، لا جَرَم كانت بمنزلة البهيمة التي لم تروَّض، تقودها
الشهوة تارةً والغضب أخرى بحسب إثارة الوهم والمتخيّلة لها عمّا يتصوّرانه إلى ما
يلائمهما، فتتحرّكُ حركات مختلفة حيوانية بحسب اختلاف تلك الدواعي؛ فتستخدم حينئذٍ
القوة العاقلة في تحصيل أغراضها، فتكون هي «الأمّارة بالسوء».
أما إذا قويت النفسُ
العاقلة على قهر تلك القوة ومنْعها عن الحركات والأفعال الباعثة للقوة الشهوية
والغضبية، وطوّعتها بحسب ما يقتضيه العقل العمليّ، إلى أن تصير متأدّبة في خدمتها
مؤتمرة بأوامرها منتهية عن مناهيها، كانت العاقلة هي «المطمئنّة» التي تصدر
عنها الأفعال المنتظمة، وكانت باقي القوى بأسْرها مؤتمرة مستخدَمة منقادة.
ثمّ إنّ بين كون هاتين
القوّتين غالبة ومغلوبة مطلقاً حالة تكون القوة الحيوانية فيها متابِعةً لهواها
خارجة عن طاعة القوة العاقلة، ثم تفيء إلى الحقّ وتلوم نفسها على ذلك الانهماك
فتسمّى «لوّامة». وإلى القوى الثلاث أُشير في الكتاب العزيز:
- ﴿.. إِنَّ
النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ..﴾. (يوسف:53)
- ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ
الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ..﴾. (الفجر:27-28)
- ﴿وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ
اللَّوَّامَةِ﴾. (القيامة:2)
فإذاً، الرياضة هَهنا
نهيُ النفس عن هواها وأمرُها بطاعة مولاها، وإليهما أُشير في التنزيل الإلهيّ: ﴿وَأَمَّا
مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى﴾. (النازعات:40)
وأما متمّماتها، فإنه
لما كان الغرض الأصليّ منها هو نيل الكمال الحقيقيّ، وكان ذلك النيل موقوفاً على
حصول الاستعداد له، وكان ذلك الاستعداد مشروطاً بزوال الموانع، وكانت الموانع
داخلية وخارجية، كان ذلك الغرض مستلزماً لأمورٍ ثلاثة:
أحدها:
إزالة ما عدا الحقّ الأول تعالى عن الوجهة المقصودة؛ إي إزاحة ما عداه سبحانه عن
سواء السبيل، وهي الموانع الخارجية.
الثاني:
تطويع النفس الأمّارة للنفس المطمئنّة لينجذب الخيال والوهم إلى الجنبة العالية
مستتبعين لسائر القوى الحيوانية، وهي الموانع الداخلية.
الثالث:
إعداد النفس لأن تتمثّل فيها التجلّيات القدسية.
ثمّ لما كان لهذه
الأغراض متمّماتٌ وأمور تُعين عليها، لا جَرَم كان الزهد الحقيقيّ ممّا يُعين على
الغرض الأول، والعبادات الشرعية ممّا يُعين على الغرض الثاني.
والزهد الحقيقيّ هو إعراض
النفس عمّا يُشغل سرّها عن التوجّه إلى القبلة الحقيقية؛ وظاهرٌ كونه معيناً على
الغرض الأول.
وأما كون المواظبة على
العبادات معيناً على الغرض الثاني فظاهرٌ أيضاً؛ لأنها رياضةٌ ما لقوى العابد
العارف المدركة والمحرّكة لتجرّها بالتعويد عن الجنبة السافلة إلى جناب القدس،
وكسر الهمّة المتعلّقة بما يضادّ الكمال الذاتيّ.
وإنما اعتبرنا الزهد
الحقيقيّ دون الظاهريّ لأنّ الإعراض عن المشتهيات البدنية إذا كان بحسب الظاهر فقط
مع ميل القلب إليها لم يُنتفع به؛ لقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «إنّ اللهَ
لا ينظرُ إلى صوَرِكم ولا إلى أعمالكم، ولكنْ ينظرُ إلى قلوبكم». نعم، وإنْ
كان لا بدّ للسالك في بادئ الأمر من الزهد الظاهريّ، لأنّ الزهد الحقيقيّ مشروطٌ
به أولاً.
أما العبادات فأجَلُّها
ما كان مشفوعاً بالفكر المناسب، وفائدة ذلك أنّ الغرض من العبادة تذكُّر المعبود
الحقّ، وذلك ممّا لا يتأتّى إلا بالفكر، فلا جَرَم وجوب كونها مشفوعةً به... وإنْ
كان لتلك الأغراض متمّمات أُخَر ومعينات؛ كالكلام الواعظ من قائلٍ زكيّ معتقَدٍ
فيه، والألحان المناسبة البريئة عن التعوّد بمخالطة اللذّات الخسيسة، وعن الإيقاع
في مجالس الأنذال واجتماعاتهم، وغير ذلك ممّا هو مذكورٌ في مظانّه.
غاية
العارف الحقيقيّ
الزهد والعبادة عند
غير العارف معاملتان؛ أما الزهد فلأنّ مطلوب غير العارف منه أن يشتري بمتاع الدنيا
متاع الآخرة. وأما العبادة فلأنّ غرضه منها أن يأخذ الأجرة عليها في الآخرة.
وأما غرض العارف من
الزهد، فالتفاتُ القلب عمّا سوى الله سبحانه؛ لئلّا يمنعه من الاستغراق في محبّته،
وترك أخسّ المطلوبَين لأشرفهما واجبٌ في أوائل العقول.
وأما من العبادة، فأنْ
تصير القوى البدنية مروّضةً تحت قياد النفس في توجّهها إلى مطلوبها الأصليّ من
الاستغراق في بحور الجلال، لئلّا يمنعها عن ذلك بالاشتغال بالأمور المضادّة له.
وأما غرضه من عرفانه
فليس إلا الحقّ تبارك وتعالى لِذاته لا لغيره، حتّى العرفان؛ فإنه أمرٌ إضافيّ
يقال بالنسبة إلى المعروف، فهو مغايرٌ للمعروف لا محالة، فلو كان غرَض العارف نفس
العرفان لم يكن من مخلصي التوحيد؛ لأنه قد أراد مع الحقّ غيره، وهذه حال المتبجّح
بزينةٍ في ذاته.
فأما مَن عرف الحقّ
وغاب عن ذاته (الإنسانية)، فهو لا محالة غائبٌ عن العرفان واجدٌ للمعروف فقط، وهو
السابحُ لجّة الوصول.