«نسيم السَّحَر» ونصٌّ «للنّهرواني»
مصدران جديدان على سيرتَي الشّهيدين
_______الشيخ د. جعفر المهاجر*______
يتناول هذا المقال تعريفاً بمصدرَين اكتشفهما المحقّق الدكتور الشيخ جعفر المهاجر في سياق بحثه على مصادر جديدة تتناول سيرة الشهيد الأوّل شمس الدين محمّد بن مكّي الجزّيني العاملي (مق: 786 للهجرة) والشهيد الثاني زين الدين الجُبعي العاملي (مق: 965 للهجرة). |
إنَّ السيرة الحافلة لكلٍّ من الشهيدَين، وخصوصاً قتلتهما الفاجعة، تختبئ تحت كومةٍ من الأسرار، التي يكتشفها الباحث في الأسئلة التي لا يجد عليها جواباً. إنّهما حَدَثان كبيران بكلّ المعاني، ومع ذلك فإنّ المعلومات عنهما متناثرة، بحيث أنّ وقوف الباحث عليهما متوقّف إلى حدٍّ كبير على الحظّ، ذلك لأنّ المصادر الشيعيّة المحلِّية ضعيفةٌ جداً في هذا النّطاق، بسبب ضعف اتّصالها بالسُّلطة وأجهزتها، وهي التي ارتكَبَت الجريمتين.
لكنّ انبعاث الإهتمام بالسيرتَين، بفضل أبحاثنا المُتوالية عليهما خلال ثلاثين سنة تقريباً، وضعهما في دائرة الإهتمام. الأمر الذي كان سبباً في اكتشاف مصدرَين في غاية الأهميّة، ألقيا ضوءاً جديداً على بعض المعالم المجهولة من سيرتهما.
النَّصُّ الأوّل
مخطوطة (مختصر نسيم السّحر) المحفوظ أصلها في «مكتبة مدرسة السيّد البروجردي رحمه الله» في «النجف» برقم (8/399)، لمحمّد مكّي بن شمس الدين من سلالة الشهيد الأول، الذي كان حيّاً سنة (1169 للهجرة/ 1755 م)، والأصل الذي اختصره هو (نسيم السّحر) لمحمّد بن علي بن الوحيد البتدّيني، نسبةً إلى «بتدّين اللّقش» المجاورة لـ «جزّين»، وهو من تلاميذ الشهيد. كان مجهولاً قبل اكتشاف المخطوطة، والظاهر أنّها نسخة الأصل بخطِّ صاحبها. وهي من ثماني ورقات، ضاع قسمٌ من آخرها.
يُمكن قسمة المخطوطة موضوعيّاً إلى قسمين:
في القسم الأوّل: يبدو الشهيد أشبه بأبطال القصص الشعبيّة، بطلٌ تحرّكه نوازع خيّرة، قوامها طلب الخير للناس، وسلاحه معرفةٌ لا حدود لها، واستعدادٌ للتّضحية طلباً لرضى الله سبحانه، في مقابل أعداءٍ تُحرّكهم نوازع شرّيرة، هم «اليالوشي» و«ابن يحيى» و«القاضي ابن جماعة»، وهو دائماً ينتصر عليهم بالحجّة البالغة، أو بالتمكّن من المعارف السريّة، أو بكرامة إلهيّة، ولكنّه أخيراً يفوز بدرجة الشهادة لأنَّ الله تعالى شاء له ذلك فامتَثَل.
من الواضح أنّ هذه الصورة لا تكترث بالمُعطيات التاريخيّة الموضوعيّة التي اضطرب فيها الشهيد، كما أفرزت أضدادها، كما هو الشأن دائماً في كلّ حركة تغييريّة. ولكنّ هذا لا ينتقص أبداً من قيمتها.
هو ذا الجانب غير المرئي من سيرة الشهيد، الذي صبّ جهوده على نقل شعبه من التشيُّع الشامي البسيط، إلى التشيّع الفكري الإجتهادي. وممّا يجدر بنا ذكره في هذا السياق، أنّه نصَّ غير مرّة أنّه بنى في «جزِّين» مدرسة عظيمة على حدِّ قوله. هذه المرّة الوحيدة في كلّ المصادر التي نقع فيها على هذه المعلومة ذات الأهميّة الفائقة، إنّها أوّل مدرسة في العالم الشيعي.
أمّا القسم الثاني: فهو عبارة عن ستّ نقولات -كلّها مفقود- عن ستّة من تلاميذ الشهيد على سيرة شيخهم، ممّا يدلّ على اهتمام أولئك التلاميذ بكتابة سيرته قدّس سرّه.
أوّلهم: محمّد بن علي بن الوحيد البتدّيني، الذي قلنا إنّه صاحب (نسيم السّحر). وقد أورد محمّد مكّي المذكور النقل عنه تحت عنوان: «ما ذكره الشيخ الأفضل المجيد محمّد بن عليّ بن الوحيد في مجموعته».
ثانيهم: محمّد بن عليّ بن نجدة الكركي (ت: 808 للهجرة/1405 م)، يُسمّيه محمّد بن عليّ النجدي، وهو أقرب تلاميذ الشهيد إليه. وقد ضمّن في مجموعته التي رواها عن شيخه مديحاً له ختمه بالترجمة له.
ثالثهم: الحسن بن سلمان الحلّي (ح: 802 للهجرة/1399 م). وهو أحد اثنَين حلّيَّين التحقا بالشهيد من وطنهما. وعاش معه هذا في «جزّين»، ولم يفارقه إلى أن استُشهد. ذكر شيخه في آخر رسالة ألّفها.
وأمّا النقولات الثلاث البواقي: الأولى لمحمّد بن أحمد الموسوي البعلبكي، الذي يصفه بـ «السيّد الجليل النّبيل»، والثانية لحسين بن محمّد الوحيدي البتدّيني، الذي يصفه بـ «الصالح الزاهد العابد»، وهما كرامتَان للشهيد. والثالثة قطعةٌ من إجازة الشهيد لمحمّد بن الخازن الحائري، وهؤلاء الثلاثة لا ذكر لهم في المصادر كافّة.
النصّ الثاني
هو على ثاني الشهيدين، وهو لقطب الدين النهرواني. سطَّره أثناء رحلةٍ له إلى عاصمة الدولة العثمانية، فصادف وجودُه فيها وصول الشهيد الثاني إليها أسيراً، بعد أن قُبِض عليه في حرم الله وأمنِه. وهو يُلقي ضوءاً جديداً على واقعة وملابسات قتله. يقول:
«في ثامن شعبان، أمر الوزير الأعظم بقتل الشيخ زين الدين الجبل عاملي. فأُتي به إلى الديوان ولم يُسأَل عن شيء. وأُمر به إلى الأسقالة. فقُطع رأسه هناك. وفلجوا أخمص رجليه بالسيف. وكان يتشهَّد عند قطع رأسه.
وكان من قصّته أنّه كان بالشام في أيام حسن بك أفندي، وكان مُتّهماً بالرَّفض. فأُخِذ وأُتي به إلى حسن بك، فسأله عن مذهبه فقال إنّه شافعي. وتكلّم معه بكلمات علميّة، فإنّه كان فاضلاً مفنّناً، وترضّى عن الصحابة. وأورد أحاديث شريفة في فضلهم وفي فضل الشيخين.
فأَحسَن إليه الأفندي حسن بك وأطلَقه. فلمّا برز من عنده، قيل للأفندي إنَّ هذا من كبار علماء الرّافضة، وهو مجتهد مذهبهم، وله عدّة كُتب في مذهب الرافضة، فأرسل إليه يتطلّبه فاختفى ولم يظهر. وصار ذلك عقدة في خاطر حسن بك قاضي الشام، وتأسّفَ على خلاصه من يده.
فعُزل عن الشام ووُلِّي قضاء مكّة المشرَّفة، فصادف مجاورة الشيخ زين الدين بمكّة. فأُخبر الأفندي حسن بك بأنّه في مكّة، فأمر بالقبض عليه، فقبض عليه فحبسه. وسعى كثيرٌ من الناس في إطلاقه، وبَذَلوا له على ذلك مالاً. فتسلّم المال وقال: هذا من عند مَن؟ فقيل له: من عند الخواجا محمّد مكّي. فطُلب وسُئل عن ذلك فأنكر أن يكون المال له. فذهب المال، وعجز الناس عن استخلاصه. فأرسله إلى مصر مقيّداً مع حسين بك كتخدا جُدّة، وأمره أن يوصله إلى الوزير الأعظم. فأَوصله إليه، فأَمر بقتله على هذه الصورة.
وكان رجلاً ظاهرُه في غاية الإستقامة، والله تعالى أعلم بباطنه. وكانت له فضيلةً تامّةً وحسن محاورة ولطف مكالمة. تجاوز الله تعالى عنه ومحا سيّئاته. فإن السيف محَّاء الذنوب».
النصّ غنيّ جداً. وتحليله وكشف خفاياه يقتضي صفحاتٍ طوالاً. وسنعالجه إن شاء الله في كتابٍ على سيرة الشهيد.
وعلى كلِّ حال، فأنا لم أرمِ من إيراد النصَّين الى أكثر من إلفات النظر إليهما، والتنويه بأهميّتهما بقدر ما يتّسع له المقام.
* مؤرِّخ ومفكِّر إسلامي.