الربّ
ـــــــــــــــــــــ المحقّق الشيخ حسن المصطفوي* ـــــــــــــــــــــ
إنّ الأصل الواحد في هذه المادّة [ربّ] سَوقُ شيء إلى جهة الكمال ورفع النقائص بالتخلية والتحلية، سواء كان من جهة الذاتيّات أو العوارض، أو الاعتقادات والمعارف، أو الصفات والأخلاقيّات، أو الأعمال والآداب أو العلوم المتداولة، في إنسان أو حيوان أو نبات، ففي كلّ شيء بحسبه وبحسب ما يقتضي ترفيع منزلته وتكميل شأنه.
وهذه الحقيقة الأصلية يعبَّر عنها في مورد بـ«الإصلاح»، وفي مورد آخر بـ«الإنعام»، وفي آخَر بـ«المدبّر»، وفي موضوع بـ«السائس»، وفي مورد بـ«الاتمام»، وفي آخر بما يناسب الأصل ويرجع إليه. فهذه المعاني كلَّها من مصاديق الحقيقة.
وأمّا المالكيّة، والمصاحبة، والسيادة، والقيمومة، والزيادة، والنّماء، والعلوّ، والملازمة، والإقامة، والإدامة، والجمع، ورفع الحاجة، والتعليم، والتغذية وما يشابهها: كلّ منها من لوازم الأصل ومن آثاره، وكلّ منها في مورد خاصّ بحسب اقتضاء المقام وتناسب الموضوع.
فيقال: ربّت الأمّ ولدها، وربَّى السيّد مولاه، وربَّى المعلّم تلميذه، وربّى العارف مريده، وربّى المطر النبات، وربّى التاجر ماله، وربّى الزارع أرضه، وربّت المرضعة الطفل، وربّى زيدٌ الأمر، وربّت الربيبة مربوبتها، وربّى الصانع السّقاء، فهو رابّ، وربيب، وربّ، ورَبّان، وربّ، ورباب. وذاك مربوب ومربّي.
الربّ مضافاً
﴿..رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ الفاتحة:2، ﴿..رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ..﴾ الأنعام:164، ﴿رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ﴾ الأعراف:122، ﴿..رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ﴾ النمل:26، ﴿..رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ..﴾ الإسراء:102، ﴿..وَرَبُّ آَبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ﴾ الشعراء:26، ﴿..رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ..﴾ الشعراء:28، ﴿..رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي..﴾ النمل:91 "..": فالتربية في كلّ منها بحسب اقتضاء الموضوع، من التدبير، والنَّظم، والتكميل، والإصلاح، والتنعيم.
وقد يُطلق من دون إضافة وتقييد بشيء، فيراد مطلق التربية من جميع الجهات، كما في ﴿..بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ﴾ سبأ:15، ﴿سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ﴾ يس:58، ﴿..أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا..﴾ الأنعام:164: فالمراد مطلق التربية ذاتاً، وأخلاقاً، وعملاً، وأدباً، وعلماً، وترفيعاً.
وقريب منها ما يضاف إلى مطلق الذات من دون خصوصيّة، كما في ﴿..رَبِّ أَرِنِي..﴾ البقرة:260، ﴿..رَبِّ اغْفِرْ لِي..﴾ الاعراف:151، ﴿..رَبِّ لَا تَذَرْ..﴾ نوح:26، ﴿..ادْعُ لَنَا رَبَّكَ..﴾ البقرة:162، ﴿..وَاذْكُرْ رَبَّكَ..﴾ آل عمران:41، ﴿..فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ..﴾ البقرة:198، ﴿..عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ..﴾ غافر:27، ﴿..رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا..﴾ البقرة:127، ﴿..عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ..﴾ البقرة:5، ﴿..رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي..﴾ البقرة:258. فيراد مطلق التربية المتعلّقة بهذه الموضوعات بأيّ نحو ممكن، وفي أيّ صورة مقتضية.
وهذا بخلاف ما إذا أضيف إلى موضوع خاصّ ومفهوم معيّن كما في ﴿سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ..﴾ الصافات:180، ﴿..رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ..﴾ الشعراء:28: فيشار فيها إلى أنّ تربية العزّة والشروق والغروب والفلق، وتحوّلها إلى مراحل كمالها وسيرها إلى مراتب عالية وتدبيرها ونظمها كلّ بيد اللَّه المتعال.
ويدخل عليها ياء النسبة فيقال «رَبِّيَّ» - بالحركات الثلاث، والجمع فيها «ربّيّون» بالتحريك ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا..﴾ آل عمران:146، أي رجال لهم تربية خاصّة، ومنسوبون إلى برنامج مخصوصة حقيقيّة، ولا بدّ أن تكون هذه التربية إلهيّة روحانيّة، فإنّ التربية الحقيقيّة ليست إلَّا هي، وهذا مقتضى إطلاق الكلمة. وهذا المعنى هو المدلول الأصيل الحقيقيّ للكلمة. وقرأ بعض من القرّاء بفتح الرّاء، وبعضهم بالضمّ، ولكنّ القراءة الصحيحة هي الكسرة ليدلّ اللفظ على نوع خاصّ من التربية.
موارد المصطلح في القرآن الكريم
* ﴿..وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ..﴾ آل عمران:179، ﴿..يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ..﴾ المائدة:44، منسوب إلى الرَّبّان كالرحمن والريّان، والرّبّان هو من يكون من شأنه ومن صفته - التربية بنحو الثبوت، وإذا نُسب إليه شخص تقول ربّانيّ، أي من يكون - واقعاً تحت تربية الربّان ومتّصفاً بهذه الصفة ومنتسباً إليه من هذه الجهة وبهذا العنوان.
فالنسبة في الرَّبّي إلى التربية أوّلاً ثمّ يتوجّه إلى المربّي، وفي الرّبّان: ينسب إلى اللَّه الربّان أوّلاً ثمّ يتوجّه إلى الصفة.
والفرق بين الرَّبّان والنبيّ: أنّ الرّبّان أعمّ، فانّ النبيّ هو - الربّانيّ مع كونه مخبراً عنه ومأموراً بالإبلاغ عنه.
فظهر لطف التعبير به في مورده، وكذلك عطفه على النبيّون في الآية الثانية، وذكر جملة ﴿بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ﴾ في الأولى.
* ﴿..وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ..﴾ النساء:23، الربائب فعائل جمع فعيلة، نحو صحائف وكتائب، وهذه الصيغة تدلّ على من اتّصف بوصف وثبت له، ويستوي فيها المذكَّر والمؤنّث إذا كان النظر إلى جهة الوصف، وأمّا إذا كان النظر إلى الذات وكان الوصف منظوراً من جهة المرآتيّة والآليّة كما في هذا المورد فيختلفان، وأمّا كلمة «رُبَّ» فقد عدّها النحويّون من حروف الجرّ. والتحقيق أنّ هذه الكلمة أيضاً مأخوذة من المادّة، والأصل الواحد منظور فيها، وهو اسم يدلّ على الزيادة والنماء والكثرة اللازمة للتربية، ومأخوذ عن فعل ماضٍ مجهول أو عن فعلة، ويجرّ ما بعده بالإضافة.
* ﴿رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ﴾ الحجر:2، أي كثير الَّذي يودّه الكافرون، فكلمة ما موصولة أو نكرة موصوفة، كما ذكرناه في شرح العوامل.
فظهر أنّ الأصل الواحد منظور وملحوظ في جميع مشتقّات المادّة، ولا حاجة لنا إلى العدول عن الحقيقة إلى المجاز والاستعارة، ثمّ نتكلَّف في تفسير الكلمات ونحتاج إلى تأويلات ضعيفة.
* ﴿..أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ﴾ يوسف:39، فإنّ من يتّخذ غير اللَّه ربّاً لازم أن يتّخذ أرباباً متفرّقة متعدّدة، كلّ واحد منهم في جهة وفي حاجة، في مال، وفي عنوان، وفي رفع ابتلاء دنيويّ، وفي جهات أخرويّة، وغيرهان كما قال تعالى: ﴿اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً..﴾ التوبة:31، ﴿وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً..﴾ آل عمران:80، ﴿..وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ..﴾ آل عمران:64.
* (التحقيق في كلمات القرآن الكريم ج4/18-23، مختصر)