التَّخلُّق
بأخلاق الله
قراءة في التصوّف الحقّ
ـــــــــــــــــــــــــ
العلامة الشيخ محمّد جواد مغنية* ـــــــــــــــــــــــــ
أقام المجلس الأعلى
لرعاية الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية في الجمهورية العربية المتحدة مهرجاناً
دولياً للغزالي في الذكرى المئوية التاسعة لميلاده، واستمرّ المهرجان في جامعة
دمشق من 27 إلى 31 آذار سنة 1961، وقد انتدبتني الحكومة اللبنانية لأمثّلها فيه،
فألقيتُ في اليوم الأول كلمة موجزة باسم لبنان وحكومته، وفي اليوم الثالث ألقيت
محاضرة في «نظرية المعرفة وحقيقة الكشف عند الغزالي».
ثمّ رغب إليّ رئيس
الجامعة اللبنانية الأستاذ فؤاد إفرام البستاني أن أكتب محاضرة في التصوّف، لتُلقى
في ندوة الجامعة بحضور أساتذتها وتلاميذها. وكنتُ قبل أن أتصدّى للكتابة في التصوّف
أسخر منه، وممّن يراه شيئاً مذكوراً، وبعد أن درسته وتفهّمته على حقيقته، آمنتُ
بأنّ من يسيطر على نفسه ويسير بها في سبيل النُّبل والرفعة، لا بدّ أن يبلغ
المعرفة بالله تعالى وبالخير، أو قل: إنّ مَن اتّقى الله حقّ تقاته يؤيّده بروحٍ
منه، ويهديه سبيل الرشاد.
إنّ أصل التصوّف الحقّ
هو التخلّق بأخلاق الله، وثمرته معرفته سبحانه، والاتّصاف بالحكمة التي وصف اللهُ
بها الأنبياء والأولياء، وصرّحت بها الآية 12 من سورة (لقمان): ﴿وَلَقَدْ آَتَيْنَا
لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ..﴾، والآية 269 من سورة (البقرة): ﴿..وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ
فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا..﴾.
وبالتالي، فإنّ الإيمان
بالحقّ والخير ضرورة لا غنى عنها للإنسان، ولهذا الإيمان سُبل شتّى، وأكملُها
التجرّد والعمل لوجه الحقّ والخير.
قد يظنّ أنّ التصوّف
طريقة تدعو إلى ترويض النفس على الفقر والمسكنة، ولبس المرقّعات، وحمل المسابح،
وترك الكسب والعمل لتحصيل العلم والعيش، والإقبال على ذكر الله في الخلوات
والحلقات. ولا مصدر لمَن فسّر التصوّف بذلك إلّا أنّه رأى فئة من الكسالى تحترف
العيش عن هذه السبيل، ثم تتستّر بذكر الله تعالى، واسم التصوّف.
وقد ذكر له تعاريف شتّى
أنهاها بعضهم إلى نيّفٍ وسبعين تعريفاً، ومهما يكن فنحن نشير إليه بأنّه الانتصار
على النفس، والتغلّب على ميولها وأهوائها عن طريق التدريب والتهذيب، تماماً كترويض
الحيوان المفترس على الوداعة، فيصبح وادعاً مسالماً بعد أن كان شرّيراً مخاصماً.
أمّا الغاية المقصودة
من التصوّف، فتختلف تبعاً لأنظار المتصوّفين، فمَن اعتبره سبباً من أسباب المعرفة
فتكون الغاية عنده ثقافية، ومن رآه طريقاً إلى الكمال فتكون الغاية أخلاقية، ومَن
اتّخذه وسيلة للخلاص من عذاب الآخرة فتكون دينية، وبعضهم يرى التصوّف سبباً لهذه
مجتمعة.
وعليه، فالتصوّف الذي
هو نوعُ مجاهدةٍ للنّفس ومراقبتها، والإقبال على الله وعمل الحقّ فهو من صميم الإسلام،
بل سمّاه النبيّ صلّى الله عليه وآله بالجهاد الأكبر..
وأما إذا كان بمعنى
الاتّحاد والحلول، فهو كفرٌ وإلحاد. وكذا ما كان من نوع الشعوذة والسِّحر، وادّعاء
عِلم الغيب والكرامات، فهو فسقٌ ونفاق، وقد جاء من طرق الشيعة أحاديث كثيرة في ذمّ
التصوّف والمتصوّفين بهذا المعنى، وأنّ الصوفية قطّاع طريق المؤمنين، والدعاة إلى
نِحلة الملحدين، وهم حلفاء الشيطان، ومخرّبو قواعد الدين، يتزهّدون لراحة الأجسام،
ويتهجّدون لصيد الأنام، ولا يتبعهم إلّا السفهاء، ولا يعتقد بهم إلّا الحمقاء. (انظر:
مستدرك الوسائل: 11/380، ح 13308)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* مختصَر عن كتابه
رحمه الله (نظرات في التصوّف والكرامات)