التفات الشريعة إلى الدنيا تَبَعيّ وآليّ
أجوبة المرجع الدي الراحلني الشيخ اللّنكراني عن أسئلة عقائدية
ـــــــــــــــــــ إعداد: سليمان بيضون ـــــــــــــــــــ
تتوالى الأسئلة العقائدية على علماء مدرسة أهل البيت عليهم السلام، في الأصول والفروع، حيث يجد السائلون رحابة الصدر، وسعة الأفق، وأصالة المعرفة المستندة إلى الأسس العقلية المتينة، والمعارف الدينية الأصيلة.
ما بين أيدينا أسئلة في مواضيع يمكن وصف أكثرها بـ«الولائية»، تصدّى للإجابة عليها سماحة المرجع الديني الراحل الشيخ فاضل اللنكراني قدّس سرّه، نوردها نقلاً عن الموقع الإلكتروني التابع لمكتبه.
س: مقولة أنّ «العقائد قضيّة عقليّة، يجب أن يصل المكلّف إليها مباشرة فيعرف برهانها، ويُذعن له، لا أن يأخذها تقليداً». هل يشمل ذلك جميع العقائد، أم أصولها وأسسها دون تفصيلاتها، وماذا عن التفصيلات المختَلَف فيها؟
ج: أمّا أصل عدم جريان التقليد في أصول الدين فيدلّ عليه -مضافاً إلى الإجماع الذي ادّعاه جماعة بل حُكي إجماع المسلمين عليه- أنّ المطلوب فيها إنّما هو المعرفة واليقين، والتقليد لا يؤثّر في حصول ذلك، لأنّ مرجعه إلى الغير تعبّداً، وحجّية نظر العالم كذلك من دون مطالبة الدليل، بل لو فرض حصول العلم من قول الغير يخرج ذلك عن دائرة التقليد ويصير المستند حينئذٍ هو العلم الحاصل من قوله، لا نفس قول الغير كما هو كذلك في الفرعيّات أيضاً.
ثمّ إنّ مورد ما ذكرنا إنّما هو أصول العقائد وأسسها، ولا يشمل جميع العقائد وتفصيلاتها، فإنّه لا يكون الاعتقاد ومعرفة الإمام عليه السلام -على سبيل المثال- في رتبة معرفة علمه وسعته وضيقه، بل الأوّل هو الرتبة المتقدّمة، ومن الواضح أنّ المرجع في غير الأسس والأصول إنّما هو المنابع الشرعيّة من ظواهر الكتاب والسنّة المعتبرة ودليل العقل.
س: يرجى بيان معنى العبارة الآتية التي وردت في دعاء رجب: «...أسألك بما نطقَ فيهم من مشيّتك فجعلتَهم معادن لكلماتك، وأركاناً لتوحيدك، وآياتك، ومقاماتك التي لا تعطيلَ لها في كلّ مكان، يعرفك بها مَن عرفك، لا فرقَ بينك وبينها إلّا أنّهم عبادُك وخلقك».
ج: محصّل المراد أنّه بعد كونهم عليهم السلام معادنَ لكلماته تبارك وتعالى، وأركاناً لتوحيده وآياته ومقاماته، لا يكون فرق بينهم وبينه تعالى إلّا في العبودية والمخلوقيّة المستلزمة لـ«التبعية»، في مقابل «الأصليّة» الثابتة له تعالى، فهو باعتبار أنّه علّة العِلل ومفيض الوجود، وأنّ أزمّة الأمور كلّها بيده، ويكون له مقام الأصالة والاستقلال في جميع الفضائل الكمالية والصفات الثبوتية والسلبية، وهم باعتبار أنّهم مخلوقون وعبادٌ له، تكون الفضائل المذكورة ثابتة لهم بالتبعيّة وعقيب المشيّة والإرادة، ولذا قد عبّر في الدعاء المذكور بقوله: «فجعلتَهم معادن»، فهذه الخصائص ثابتة باعتبار «الجعل الإلهي والمشيّة الربّانية»، لكن بما أنّ مشيّته تعالى في حقّهم تامّة كاملة، فصاروا من المظاهر الكاملة له تعالى، فلا فرق بينه وبينهم إلاّ في العبوديّة والمخلوقيّة، كالفرق بين الظلّ وذي الظلّ.
س: يرى البعض أنّ معرفة منزلة الأئمّة عليهم السلام ومقاماتهم ومعجزاتهم وأفضليّتهم على الخلق أجمعين، ليس بالأمر المهمّ، وأنّه نوع من الترف الفكري، لأنّ ما يجب الاهتمام به هو تطبيق تعاليمهم والعمل بإرشاداتهم، والاهتمام بالجانب الأوّل يشغل ويؤثّر سلباً في الجانب الثاني... فما هو رأيكم؟
ج: غير خفيّ أنّ الأمر الأوّل يؤكّد الاهتمام بالأمر الثاني، وأنّ معرفة منازل الأئمّة عليهم السلام ومقاماتهم ومعجزاتهم وكراماتهم تؤثّر إيجاباً في التطبيق والعمل بإرشاداتهم، لأنّه كلّما كان الاعتقاد بالمرشِد أشدّ وأكثر، يكون التطبيق والعمل بالإرشاد أسهل وأعمق، فاللازم كِلا الأمرين والاهتمام بالجانبين كما هو الحقّ في البَين، ويدلّ على ما ذكرنا الروايات الواردة في فضائلهم ومناقبهم، فإنّ الظاهر أنّها لا تكون بصدد بيان الفضائل والمناقب في نفسها، بل مضافاً إلى ذلك تكون بصدد التمهيد للاهتمام بأقوالهم وإرشاداتهم، ويؤكّد ما ذكرنا مثلُ حَسَنة زرارة عن أبي جعفر الباقر عليه السلام، قال: «ذروةُ الأمر وسنامُه، ومفتاحُه، وبابُ الأشياء، ورضى الرحمن تبارك وتعالى، الطاعةُ للإمام بعدَ معرفتِه».
س: إذا كان أمير المؤمنين عليه السلام قد منح بعض أصحابه كرُشيد الهجري وسلمان الفارسي علم المنايا والبلايا، فمن باب أولى أنّه عليه السلام كان يحمل هذا العلم، فهو إذاً كان يعلم بأجله ووقت منيّته. على ضوء ذلك: ما هي فضيلة أمير المؤمنين عليه السلام في قضيّة المبيت على فراش النبيّ صلّى الله عليه وآله ليلة الهجرة، وهكذا بروزه لعمرو بن عبد ودّ يوم الخندق، وغير ذلك من مواطن تعرّضه لحتفه؟
ج: الظاهر أنّ لزوم حمل علم المنايا والبلايا المستلزم للعلم بأجَلِه ووقت منيّته، إنّما هو يكون تبعاً للإمامة ومن شؤونها ولوازمها، وقبل الاتّصاف بها لا دليل على ثبوت هذا العلم، وأمير المؤمنين عليه السلام في قضيّة المبيت على فراش النبيّ صلّى الله عليه وآله ليلة الهجرة، وكذا بروزه لعمرو بن عبد ودّ يوم الخندق وغيرهما، لم يبلغ زمان إمامته وولايته، ولذا سأل النبيّ صلّى الله عليه وآله في قصّة المبيت أنّه مع بيتوتتي مكانك هل تبقى نفسك الشريفة سالمة؟ فأجاب بنعم.
وكذا سأل النبيّ في الخطبة الشعبانيّة المعروفة، أنّ وقوع جناية القتل علَيّ هل يكون في حال السلامة من الدين بالإضافة إليّ؟ وبالجملة لا يلزم في الإمام قبل الوصول إلى الإمامة أن يكون عالماً بالمنايا والبلايا، وهذا بخلاف العصمة التي يكون وجه ثبوتها للمعصوم مقتضياً للثبوت، حتّى قبل الوصول إلى مقام الإمامة، لما في عدمها من التوالي الفاسدة.
س: في كتاب (الآداب المعنوية للصلاة) للإمام الخميني قدّس سرّه الفقرة التالية: «إنّ الذين يظنّون أنّ لدعوة النبيّ الخاتم والرسول الهاشميّ صلّى الله عليه وآله جهتين دنيوية وأخروية، ويحسبون هذا فخراً لصاحب الشريعة وكمالاً لنبوّته، فهؤلاء ليس عندهم معرفة عن الدين، وهم عن مقصد النبوّة ودعوتها غافلون. إنّ الدعوة للدنيا خارجة عن مقصد الأنبياء العظام بالكلّية، ويكفي في الدعوة إلى الدنيا حسّ الشهوة والغضب والشيطان الباطن والظاهر، ولا يحتاج إلى بعث الرُّسُل..». في المقابل هناك من العلماء من يرى أنّ الإسلام دين ودنيا، وأنّ النظرة الأولى تنتهي إلى الرهبنة وانتظار الموت وتوقّف عجلة الحياة وتخلّف المسلمين عن ركب الحضارة، خصوصاً وأنّ في الأحكام الشرعية والمفاهيم الإسلاميّة ما يدعو للجمع بينهما، فما هو رأي سماحتكم؟
ج: لا شكّ أنّ الغرض الأصلي والغاية القصوى من بعث الرّسُل وجعل الأحكام الشرعيّة هو العبودية والتوجّه إلى الآخرة التي هي ﴿الحَيَوان﴾ بحسب تعبير القرآن، والدنيا دار ممرّ ومجاز، ولكنّ الوصول إلى هذا الغرض يتوقّف على وجود قوانين ومقرّرات للأعمال الإنسانية في دار الدنيا، وبناءً على ذلك فالتفات الشريعة إلى الدنيا التفات تَبعيّ وآليّ، ومقصود الإمام الراحل رضوان الله تعالى عليه هو هذا، فالأنبياء لا يقصدون الدنيا للناس قصداً استقلالياً. نعم التعلّق بالدنيا وظواهرها مذموم في الشريعة، لكن بين التعلّق والتوجّه إلى أمور الناس في دار الدنيا فرق واضح. وممّا ذكرنا ظهر أنّ كون الغرض الأقصى هي الآخرة لا يستلزم الرهبانية التي ابتدعها المبتدعون مع أنّ الله لم يكتبها عليهم، ذلك لأنّ الرهبانية مرجعها إلى الحياة الفرديّة أوّلاً، وإلى الإعراض عن شؤون الدنيا كلُاًّ، ثانياً، مع أنّ الإسلام معتنٍ بالحياة الاجتماعية وبالاهتمام بشؤون الدنيا من دون أن تكون هي الغرض الأقصى، بل كما في الرواية: «الدنيا مزرعة الآخرة».
من آداب تربية الأولاد
كانت والدة العارف السيّد هاشم الحدّاد رضوان الله عليه، امرأة متفانية في محبّة أهل البيت عليهم السلام، لا سيّما الإمام الحسين صلوات الله عليه.
يقول السيد هاشم عن أحوال والدته الجليلة: «كانت من المؤمنات المواظبات على زيارة عاشوراء يوميّاً، تأتي بها كاملةً (مع اللّعن والسلام مائة مرّة) في تعقيب صلواتها. حتّى أنها تقرأ الزيارة أثناء إعدادها وجبة الفطور لأبنائها، فكانت أنوار هذه الزيارة العظيمة وبركاتها تنتشر على مائدة الأولاد، فينمو في عروقهم الولاء لأهل البيت عليهم السلام، والبراءة من أعدائهم».
وقال رحمه الله إنه بلغ ما بلغ بسببٍ من والدته، فقد قالت له يوماً: «ولدي هاشم، منذ أن حملتُ بك إلى أن وضعتك، وأنا أقرأ عليك بعد كلّ فريضة صبح، زيارة عاشوراء».
(آيات الكمال: ص 103)
أحمد يريد ماءً لا ذهباً
يُروى أنّ المقدّس الشيخ أحمد الأردبيلي رضوان الله تعالى عليه، كان يعمل خيّاطاً، وفي أحد الأيام ارتفع آذان الظهر، فقال في نفسه: أضرب هذه الإبرة ثمّ أقوم للصلاة.
فلمّا وصل إلى المسجد وأراد الوضوء، ألقى بدلوٍ في البئر ليستقي ماءً، وعندما أخرج الدلو رآه مليئاً بالذهب والعملات، فألقى الدنانير في البئر وقال: «إلهي أحمد يريد منك ماءً لا ذهباً»!
فسمع صوتاً يقول له: «عبدي أحمد، إذا كنتَ تريدني ولا تريد الدنيا، فلماذا تأخرتَ عنّي؟!».
(آيات الكمال: ص 62)