سوء الظنّ بالمسلم
منشأه توهُّم الفِطنة والنظر بنور الله!
اِعلم أنه كما يَحرم على الإنسان سوءُ القول في المؤمن، وأن يحدّث غيرَه بلسانه بمساوئ الغير، كذلك يحرم عليه سوءُ الظن وأن يحدِّثَ نفسَه بذلك.
والمراد بسوء الظن المحرّم عقدُ القلب وحُكمه عليه بالسوء من غير يقين. وأمّا الخواطر وحديثُ النفس فهو مَعفوٌّ عنه، كما أن الشكّ أيضاً معفوٌّ عنه، قال الله تعالى: ﴿..اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ..﴾.
فليس لك أن تعتقد في غيرك سوءاً إلا إذا انكشف لك بعيانٍ لا يحتملُ التأويل، وما لم تعلَمه ثمّ وقع في قلبك فالشيطانُ يُلقيه، فينبغي أن تكذّبه فإنه أفسقُ الفسّاق، وقد قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ...﴾، فلا يجوز تصديق إبليس.
ومن هنا جاء في الشَّرع أن مَن علمتَ في فيه رائحةَ الخمر لا يجوز أن تحكمَ عليه بشربها، ولا يحدّه عليه، لإمكان أن يكون تَمضمض به ومَجّه أو حُمل عليه قهراً، وذلك أمرٌ ممكن، فلا يجوز إساءة الظنّ بالمسلم، وقد قال صلّى الله عليه وآله: «إنّ اللهَ تعالى حرّمَ من المسلمِ دمَه ومالَه وأن يُظَنَّ به ظَنُّ السّوء». فينبغي أن تدفعَه عن نفسك، وتقرّر عليها أن حاله عندك مستورٌ كما كان، فإنّ ما رأيته فيه يحتمل الخيرَ والشر.
فإن قلتَ: فبماذا يُعرف عقدُ سوء الظنّ والشكوكُ تختلج، والنفس تحدّث؟ فأقول:
أَمارة عقدُ سوء الظنّ أن يتغيّر القلب معه عمّا كان، فينفرَ عنه نفوراً لم يعهده، ويستثقلَه ويفتر عن مراعاته وتفقُّده وإكرامه والاهتمام بسببه. فهذه أمارات عقد الظنّ وتحقيقه، وقد قال صلّى الله عليه وآله: «ثلاثٌ في المؤمنِ لا يُسْتَحْسَنَّ، وله منهنّ مَخرج، فمخرجُه من سوء الظنّ أن لا يُحقِّقَه..»؛ [لا يرتّب عليه أثراً] في نفسه بعقدٍ ولا فعل، لا في القلب ولا في الجوارح: أما في القلب فبتغيُّره إلى النفرة والكراهة. وفي الجوارح بالعمل بموجبه.
والشيطان قد يقرّر [أي يُملي] على القلب بأدنى مخيّلة مساءةَ الناس، ويُلقي إليه أن هذا من فطنتك وسرعة تنبّهك وذكائك، وأن المؤمنّ ينظرُ بنور الله، وهو على التحقيق ناظرٌ بغرور الشيطان وظُلمته.
فأما إذا أخبرك به عَدْلٌ فآل ظنّك إلى تصديقه كنتَ معذوراً، لأنك لو كذّبتَه لكنتَ جانياً على هذا العَدل، إذا ظننتَ به الكذب، وذلك أيضاً من سوء الظنّ، فلا ينبغي أن تُحسن الظنّ بالواحد وتُسيئ بالآخر.
نعم، ينبغي أن تبحث هل بينهما عداوة ومحاسدة ومقْت، فيتطرّقَ التهمةُ بسببه؟
وقد ردّ الشرعُ شهادةَ العدوّ على عدوّه للتُّهمة، فلك عند ذلك أن تتوقّف في إخباره، وإنْ كان عدلاً، ولا تصدّقه ولا تكذّبه، ولكنْ تقول: «المستور حاله كان في سِتر الله عنّي، وكان أمره محجوباً، وقد بقيَ كما كان لم ينكشفْ لي شيء من أمره».
وقد يكون الرجل ظاهرَ العدالة، ولا محاسدةَ بينه وبين المذكور، ولكنْ يكون من عادته التعرّضُ للناس، وذكر مساويهم، فهذا قد يُظنّ أنه عدلٌ وليس بعَدل، فإنّ المغتابَ فاسق، وإذا كان ذلك من عادته رُدّتْ شهادته، إلا أن الناسَ لكثرة الاعتياد تساهلوا في أمر الغِيبة، ولم يكترثوا بتناول أعراض الخلق.
ومهما خطر لك خاطرُ سوءٍ على مسلم، فينبغي أن تزيدَ في مراعاته وتدعوَ له بالخير، فإن ذلك يغيظُ الشيطان ويدفعه عنك، فلا يُلقي إليك الخاطرَ السّوءَ خيفةً من اشتغالك بالدّعاء والمراعاة.
ومهما عرفتَ هفوةَ مسلمٍ بحجّة، فانصحْهُ في السرّ، ولا يخدعنّك الشيطان فيدعوك إلى اغتيابه، وإذا وعظتَه فلا تَعِظْهُ وأنت مسرورٌ باطّلاعك على نقْصِه لينظرَ إليك بعين التعظيم، وتنظرَ إليه بعين الاستصغار، وترتفعَ عليه بدلالة الوعظ، وَلْيَكُنْ قصدُك تخليصَه من الإثم وأنت حزينٌ كما تحزنُ على نفسك إذا دخلَ عليك نقصان، وينبغي أن يكون تركُه ذلك من غير نصيحتِك أحبَّ إليك من تركِه بالنصيحة، وإذا أنت فعلتَ ذلك كنت جمعتَ بين أجر الوعظ وأجرِ الغمِّ بمصيبته، وأجرِ الإعانة له على دينه.
ومن ثمرات سوء الظنّ التجسّس، فإنّ القلب لا يقنع بالظنّ ويطلبُ التحقيق، فيشتغل بالتجسّس، وهو أيضاً منهيٌّ عنه، قال الله تعالى: ﴿.. وَلَا تَجَسَّسُوا..﴾. فالغِيبة وسوءُ الظنّ والتجسّسُ منهيٌّ عنها في آيةٍ واحدة.
ومعنى التجسّس أنْ لا تتركَ عبادَ الله تحت سِتر الله، فتتوصّلَ إلى الاطّلاع وهتْكِ السّتر، حتى ينكشفَ لك ما لو كان مستوراً عنك، لكانَ أسلمَ لقلبك ودينك.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* (كشف الريبة للشهيد الثاني زين الدين الجُبعي العاملي: ص 20 فما بعد؛ وانظر: بحار الأنوار: 72/200 - 202)