(مناهل الرجاء) للعلّامة الشيخ
حسين كوراني
توثيقٌ
للشعائر الإلهيّة وتنمية الروح الجهاديّة
ـــــــــــــــــــــــــــ
قراءة: محمود ابراهيم ـــــــــــــــــــــــــــ
الكتاب: (مناهل الرجاء – أعمال شهر رجب)
المؤلف: الشيخ حسين كوراني
الناشر: «دار الهادي»، بيروت، 1426 هجريّة
يحضر
كتاب (مناهل الرجاء – أعمال شهر رجب) لسماحة العلّامة الشيخ حسين كوراني حضوراً
بيِّناً في الأعمال العباديّة والآداب الإلهيّة للإنسان المسلم. والكتاب الذي ينطوي
على منظومة شاملة لأعمال المؤمن في كلّ عام من شهر رجب، يشكّل وثيقة دينيّة وأدبيّة
وأخلاقيّة يُتعرّف من خلالها على روحانيّة الشرع المقدّس وأحكامه.
لعل
من أبرز فضائل استعادة مراجعة الكتاب وتقديمه للقارئ بعد أكثر من عقدَين على
صدوره، استجابته لثقافة الشعائر. فهو من ناحية في منهجه يؤدّي ما توجبه الأشهر
المباركة من أعمال، ومن ناحية ثانية، ينطلق من شهر رجب كأحد أفضل المحطات والمنازل
لعقد صلات القُرب إلى الحضرة الإلهيّة المقدسة. وهذا يعود إلى كون شهر رجب المعظّم
هو الشهر الذي استضاء فيه عالم الخلق ببعثة النبيّ الأعظم صلّى الله عليه وآله.
فالبعثة
العظيمة هي الحقيقة الإلهيّة المتميِّزة في العالم، وهي ثابتة من قبل أن يُخلق
الخلق. فكان نور المصطفى صلّى الله عليه وآله أول نور خلقه تعالى، ومنه تنبعث
أنوار أهل بيته عليهم السلام، حيث كانت هذه الأنوار محدقة بالعرش، تعرف الملائكة
عظَمتها وتشهد بنبوّة المصطفى وولاية أصفيائه من آله الأطهار.
جاء
ترتيب الكتاب متلائماً مع محتواه. لذا سنجد كيف أنّ الموضوعات المتضمّنة هي التي
افترضت الشكل المناسب لفهرسته. فقد ضمّ ثلاثاً وثلاثين من أصل ثلاث وتسعين حلقة، هي
البرنامج الدينيّ الذي تم تقديمه في «إذاعة النور» تحت عنوان «مناهل الرجاء»،
عام 1992م، وتمّت إعادة بثّه لعدّة سنوات تلت. ففي تلك الفترة كان للتوجيه الدينيّ
دور جوهريّ في رفد حركة المقاومة ضدّ الاحتلال، حيث شكّلت هذه الحلقات قيمة تعبوية
على المستويات الروحية والأخلاقية والسياسية.
الجهاد في الله والجهاد في الخلق
في
المقدمة ربطٌ وثيق بين هذه السلسلة من الحلقات، والمواجهات التي كان يسطّرها
مجاهدو المقاومة الإسلامية في جنوب لبنان والبقاع الغربيّ ضد الاحتلال الصهيونيّ.
ومثل هذا الربط هو المقصد الجوهريّ من الأعمال والأذكار والأدعية والتوكّل على
الله لتحقيق النصر. وهذه الحقيقة تؤيّدها الآيات البيِّنات كما جاء في قوله تعالى:
1-
﴿..وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ﴾. (آل عمران:126)
2-
﴿قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ.. ﴾. (الفرقان:77)
3- ﴿..إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ
وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾. (محمّد:7)
ثلاثة
مرتكزات لبناء الشخصية الجهادية
بل
إنّ مقتضى قاعدة ﴿..إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا
مَا بِأَنْفُسِهِمْ..﴾. (الرعد:11)، أن تتّجه كلّ الجهود التغييرية، وكلّ تعابير
الممانعة والاعتراض والثورة، باتّجاه بناء الشخصية بناءً سليماً، للأسباب التالية:
الأول:
أنّ عملية التغيير ليست شعاراً يُرفع، وإنما هي حالة تُعاش، وبمقدار صدق هذه
الحالة وتجذّرها يمكن أن تسري إلى الآخرين.
الثاني:
أنّ أهداف التغيير الجذريّ كبيرة إلّا على الخاشعين المؤهّلين -بحكم عميق إدراكهم
للحقيقة والفناء فيها- لحمل راية التغيير، والتضحية بالغالي والنفيس من أجل
أهدافها.
وهو
ما يوضح أنّ الذكر والعبادة والوِرد والمستحبّ والمكروه، بالإضافة إلى الواجب
والحرام، في صلب عملية التغيير والجهاد، التي هي عبارة عن مرتبة متقدّمة من إدراك
هذه المفردات والتعامل معها وعقْد القلب عليها.
الثالث:
أنّ الهدف من مواجهة الظلم والجهاد لرفع إصْره وتحطيم أغلاله عن كاهل الناس، هو بسط
ُالعدل لتأمين المناخ الأفضل لعبادة الله تعالى: ﴿الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ
فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا
بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ﴾ (الحج:41)،
فما لم يكن التغييريّون سبّاقين قبل الفتح إلى ﴿إقامِ الصّلاة﴾ بمعناه الشموليّ،
فلن يكونوا حريصين عليه بعد الفتح.
الرابع:
أنّ الجهاد العسكريّ استثناء، والعبادة هي الأصل، حيث يتّخذ الجهاد مشروعيّته حين
يتّخذ موقعه الطبيعيّ في منظومتها، وهو ما يعني أنّ الأصل في المؤمن دائماً أن
يكون عابداً ينطلق من الإيمان بالله تعالى، كقاعدة فكرية يؤسّس عليها كلّ بنيانه
الفرديّ والاجتماعيّ. ولذلك فهو عندما يسير في دروب الجهاد ويجلي في ميادينه، منتدَبٌ
لأداء هذه المهمّة باعتبارها لوناً من ألوان العبادة، يدور الجهاد مدارها، ويرجع
بعدها من الجهاد الأصغر إلى قاعدته الرئيسة، الجهاد الأكبر.
لئن
كانت الدورة العسكرية للمجاهد، محدودةً بوقتٍ، وإنْ طال، فإنّ دورة الجهاد الأكبر،
التي هي أساس بُعده العسكريّ، لا يحدّها وقت، وهي قائمة أبداً في اللّيل والنهار، إلى
أن يبلغ إحدى الحُسنيَين.
من
الضروريّ جداً التأمّل مَليّاً -كما يورد سماحة الشيخ المؤلّف- في كون المستحبّات
سياج الواجبات، والمكروهات سياجَ المحرّمات، لإدراك أنّ الحكم الشرعيّ بأقسامه إنّما
هو كيانيّة واحدة وعملية تربويّة متكاملة.
على
هذا الأساس، سيبدو لنا أنّ المنهج المعتمد في هذه الأحاديث هو بيانُ فضائل أيّام
الله المباركة، وأهمّيتها، ومحاولة استقصاء آدابها، مع وقفة متأمّلة عند بعض
الأدعية، أو بعض فقرات الروايات الواردة حول الأعمال، مراعياً في ذلك كلّه إيراد
آراء كبار العلماء الذين يُشهد لهم في هذا المجال وغيره، والمحور من بين كلماتهم
ما ورد في الكتاب المرجعيّ النوعيّ (إقبال الأعمال) لسيّد العلماء المراقبين، السيّد
ابن طاوس قدّس الله تعالى سرّه الشريف.
ولذا
فحين يعمل الإنسان في حياته على تأهيل الصِّدق في نفسه والإيثار وحبّ الناس وكفّ
الأذى، فإنّه ينمّي إنسانيّته، ويكون في صراط العبادة الحقيقيّ، وعندما يسلك هذا
الطريق سيلمس بشكلٍ واضح أنّه لا حولَ له ولا قوّة إلّا بحول الله تعالى وقوّته،
عندها تبدأ شجرة التواضع المباركة تنمو في نفسه إلى أن يعيش بكلّ ذرةٍ من قلبه وكلّ
كيانه، حقيقة الواقعية والمنطقية والموضوعية والعقلانية التي يعبّر عنها بالعبودية
لله عزّ وجلّ. وعندها سيُدرك من أعماقه أنّه عبدُ الله، وسيجد حريّته في هذه
العبودية، التي هي العبودية الوحيدة الممدوحة، لأنّها الخضوع للحقّ والانقياد له، فالإنسان
أمام الحقّ عبدٌ، والعبدُ تابعٌ لسيّده، يُطيعه في كلّ صغيرةٍ وكبيرة، بل يحرص على
تنفيذ رغباته حتّى إذا لم تصل إلى درجة الأمر والإلزام، لأنه يحبّه حتّى العبودية
له، والعبادة.
إنّ
العبد إذاً، عابدٌ للمعبود الذي يستحقّ وحده العبادة، ومَن منّا لا يحبّ الخضوع
للحقّ، والتبعية المطلقة له والعبودية التامّة بين يديه؟
ولا
شك أنّ الوصول إلى مرتبة الإنسانية بكلّ معنى الكلمة يرتبط جذرياً بالالتزام بحدود
الله تعالى، تماماً كما أن الوصول إلى مرتبة المواطن الصالح ترتبط جذرياً باتباع
القانون والالتزام الدقيق به. وقد علِم سبحانه أنّ الانسان بحاجةٍ دائمة إلى ما
ينمّي فيه جوانب الإنسانية ويحذّره من مزالق الحيوانية، حتّى لا يصبح ممّن قال
تعالى فيهم ﴿..إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا﴾. (الفرقان:44).
مقصد
الكتاب كما مرَّ معنا هو تبيين ثقافة العبادة ومرتكزاتها ووجوب إيلائها الأهمية
العظمى، سواء في ميادين الجهاد أو الحياة الاجتماعية العامّة للمؤمن. وهي ثقافة
الحكم الشرعيّ بالذات، على أن لا تقتصر على بعضه كما هو السائد من إهمال المستحبّ
والمكروه والمباح، فإذا المباح هو كلّ ما عدا الواجب والحرام، وبالمآل ما عدا
بعضهما أو الكثير منهما.