غير
مقصورة على القول باللّسان
ضابط الغِيبة المحرّمة وموارد جوازها
ـــــــــــــــــــــــــ
المحقّق الشيخ عليّ بن الحسين الكركي* ـــــــــــــــــــــــــ
«الغِيبة» هي ذِكرُ الغير بما يكرهه. رُوي أنّه
صلّى الله عليه وآله قال: «الغِيبةُ أنْ تذكرَ في المرءِ ما يكرهُ أنْ يَسمع».
قيل: يا رسول الله،
وإنْ كان حقّاً؟
قال: «إنْ قلتَ باطلاً فذلك البُهتان».
* ولا ريب أنّ الغِيبة
غير مقصورة على القول باللّسان، والقول باللّسان غير مقصور على الصريح، فإنّ
الإشارة باليد والرأس والعين وما جرى مجراها إذا أفادت عيبَ الغير وتنقّصه عُدّت
من الغِيبة. وكذا حكاية حركاته ومشيته، وما جرى هذا المجرى.
* وكذا التعريض به،
مثل: «أنا لا أحضر مجلس الحكّام»، «أنا لا آكلُ مالَ الأيتام»، مشيراً بذلك إلى أن
زيداً مثلاً يفعل هذا.
* ومثل ذلك أن يقول: «الحمد
لله الذي نزّهنا عن كذا»، مريداً مثل ذلك فهو غِيبة، وإنْ كانت صورته صورة الشكر.
* ومن ذلك قول القائل
عن غيره: «لو فعل كذا لكان خيراً، ولو لم يفعل كذا لكان حسناً».
* ومنه تنقّص مستحقّ
الغِيبة لينبّه به على عيوب شخصٍ آخر غير مستحقٍّ لها.
* وكذا لو ذمّ نفسه
بطرائق غير محمودةٍ فيه، أو ليس متّصفاً بها، لينبّه على عورات غيره.
* وضابطُ الغِيبة
المحرّمة: ما يكون الغرضُ منها التفكّه بعِرض** الغير، وليس مقصوداً به
غرَضٌ صحيح، فلذلك استثنى العلماء مواضع ستّة، وألحق بعضهم بها سابعاً:
الأول:
أن يكون المقول فيه مستحقّاً لذلك، لا
حرمةَ له لتظاهره بالمحرّم كالفاسق متظاهرٍ بفِسقه، مثل شارب الخمر المتظاهِر به،
والظالم المنتهِك بظلمه، فيجوز ذكرُه بذلك الذي هو فيه لا بغيره، لما روي من أنه: «لا
غِيبةَ لفاسق»...
الثاني:
شكاية المتظلّم، فلا تعدّ غِيبة، وقد وقع ذلك بحضرته صلّى الله عليه وآله، مثل قول
المرأة عن زوجها: «هو رجلٌ شحيح». (روي في هند تشكو أبا سفيان عند النبيّ صلّى
الله عليه وآله)
الثالث:
نصيحة المستشير في نكاح، أو معاملة، أو مجاورة، أو غيرها... ويجب الاقتصار على
موضع الحاجة، ولو اقتضت المصلحة التحذير والنصيحة ابتداءً ولم يستدعِ الغير
بالإشارة فلا فرق بينه وبين الأول، وربما يجب ذلك إذا كان الضرر متوقّعاً.
الرابع:
الجَرح والتعديل للشاهد والراوي، ولذلك وضع العلماء كتب الرجال، وقسّموهم إلى ثقات
ومجروحين، وذكروا أسباب الجَرح في كثيرٍ من المواضع. ويجب رعاية الإخلاص في ذلك،
بأنْ يقصد به حِفظ أموال المسلمين، وصيانة الفروج، وضبط السنّة المطهّرة وحمايتها
عن الكذب. ولا يكون الباعث على ذلك العداوة والتعصّب. ويجب الاقتصار على ما يحصل
به الغرَض من القدح فيه بما يمنع من قبول الشهادة والرواية منه، دون ما زاد على
ذلك.
الخامس:
ذِكرُ المبتدعة وتصانيفهم الفاسدة وآرائهم المضلّة، وَلْيَقْتصر على ما يحصل به
المطلوب في ذلك شرعاً، ومَن كان منهم عدوّاً لأهل البيت عليهم السلام، فلا حَرَجَ
في ذكر معايبهم وقبائحهم، والقدح في أنسابهم وأعراضهم بما هو صحيحٌ مطابقٌ للواقع
تصريحاً وتعريضاً... كمعاوية، وعمرو بن العاص، والوليد بن المغيرة وأمثالهم، ولا حَرَجَ
في تكرار ذلك والإكثار منه في المجالس لتنفير الناس منهم، وتطهير قلوب الخَلْق من
الاعتقاد فيهم والموالاة لهم بحيث يبرؤون منهم. وكذا لَعْنُهم والطعن فيهم على
مرور الأوقات مع مجانبة الكذب...
وأما ما يصدرُ عن أهل
الحقّ وعلماء الدين في المسائل الباطلة والآراء الفاسدة فيجوز ذِكرُه والقدحُ في
صحّته وبيان دلائل بطلانه، ولو استدعى المقام التشنيع على قائله والخشونة في ردّه
لِفَطْم النفوس من الاعتقاد به، جاز. ويجب في ذلك تخليص النيّة عمّا عدا قَصْدِ وجهِ
الله تعالى، وإظهار الحقّ، وصيانتها عن مخالطة سبب العداوة والحسد.
ولو كان ثمّ مقالة
متروكة وقد انقرض القائلُ بها ولا قائلَ بها الآن، ولا يتوقّع ذهابُ أحدٍ إليها،
ولا حصولُ مفسدةٍ بسببها، فإنّ ترك التعرّض إلى ذكر قائلها أولى وأحرى، فإنّ السّتر
بستر الله تعالى من الأمور المطلوبة شرعاً.
السادس:
القذفُ بما يوجب الحدّ والتعزير من الشهود الذين يثبت بشهادتهم أحدُ الأمرين، وكذا
القذف من الزوج الموجب للّعان. كلّ ذلك في مجلس الحاكم، لما في ذلك من فائدة دفع
هذا النوع من المفاسد، ولوقوع ذلك في مجلس النبيّ صلّى الله عليه وآله، ولم ينكره.
وأما السابع:
فقد قيل إنه إذا علم اثنان من شخصٍ معصية بمشاهدة ونحوها فتذاكراها في ما بينهما،
جاز، لأنّ ذلك لا يؤثّر عند كلٍّ منهما شيئاً زائداً على ما هو معلومٌ لهما، ولا
زيادةَ هَتْكٍ لِعرضه. والأولى التنزّه عن ذلك؛ لأنّهما مأموران بالسّتر، وربّما
وقع ذلك بعد عروض النسيان لأحدهما، أو كان سبباً لاشتهاره.
فائدة:
ينبغي أن يعتبر في الغِيبة كون المذكورِ عنه محصوراً، فلو ذكر أهل بلدة كبيرة أهلُها
غير محصورين كبغداد، أو طائفة غير محصورين كبني تميم، بمكروه، لم يعدّ ذلك غِيبةً
شرعاً لانتفاء تَشَخُّصِ مَن تَعَلَّقَتْ به، وانتفاء هَتْك العِرض بذلك من حيث
عدم انضباطهم بحيث يلزم تعلُّق القول بأحدٍ منهم على التعيين، ولذلك لا تُقبل
الشهادة على غير المحصور بنجاسة ونحوها من الآدميّين وغيرهم، كالثياب والجلود
ونحوها. ولو كانت الشهادة على النفي لم تسمع، لعدم ضبطه فلا يتعيّن أحد الأفراد
لتعلّق الشهادة به. والحمد لله ربّ العالمين وصلّى الله على محمّدٍ وآله وسلّم
تسليماً كثيراً.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* (رسائل المحقق الكركي المتوفّى سنة 940
هجريةـ: ج2/ ص 41-49، مختصَر)
** المقصود
بـ«العِرض»، «حُرمة الشخص»، وهو أعمّ من العنوان الأخلاقي المعروف، فكلّ ما يمسّ
بشرف الرجل وسُمعته ومنزلته بين الناس، فهو عِرضُه؛ بمعنى حُرمته وكرامته وماء
وجهه.