هل الصحابة كلّهم عُدول؟
ــــــــــــــــــــ
الشيخ محمود أبو ريّة* ــــــــــــــــــــ
إنّ القول بعدالة جميع
الصحابة أمرٌ خطير، كَثُر الكلام فيه، وطال المِراء حوله في كلّ العصور، فهو من أجل
ذلك يستحق الاهتمام، ويحتاج إلى العناية حتى يعتدل الرأي فيه، ويزول الاختلاف عليه.
لقد اختلف المسلمون في هذه العدالة اختلافاً كثيراً، على حين أنها في نفسها قضية مسلّمة
فصَل القرآن والرسول فيها، وهي بذلك لا تدعو إلى الخلاف، ولا تفتقر إلى جدال، وهل يصحّ
في قضيةٍ فصل القرآن والرسول فيها أن يدور حولها خلافٌ أو جدال؟
لقد غلا فيها قومٌ حتّى
قضوا بعدالتهم جميعاً؛ حتّى مَن انغمس منهم في الفتنة أو نزل الكتابُ بنفاقه، بحيث
لا يجوز أن يوجّه إلى واحدٍ منهم نقد، أو تقابَل روايته بشكّ، ومَن فعل ذلك فقد فسق!
وهذا لَعَمرُك إسرافٌ في الثقة، وإفراطٌ في التقدير، ثمّ هو غير ذلك يتعارض مع ما جاء
في الكتاب والسنّة من الأدلة القوية، ولا يتّفق والطبائع البشرية.
فممّن جعلوهم من الصحابة
مَن لَمَزَ النبيّ صلّى الله عليه (وآله) وسلّم في الصدقات، ومنهم من آذاه وقال: ﴿هو
أُذُن﴾، ومنهم من اتّخذوا مسجداً ضراراً وكفراً وتفريقاً بين المؤمنين، ومنهم مَن كان
في قلبه مرض، ومنهم المعوِّقون، ومنهم الذين اعتذروا في غزوة تبوك وكانوا بضعة وثمانين
رجلاً، وحلفوا للنبيّ، فنزل فيهم قرآنٌ يكذّبهم (التوبة:95-96)، وفي هذه الغزوة هَمَّ
أربعة عشر منافقاً أن يقتلوا رسول الله في ظلمات الليل عند عقبةٍ هناك.
ثمّ إنّ القول بعدالة جميع
الصحابة، وتقديس كُتب الحديث يرجع إليهما كلّ ما أصاب الإسلام من طعنات أعدائه، وضيق
صدور ذوي الفكر من أوليائه! ذلك بأنّ عدالة جميع الصحابة تستلزم ولا ريب الثقة بما
يَروون، وما رووه قد حملته كتبُ الحديث بما فيه من غثاء - وهذا الغثاء هو مبعث الضرر
وأصل الداء. ولو نحن ذهبنا نُحصي الأضرار التي أصابت المسلمين من وراء ذلك لطال بنا
سبيل القول - فنكتفي ببيان ضررين فحسب:
أولهما:
ذلك الخلاف الشديد الذي ضرب في مفاصل الأمّة وأعرق بين المسلمين، فمزّق صفوفهم وجعلهم
فرقاً متباينة، ومذاهب مختلفة، إنْ في العقائد، أو في العبادات، أو في المعاملات، وعلى
كثرة الذين عملوا على جمع شمل المسلمين في مئات السنين - لكي يعتصموا بحبل الله جميعاً
ولا يتفرّقوا - فإنّ سوس الخلاف لا يزال، ولن يزال ينخر في عظْم الأمة الإسلامية، وهذا
أمر مشهور غير منكور.
وثانيهما:
ما يوجَّه كلّ يوم إلى الإسلام من طعنات دامية بسبب ما يوجد في كتب الحديث من روايات
تحمل الخرافات والجهالات، وغير ذلك ممّا لا يقبله عقلٌ صريح، ولا يؤيّده علمٌ صحيح،
ولا خلاف بأن الذين رووا هذه الأحاديث المشكلة إنما هم الصحابة، ثمّ تلقّاها الرواة
عنهم ودوّنها رجال الحديث في كُتبهم.
فإذا نحن رفعنا صوتنا وقلنا:
إن البلاء الذي يصيب الإسلام إنما يرجع إلى أمرين: عدالة الصحابة المطلقة، والثقة العمياء
بكُتب الحديث التي تجمع بين الغثّ والسمين، فإننا لا نبعد ولا نتجاوز الحقيقة. ولو
نحن سلكنا السبيل القويم، والتزمنا الحجّة الواضحة، واتّبعنا منطق العقل واتّخذنا المنهج
الذي اتّخذه علماء العصر في دراستهم للأمور غير متأثّرين بأيّ أثرٍ تقليديّ أو عاطفيّ؛
سواء في دراستنا لشخصيات الصحابة أو في ما رووه، لَبدا وجهُ الحق واضحاً، ولَظهر نور
الإسلام ساطعاً، ولَاعْتَصم المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها بحبل الله متّفقين غير
متفرّقين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*
محقّق أزهري توفّي سنة 1970م، والمقال مختصَر من كتابه (أضواء على السنّة
المحمّدية)