تحقيق

تحقيق

منذ يومين

المشهد العلويّ المقدّس في النجف الأشرف

 

السلامُ على ضَجيعَيك آدمَ ونوح، وجارَيْك هودٍ وصالح..

المشهد العلويّ المقدّس في النجف الأشرف

ــــــــــــــــــ د. كريم الأسدي ـــــــــــــــــ


* نظر أمير المؤمنين الإمام عليّ عليه السلام إلى ظهر الكوفة، فقال: «ما أحسنَ منظرَكَ... اللّهم اجعَلْهُ قبري..»، بهذه الكلمات تأطّرت النجف قبل تأسيسها، وخُلقت قبل ولادتها في عالم الغَيب وقدسيّة الإمامة الطاهرة.

* من أرضٍ نِجافٍ كالمسنّاة تصدّ الماء، إلى مدينة عامرة تنضح بالخير والبركة والعطاء.. من أطلالٍ دارسةٍ تعصف بها صرصرُ الرياح إلى حاضرةٍ زاهيةٍ بأفكار العلماء ومجالس الذاكرين... من (ظَهْر الكوفة) و(نَجَف الحِيرة) إلى (حِيرة النجف) و (طُهر الكوفة)... غلبتِ المكانَ وتحدّتِ الزمان.

* هذا التحقيق خلاصة دراسة مفصّلة للباحث العراقي الدكتور كريم مرزة الأسدي بعنوان: «تاريخ مرقد الإمام عليّ عليه السلام، والأطوار المبكرة للنجف الأشرف»، من إصدارات مكتبة الروضة الحيدرية.

«شعائر»

 

النّجَف – أو النّجَفة: موضعٌ من الأرض مرتفعٌ مشرفٌ على ما حوله ولا يعلوه الماء. و«نجفُ الكوفة» هو الموضع الذي دُفن فيه أمير المؤمنين الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام. وللنَّجف الأشرف عدّة أسماء، لكنّ المتداول منها اليوم «وادي السّلام» من باب تسمية الكلّ بالجزء، وهي جبّانة النجف، و«الغَرِيّ»، كثيراً ما ترد في النصوص الأدبية.

 ويُطلق أحياناً على النجفيّين «المَشاهِدَة»، وعلى النجفيّ «المَشْهَدِيّ»، ولا تطلَق على غيرهم من سكّان العتبات المقدسة. وربما قيل «المشهدان»، يُراد به النجف الأشرف وكربلاء المعظّمة.

تأسيس مدينة النجف

كانت شهادة أمير المؤمنين الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام في ليلة إحدى وعشرين من شهر رمضان سنة 40 هجريّة؛ فارتفعت الصيحة في داره؛ وأقبل الرجال والنساء يهرعون أفواجاً أفواجاً، وارتجّت المدينة بأهلها وعلا البكاء والنحيب، وكثُر الضجيج بالكوفة وقبائلها ودُورها وجميع أقطارها؛ كما هو الحال عند وفاة النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم.

يذكر السيّد ابن طاوس في (فرحة الغريّ) أنّ أمير المؤمنين كان قد أمر ابنه الحسن عليهما السلام «أن يحفر له أربعة قبور في أربعة مواضع: في المسجد، وفي الرحبة (قرب منزله)، وفي الغَرِيّ، وفي دار جعدة بن هبيرة، وإنّما أراد بهذا أن لا يعلم أحدٌ من أعدائه موضع قبره».

وينقل السيّد محسن الأمين في (أعيان الشيعة): «أنّ عليّاً عليه السلام لمّا قُتل؛ قصد بنوه أن يخفوا قبره خوفاً من بني أميّة أن يُحدثوا في قبره حدثاً، فأوهموا الناس في موضع قبره».

ويؤكّد الشيخ المفيد في (الإرشاد) أنّ الإمامين الحسن والحسين عليهما السلام «حملاه إلى الغَرِيّ من نجف الكوفة فدفناه هناك، وعَفَيا موضع قبره بوصيّةٍ كانت منه عليه السلام».

وقال الطبريّ في (تاريخه): «غسّله ابناه الحسن والحسين وعبد الله بن جعفر... وكبّر عليه الحسن تسع تكبيرات».

يقول السيّد محسن الأمين في (أعيان الشيعة): «أمّا الشيعة فمتّفقون خلفاً عن سلف، نقلاً عن أئمّتهم - أبناء أمير المؤمنين عليه السلام - أنّه لم يدفَن إلاّ في الغَرِيّ، في الموضعِ المعروف الآن، ووافقهم المحقّقون من علماء سائر المسلمين، والأخبار فيه متواترة».

ومهما يكن من أمر، فيعتبَر ترصيص الحجر على ضريح الإمام بمثابة وضع الحجر الأساس لمدينة النجف الأشرف، التي أصبحت تلتهم الحيرة، وتُهيمن على الكوفة، وتقدَّس في العالم الإسلامي بعد مكّة المكرمة والمدينة المنوّرة.

 

 

المرقد الشريف في العصر الأموي

حاول الأمويّون جاهدين إخفاء معالم مرقد أمير المؤمنين عليه السلام، فبثّوا الروايات المتعدّدة حول مدفنه لتشتيت مركز الاستقطاب وسحق بؤرة الثورات.

 ولكنْ يحدّثنا التاريخ أنّ العلويّين والمحبّين لأهل البيت والمشايعين لهم كانوا يزورون القبر الشريف سرّاً، وربما يجاهرون إذا اقتضى الأمر، ففي أحداث السنة السابعة والستين للهجرة يذكر الطبريّ: «عن سويد بن غفلة، قال: بينما أنا أسيرُ بظهر النجف إذ لحقني رجلٌ فطعنني بمخصرة من خلفي، فالتفتُّ إليه، فقال: ما قولك في الشيخ؟

قلتُ: أيّ الشيوخ؟!

قال: عليّ بن أبي طالب.

قلتُ: إنّي أشهدُ أني أحبّه بسمعي وبصري وقلبي ولساني.

قال: وأنا أُشهِدُكَ أني أبغضه بسمعي وبصري وقلبي ولساني..»!

ينطوي هذا الخبر على أمرين مهمّين:

الأول: أنّ مدفن أمير المؤمنين عليه السلام كان يُزار سرّاً، وإذا اقتضى الأمر يُعلَن عن الزيارة والولاء بجرأة.

الثاني: كانت هناك حراسة سرّية من قبل الأمويّين تراقب الزوّار وتتعقّبهم لتسجّل الغاية من الوجود في مثل هذا المكان، واستمرّ حال التعتيم على موضع القبر، وملاحقة زوّاره حتّى قيام الحكم العباسيّ.

النجف في العصر العباسي الأوّل

كان العباسيّون في بدو أمرهم مهتمّين بالالتفاف حول المرقد العلويّ كمركزٍ لمواصلة دعوتهم واستقرار حكمهم، ولكن حين استتبّ لهم الأمر سنة 132 هجرية، تعمّدوا إهماله وصدَّ الناس عنه خشيةً من تعاطف المسلمين مع الطالبيّين وميلهم إليهم باعتبارهم ورثة النبيّ صلّى الله عليه وآله الشرعيّين.

فكان أن بادر الإمام الصادق عليه السلام، إلى زيارة الكوفة والجهر بموضع القبر الذي كان يُقصد سرّاً من قبل الموالين والعلويّين، وأذِن لبعض أصحابه بإعلام أهل الكوفة بموضعه، ونقدَه مبلغاً من المال لإصلاحه.

ويحدث تطوّر لافت للنظر في عهد هارون العباسي (170 – 193) إذ يقوم بتعمير القبّة على المرقد الشريف، وتوجد بعض الروايات تُرجع فعل هارون لدواعٍ غير مألوفة أثناء رحلة صيد إلى ظهر الكوفة، حيث كانت الفهود أو الكلاب والصقور تقف عند مكان محدّد ولا تتقدّم عليه، فيتعجّب هارون ويتساءل عن السبب، فيخبره أحد شيوخ الكوفة أنّ بهذا المكان ضريح الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام، فيأمر هارون العبّاسي ببناء القبّة!

ونحن لا نميل لهذه الرواية بالرغم من شهرتها بفهودها وصقورها، بل هي مصطنعة من هارون العباسي نفسه، ولكن نعتقد بصحّة الرواية التي يذكرها السيّد ابن طاوس في (فرحة الغَرِيّ)، ولا أعرف لماذا لم يركّز عليها المؤرّخون، في حين أنّها أقرب إلى العقل والمنطق والتحليل العلمي؟!

تقول الرواية: إنّ هارون العباسي خرج ليلاً إلى القبر الشريف، ومعه عليّ بن عيسى الهاشمي، وأبعدَ أصحابه عنه، وقام يصلّي عند الكثيب، ويبكي ويقول: «واللهِ يا ابن عمّ، إني لَأَعْرفُ حقّك، ولا أنكرُ فضلك، ولكنّ وُلدَك يخرجون عليّ ويقصدون قتلي وسلبَ مُلكي»، واستمرّ على تلك الحالة إلى أن قرُب الفجر، فصلّى صلاة الصبح عند القبر، وأمر فبُني عليه قبّة، وأخذ الناس في زيارته ودفن موتاهم حوله.

بعد هلاك هارون العباسي تعمّد ابنه المأمون عدم العناية بمرقد الإمام عليّ عليه السلام إبان فترة حكمه (198 - 218)، مردّ ذلك إلى ثورة ابن طباطبا وأبي السرايا، بعد التفاف أهل الكوفة حولهما، وكادت هذه الثورة أن تُودي بالخلافة العباسية سنة 200 للهجرة. وما فتئت الكوفة توالي أهل بيت النبيّ عليهم السلام وتناصرهم، فقامت الحركة الثانية فيها سنة 202 للهجرة، وتولّى قيادتها العسكرية أبو عبد الله أخو أبي السرايا، والزعامة الدينية عليّ بن محمّد بن الإمام جعفر الصادق عليه السلام. فهل نتوقّع من بعد هذا أن يقوم المأمون بتشييد بؤرة للثورة عليه وعلى خلافته، ويوجّه الأنظار من العباسيّين إلى العلويّين، وتجربة الإمام الرضا عليه السلام ما زالت ماثلة أمام عينيه؟

وتستمرّ النجف على هذا النحو في عهد المعتصم والواثق، ولو أنّ هذا الأخير أبدى مرونة تجاه العلويّين خلال فترة حكمه القصيرة نسبيّاً (227 – 232).

النجف في العصر العباسي الثاني

هذا العصر يبدأ منذ نفوذ الأتراك بشكلٍ فعليّ وسيطرتهم على مقاليد الحكم، مع تولّي المتوكّل للسلطة (232 – 247)، وفي عهده تمّ هدم مقام الإمام الحسين عليه السلام في كربلاء.

يقول ابن خلدون في (تاريخه): «كان المنتصر تنكّر على أبيه (المتوكّل) انحرافه عن سلفه فيما ذهبوا إليه من مذهب الاعتزال والتشيّع لعليّ، وربّما كان النّدمان في مجلس المتوكّل يُفيضون في ثلب عليّ، فينكر المنتصر ذلك ويتهدّدهم ويقول للمتوكّل: إنّ علياً هو كبير بيتنا وشيخُ بني هاشم... فيستخفّ به ويشتمه، ويأمر وزيره عبيد الله بصفعه، ويتهدّده بالقتل ويصرّح بخلعه».

ما تقدّم يشير إلى شرخٍ اجتماعيٍّ كبير، ودناءة في نفسية المتوكّل تجنح به إلى النّصب. لكنه دفع حياته ثمن ذلك بسيف ابنه المنتصر، وهو الآخر بدوره مات مسموماً بعد ستة أشهر من خلافته ليتربّع على عرش الخلافة العباسية «المستعين» بالأتراك.

ثمّ توالت الانفجارات والثورات باسم أهل البيت بشكلٍ متسارع، بدءاً من العام 248 واستمرّت قرابة أربعة عقود، ما أدّى إلى ظهور دول شيعية وعلوية ساهمت مساهمة فعّالة في نموّ النجف وازدهارها ورقيّها واستمراريتها.

فقد ظهر على الساحة في الكوفة (رجب 250) أبو الحسين يحيي الطالبي، ودعا إلى «الرضا من آل محمّد».

وفي شهر رمضان من السنة نفسها بزغ فجر الدولة العلوية بطبرستان، ويتزعّمها الحسن بن زيد العلويّ (الداعي الكبير).

وظهر في يوم عرفة منها بالريّ أحمد بن عيسى، وإدريس بن موسى العلويان، وصلّى أحمد بأهل الريّ صلاة العيد، ودعا إلى «الرضا من آل محمّد».

وما أن تطلّ سنة 251 للهجرة، حتّى «تحرّكت العلوية في النواحي» كما يقول ابن الجوزيّ في (المنتظم)، فاندلعت ثورات العلويّين في طول الدولة العباسية وعرضها إلى أن بلغت قزوين وزنجان من بلاد فارس، وصولاً إلى الإسكندرية وسائر أعمال مصر وإفريقية.

ثمّ خرج أمر المناداة باسم أهل البيت من نطاق العلويّين إلى عامّة الناس يُنادون به، وربّما ينتسبون إليهم، فصاحب الزنج يزعم أنّه من العلويّين! و«حمدان بن قرمط» زعيم القرامطة خرج من الكوفة تحت شعار الدعوة للمنتظَر من أهل البيت!

ثمّ جاء عهد المعتضد العباسي (279 - 289)، الذي انفتح على العلويّين وشيعتهم وسمح ببناء مشاهد الأئمّة والاحتفاء بها. فقد جاء عهده بعد سلسلة من ثورات العلويّين وانتفاضاتهم وحركاتهم، فكان لا بدّ من هذا الانفتاح لامتصاص غضب الجماهير وسخَطها للظّلم الذي أحاط بآل النبيّ عليهم السلام. وساعد على استمرارية هذا الانفتاح وتطويره الدول الشيعية التي توالت على العالم الإسلامي بعد عهد المعتضد كالحمدانيّين والفاطميّين والبويهيّين، عدا العلويّين في طبرستان.

 ولم يكتفِ المعتضد بهذا الانفتاح، وكأنّما أراد تأكيد نهجه، ففي سنة 284 «عزم المعتضد على لعن معاوية بن أبي سفيان على المنابر، وأمر بإنشاء كتابٍ يُقرأ على الناس بذلك، فخوّفه عبيد الله بن سليمان اضطراب العامّة وحذّره الفتنة، فلم يلتفت إلى قوله، وعُملت النسخ وقرئت بالجانِبَين... وتقدّم إلى الذين يسقون الماء في الجامع أن لا يترحّموا على معاوية ولا يذكروه».

النجف في أواخر القرن الثالث ومطلع القرن الرابع

أسّس الفاطميّون دولتهم في تونس منذ سنة 297، وامتدّت إلى مصر ثمّ الشام، وشغلت حيّزاً كبيراً في التاريخ الإسلامي حتى سنة 567 هجرية.

والحمدانيّون هم أيضاً من الموالين لأهل بيت النبيّ عليهم السلام، فيرفع حمدان بن حمدون التغلبيّ رايتهم سنة 279، وتفرض دولتهم هيمنتها على الموصل وحلب، وتستمر حتّى سنة 381.

وكذلك البويهيّون (320 - 447)، وهم أسرة فارسية مشايعة لأهل البيت عليهم السلام، استولت على بغداد مقرّ الخلافة العباسية سنة 334، وسارعوا إلى إحياء الشعائر الحسينية، والاحتفال بعيد الغدير.

وفي مثل هذه الأجواء، لا بدّ أن تزدهر مدينة النجف الأشرف، ويتسابق الخلفاء والملوك والأمراء والسلاطين على رعايتها عمرانياً واجتماعياً واقتصادياً.. واستمرّ الأمر على هذا النحو إلى منتصف القرن الخامس، إبّان قيام الدولة السلجوقية وانتقال شيخ الطائفة الطوسي من بغداد إلى النجف الأشرف، وما تلا ذلك من تأسيس الحوزة العلمية المباركة فيها إلى يومنا هذا.

اخبار مرتبطة

  إصدارات عربية

إصدارات عربية

منذ يومين

إصدارات عربية

  آداب وسُنن

آداب وسُنن

نفحات