بين المُناظرة والمُجادلة
رؤية قرآنيّة
ـــــ د. محمد البشير الهاشمي* ـــــ
المناظرة مُشتقَّة من النّظر على معنى الإبصار، والمُراد هو النّظر بالبصيرة بغرَضِ استجلاءِ الصّواب وإحقاق الحقّ، طِبقاً لقواعد منطِقيّة، تُفضي إليه بين النُّظراء. ولمّا كانت المُناظرة هذه تهدُفُ الى إدراك الحقيقة، وكان بلوغها يُحَتَّمُ الإلتِزام بها، فإنّ ذلك يُبَوَّئها درجةً أشرف من الجدل. |
بديهيٌّ أنّ المُجادِلين لا يتقصّدون من عملية الجدل استِقطاب الحقّ واستصوابه، أو ترجيح ما يقوم به دليل من عقل، أو منهما معاً لاعتباره أو الأخذ به، وإنّما يُثيرونه جدالةً وعلى سبيل المُنازعة والمُبالغة، بل من أجل دحض الحقّ، كما قال تعالى: ﴿..ويُجادل الّذين كفروا بالباطل ليدّحِضوا به الحقّ..﴾ الكهف:56.
والرّبط في الآية الآنفة، بين الكُفرِ والجِدالِ ربطٌ واقعيٌّ حكيمٌ لاتَّفاقهما في معنى الجُحود والتّغطية والطّمس لمعالِمِ الحقّ وحجْبِها عن النظّار، ولو استبانَ دليلُها وقامت آياتُها. وعلى هذا، يكونُ الجدلُ مذموماً منبوذاً في الشّرع، لانطِوائِهِ على إصرارٍ على الباطِلِ وارتِكازِهِ على الهَوى؛ أو بتعبيرٍ آخرٍ، لقيامِهِ على الذّاتيّة المُفرطة والتّعصُّب المُقيت بهدف الطّعن والمثالبة والمخاصمة لا غير. لذلك ما عاب القرآنُ الكريم على الجدليّين إلّا جدالَهم الفجّ بغير علمٍ، وإعراضهم بغير سُلطانٍ، وعزوفهِم عن طلبِ الحقَّ مُكابرة وإمعاناً في الضّلال والمُغالطة. والى ذلك تُشير الآية الكريمة: ﴿إنّ الذين يُجادلون في آيات الله بغير سُلطانٍ أتاهُم إنّ في صدورهم إلاّ كبر..﴾ غافر:56.
وفضلاً عن أنّ الجدل منزعٌ طبيعيٌّ في الإنسان، إلّا أنّه قد يشتطُّ به إذا كان مقصوداً لذاته، أو كان يُبتَغى من ورائه مجرّد النّقض والمُشاقَقَة : ﴿..وكان الإنسان أكثر شيء جدلاً﴾ الكهف:54.
فالجّدل هنا، نقيضٌ للإيمان وانحيازٌ للباطل؛ بل هو موقفٌ نقيضٌ يتعارضُ مع اليقين الاعتِقادي..إنّه الشّكُّ النّاظِرُ في النّقائضِ والحقائقِ، وقد يتحوّلُ الى أداةٍ في الصَّراع الفكري والعَقَدي إذا كانت تحرّكه نوازعُ الخصومة المُفتَقِرة الى العقلِ والرّصانة والحِكمةِ والتّدبُّرِ: ﴿..ما ضربوه لك إلّا جدلاً بل هم قومٌ خصمون﴾ الزخرف:58.
ولمّا كان الجدالُ من طبيعة الإنسان –وما جاء الإسلام ليُناقِض الفِطرة، وإنّما جاء لترشيدها وتوجيهها– لم يتركه القرآن الكريم ينشأُ عن ترفٍ ذهنيً طلباً للغرور الذّاتيّ والزّهو بالتّبكيت والإفحام، إبرازاً للطّاقات الكلاميّة وإخضاعاً للفكرة الى متاهاتٍ فلسفيّةٍ محضة، أو تدريباً على صناعة اللّف والدّوران، بل إنّ القرآن الكريم يُحذَّرُنا من الإنحرافِ بالجّدل الى غير وظيفتِه الحقيقيّة، بحيث يصبح من إملاء الباطل ووحي الشّيطان، أو قد ينتَهي به العدول عن الحقّ الى ركوب متن الخيانة: ﴿ولا تُجادِل عن الّذين يختانون أنفُسَهُم إنّ الله لا يُحبُّ من كان خوّاناً أثيماً﴾ النساء:107.
في مقابل ذلك، نجد مميّزات الجدل القرآني، وهي تُمنهج للمُجادَلة بالّتي هي أحسن في ضوءٍ من مسلك الأنبياء، وعلى أساسٍ من الحوار الهادىء المُثمِر: ﴿ادْعُ الى سبيلِ ربَّك بالحِكمة والموعظةِ الحسنة وجادِلهُم بالّتي هي أحسن..﴾ النحل:125.
وواضحٌ أنّ الجدال البنّاء، بهذه الصّورة المُشرِقة، علميٌّ في مبناه، سِلمِيٌّ في مُنتهاه، لا تلفيقٌ فيه ولا تزوير، وبهذه المُرتكزات يُتاح لنا مدخلٌ الى تقصّي ماهيّة الحوار تحديداً، فالحوار مُناظرةٌ حسنة وجدلٌ إيجابيٌّ بنّاءٌ خالٍ من عنصر التّحدي وإرادة الصّراع والتّيه..تُفضي آدابُه الى التّجاوب كما في الأصل اللّغوي للتّحاور، سيّما إذا كان كلّ طرف محاوِر بعيدَ الغور أي عاقلاً.
فهو إذاً، بهذه المثابة تفتّحٌ على الآخر، وليس بحال إلغاءً للغير، ما دامت مجتنباته تلك محذورة. ثمّ إنّ بائتِلاف التّجاوب، ، سوف تؤُول نتائجه الى التّقارب والتّواصل في حيلولة من دون أن ينقلِب مشروع اختلاف التّنوّع الى رهج الخلاف، أو أن تُصبِح منازع الرّؤى والمشارب ذريعة لنزاعات عدائيّة قاتلة.
وبهذا يتأكّد أنّ الحِوار أوسع مدلولاً من الجدل في طرح الفكرة أو المبدأ، سيّما ما تعلّق منهما بقضايا الإسلام واتّخاذ الموقف العلمي منها على جبهتين أساسيّتيْن:
جبهة الدّفاع ضدّ الفهم السيَّئ للإسلام نتيجةً للمُمارسات الفكريّة الخاطِئة أو العرض الخاطئ القلِق، وجبهة الدّفاع ضدّ التّحديات الّتي يُثيرها الآخرون عن نظرة الإسلام وحلوله... في غمار مستجدّات العصر ومعكّراته أيضاً.
* باحث وأكاديمي من الجزائر