الحوار في الإسلام
الدّور والمجالات
ـــــ الشيخ محمد علي التسخيري* ـــــ
الرؤية الثقافية الإسلامية رؤية هادية، تنطلق من مرجعية مقدّسة للحياة الإسلامية تُعطيها شكلها ومضمونها المتميّزين. وتستبطن هذه الرؤية مُجمل أُسس عملية التغيير الإجتماعي الشامل؛ فهي الإطار الذي يجمع في داخله مختلف مجالات التغيير. |
مهما اختلف علماء الإجتماع والنفس والأنثربولوجيا والإعلام في تحديد مفهوم الرؤية الثقافية، فإنّهم يتفقون على دورها الأساسي في رسم تفاصيل حياة المجتمع والفرد وتحدّي أنماطها، أي أنّها بكلمة أخرى: العنصر المركّب الذي يحدّد الأفكار والسلوك والظواهر الاجتماعية. ويعدّها الأمام الخميني قدّس سرّه «المصنع الذي يصنع الإنسان» و«طريق إصلاح المجتمع»، أو أنّها -كما يقول مالك بن نبي- الدستور الذي تتطلّبه الحياة العامة، بجميع ما فيها من ضروب التفكير والتنوّع الإجتماعي.
وهنا يأتي الحوار ليُعطي للإختلاف - التنوّع بُعداً إنسانياً يضعه في شكله الطبيعي، ولا يسمح له بالتحوّل إلى طاقة تدميرية، بل إنّ الحوار يخفض من مستوى سلبيّات الإختلاف، ويرفع من مستوى إيجابيّاته، ليكون الإختلاف في هذا الإطار رحمةً وخيراً، ودافعاً للإصلاح والمراجعة المستمرّة. وهذا البُعد يمنح الحوار مضموناً مصيريّاً وموقعاً استراتيجيّاً في استمرار الحياة، وإبقاء الجنس البشري بمستوى ما حباه الله تعالى من عقل وقدرة على التفكير والإختيار.
إنّ الحوار أداة للكشف عن الحقائق والأشياء الخفيّة، ومن خلاله تتمّ الإجابة على كثير من علامات الإستفهام والإشكاليات العالقة في الذهن، أو تزيد من القناعات الذاتية، كما يمكن من خلاله كشف الباطل ودحضه، وكشف مؤثّرات ودلائل بطلانه.
الحوار قيمة حضاريّة
وبشكلٍ مجمل، فإنّ الحوار ينضج الأفكار والقرارات؛ ففي الجانب الفكري والثقافي -مثلاً- ينمَّي الحوار الأفكار ويعمّقُها، ويشذَّبها ممّا يعلق بها من انحراف أو جمود أو شوائب، كما ويحرّك العقل باتّجاه الإبداع والتجديد والتحرّر، في الحدود التي تفرضها مرجعيّة الإختلاف.
وفي الجانب السياسي - الإجتماعي، يلعب الحوار الدور نفسه في تنضيج القرار الإجتماعي، والسياسي، وإشعار الآخرين بالمسؤولية وأهمية الموقع الذي يحتلّونه، بل إنّ بعض الأنماط تعدّ في دائرة المسلمين لوناً من ألوان الشورى.
وبالتالي، فإنّ الحوار في الإسلام يعبّر عن قيمة حضارية؛ لأنّه أسلوب الأنبياء في التبليغ والدعوة. فقد انتشر الإسلام بالحوار والوعظ والمحاجّة والقول الحكيم، والذي أوصله إلى أقاصي الدنيا، ولا سيّما أفريقيا وشرق آسيا وأميركا، هو الحوار. هذه البلدان التي يقطنها اليوم مئات الملايين من الناس، دخلت الإسلام بالحوار، فالإسلام هو دين الحجّة ودحض الباطل بأسلوب الحكمة: ﴿ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن..﴾ النحل:125.
ولا بد من الإشارة هنا إلى أنّ الحوار ليس الإستراتيجية الوحيدة في نشر الدين والدعوة والتبليغ، رغم أنّه إستراتيجية أساسية، ورغم أنّه موقف يتّخذه المسلم أساساً في الحركة، إلّا أنّ الإستراتيجية تتغيّر وفق موقف الطرف الآخر.
الحوار بحسب الموضوع
هذا وينقسم الحوار على أساس معيار المادة أو الموضوع إلى:
1- حوار علمي (فقهي، عقائدي، أو مختلف العلوم الإسلامية والإنسانية الإجتماعية أو البحتة والتطبيقية).
2- حوار سياسي (ما يرتبط بالشأن السياسي العملي أو النظري).
3- حوار فكري، ثقافي، إجتماعي وغيرها.
ولكلٍّ من هذه الأصناف أساليبه الفنيّة، وآدابه، وقواعده ومنهجه، وبالتالي فإنّ القِيم العلمية والأسلوبية تختلف إلى حدٍ ما بينها. ولكنّ القيم الدينية والأخلاقية والإنسانية تبقى قاعدة مشتركة لها جميعاً. وقد ركزَّت المرجعيّة الإسلاميّة من خلال النصوص على هذه القيم، وفصّلها وشرحها الفقهاءُ وعلماءُ الكلام والأخلاق، كلٌّ من زاويته ومدخله العلمي. ومع التطوّر الهائل دخلت معادلات قيمية جديدة في صياغاتها، وليست جديدة في أصولها، وهي ممّا ينبغي اكتشافه والتُعرّف عليه.
* رئيس «المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية». من محاضرة له بعنوان: «التنمية الثقافية في العالم الإسلامي وتحدّيات المستقبل»