الإنابة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الشيخ محمّد علي الساعدي ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
«الإنابة» لغةً من «النَّوب»، وهو رجوعُ الشيء مرّةً بعد أخرى. قال الزمخشريّ: «نابَه أمرٌ نوبةً، وأصابته نوائب ونُوَب ونائبة ونوبة، والخطوب تنوبُه وتتناوبه، وناب إليه نوبةً ومناباً: رجع مرّةً بعد أخرى، والنّحلُ تنوبُ إلى الخلايا، ولذلك سُمّيت النّوب».
في الاصطلاح
الإنابة اصطلاحاً: رجوعٌ إلى الله تبارك اسمه، وهي: «رجوعٌ عن كلّ شيءٍ ممّا سوى الله، والإقبال عليه بالسّرور والقول والفعل، حتّى يكون دائماً في فِكره وطاعته، فهي غاية درجات التوبة وأقصى مراتبها». (الطباطبائي اليزدي، بداية الأخلاق: ص 241)
فهي رجوعٌ إليه تبارك اسمه بالاستغفار والمتاب، والإخلاصِ لوجهه، والالتزام به، والإسراع إليه بالثّبات على سبيله، ومحاربة الشيطان وإغوائه ووَساوسه، عن طريق الإعراض والنسيان لمكائده.
والمُنيب: هو العبدُ الراجعُ إلى خالقه سريعاً.
الإنابة في القرآن الكريم
ورد ذِكرُ «الإنابة» في خمسة عشر موضعاً من القرآن الكريم، بمعانٍ متعدّدة، أبرزها ورودها في سياقٍ يُفيد أنها غاية درجات المتّقين.
فقوله تبارك اسمه: ﴿..فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ﴾ [ص:24]، بيان حالة النبيّ داود عليه السلام وإنابته.
ولا شكّ أنّ مفهوم الإنابة في الآية المتقدّمة يختلف عن مفهومها في قوله تعالى: ﴿وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُم مُّنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُم مِّنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ﴾ [الروم:33]، حيث الإنابة فيه لا تتوقّف على الإيمان والإخلاص، بل هي تكشف عن كذب مدّعيها، وعدم وفائه بالعهد بعد النجاة.
والتدبير والنظر في قوله تبارك اسمه: ﴿وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ﴾ [الزمر:54]، ينبئ أنّ «الإنابة» لم تؤخذ بمعناها الحقيقي، أو أنّها ليست الإنابة التامّة لأولياء الله، رغم أنّ هذه الآية الكريمة تشير إلى الإنابة والتسليم.
الفرق بين التوبة والإنابة
ليس المقصود من الفرق بين «التوبة» و«الإنابة» هو الفرق اللّغوي أو الاصطلاحي، بقدر ما هو فرقٌ من حيث مقامات السالك، ودرجات سيره إلى الله تبارك وتعالى؛ لأنّ تنقّل العبد من مقامٍ إلى مقام، هو في الحقيقة: صعودٌ وترقٍّ في سفره إلى الله جلّ جلاله.
في (الكافي) الشريف، عن الإمام أبي عبد الله الصادق عليه السلام، قال: «إذا تابَ العبدُ توبةً نَصوحاً، أحبّه الله، فسترَ عليه في الدّنيا.... يُنسي ملَكَه ما كتبَ عليه من الذّنوب، ويُوحي إلى جوارحِه: اكتُمي عليه ذنوبَه، ويُوحي إلى بقاع الأرض: اكتُمي ما كانَ يعملُ عليكِ من الذّنوب، فيَلقى اللهَ حينَ يلقاه وليس شيءٌ يشهدُ عليه بشيءٍ من الذّنوب».
والحديث يكشف لنا حقيقةَ التوبة النصوح، التي تؤهّل الإنسانَ السالك لبلوغ «درجة الإنابة»، التي هي -بلا شكّ- درجة ومنزلة تختلف كلّياً عن منزلة التوبة، فالتوبة هي: «تركُ الذّنْب على أجَلِّ الوجوه، وهو أبلغُ وجوهِ الاعتذار».، كما في (مفردات القرآن) للأصفهاني.
واستحقاقُ «مقام الإنابة» والدخولُ فيها، يحتاج إلى آداب وأعمال حتّى يستحق العابد الوصول إلى مقام أرفع، ودرجة أعلى. ويلخّص المولى النراقي في (جامع السعادات) الفرق بين التوبة والإنابة، بأنّ «الأولى هي الرجوع عن الذنب إلى الله، والثانية هي الرجوع عن المباحات».